الاثنين، 12 سبتمبر 2011

الثابت والمتغير.. حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل .. من الأدلة النقلية الواردة في المسألة(6)*

المبحث الثاني: الأدلة النقلية الواردة في المسألة.

الدليل القرآني الأبرز في الاستدلال به في هذه المسألة هو قول الله تعالى (النساء:٣٤) وقد اتفق العلماء على أن الإنفاق هو مسؤولية الرجل، لكن اختلفوا في ما يقتضيه هذا الإنفاق من حقوق للزوج، ومجال الاختلاف يستنبط من كلامهم وتوجيهاتهم للأدلة في العلاقة بين الزوجين.

أما الأحاديث الشريفة فاستدل بالأحاديث التي تؤكد حق الزوج في منع زوجته من الخروج من المنزل:

الحديث الأول:

الحديث الذي رواه الإمام ابن عبد البر في التمهيد بسنده عن ابن عمر قال: أتت امرأة النبي r فقالت: يا نبي الله، ما حق الزوج على زوجته ؟ قال: " لا تصوم إلا بإذنه إلا الفريضة ، فإن فعلت أثمت ولم يقبل منها." قالت: يا رسول الله ماحق الزوج على زوجته ؟ قال: " لا تَصَدَّق بشيء من بيته إلا بإذنه " قال: " فإن فعلت كان له الأجر وعليها الوزر." قالت: يا رسول الله: ما حق الزوج على زوجته ؟ قال: " لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الله، وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب، حتى تتوب أو تراجع " قلت: يا رسول الله وإن كان لها ظالما ؟ قال: " وإن كان لها ظالما " قالت: والذي بعثك بالحق ، لا يملك علي أمري أحد بعدها أبدا ما بقيت"[1].

وهذا الحديث في سنده راو اسمه ليث قال الإمام الذهبي إن حديث ليث لا يستدل به في الواجبات[2].

وذكر هذا الحديث الإمام ابن عبد البر في التمهيد،[3] وأورده الإمام العمراني من الشافعية في كتابه البيان في معرض الاستدلال على حق الزوج في منع زوجته من الخروج ولم يعلّق عليه[4]رغم أن الحديث فيه عبارة لم يأخذ بها الشافعية رغم أنهم - وفقا لظاهر مذهبهم -أكثر من وسّع سلطة الزوج في تقييد خروج زوجته ، والعبارة هي: ما روي عنه r أنه ليس للزوجة الخروج من بيت زوجها وإن كان لها ظالما، مع كون المقرر عند الشافعية كما تقدّم أن الزوج لو هدد زوجته بضرب لا حق له فيه، فلها أن تخرج بلا إذنه، فهل حمل الإمام العمراني الظلم هنا على ما دون الضرب؟ وهل الضرب وحده هو ما تحصل به النكاية بالمرأة ليخصص الشافعية الظلم في الحديث بما سوى الضرب. أما المالكية فهم لا يرون أن للزوج حق في منع زوجته من الخروج لزيارة أبويها بتفصيل تقدّم بيانه، فهم إذن خصصوا الظلم الوارد في الحديث بما سوى الظلم المتعلق بمنعها من زيارة والديها، وهذا التخصيص عند الفريقين اللذين يمثلان طرفي المسألة، يجعل الباحث يقف أمام نص ظني يتعارض ظاهره مع ما أرسته الشريعة من قطعيات الأمر بالعدل، والنهي عن الظلم، إلا أن يحمل الظلم في الحديث على الشدة في المعاملة التي لا تخل بالعدل وهو محمل بعيد لمخالفته لظاهر لفظ الحديث. والله أعلم.

ثم إني وجدت أن الإمام المناوي الشافعي في فيض القدير حمل جملة :" وإن كان لها ظالما" على المبالغة في الزجر تأكيدا على تعظيم حق الزوج، قال : "وهذا كأنه لمزيد الزجر والتهويل عليها فلو ظلمها حقا من حقوقها ولم يمكن التوصل إليه إلا بالحاكم فلها الخروج بغير إذنه أو كان بجوار البيت نحو سُرّاق أو فساق يريدون الفجور بها فمنعها من الخروج منه فلها الخروج"[5].

لكن الإمام ابن حزم في المُحلّى يقول : " ليث ضعيف وحاش لله أن يبيح رسول الله صلى الله عليه وسلم الظلم وهي زيادة موضوعة ليست لليث بلا شك." [6]اهـ.

إذن : الجملة محل الإشكال في الحديث وهي: " وإن كان لها ظالما" هي بين التأويل، والرد. أما ما قاله الشيخ محمد عوّامة تعليقا على كلام الإمام ابن حزم من أنه بشيء من التأمل يظهر أنه لا إباحة في الحديث- لو صحّ- لشيء من الظلم، غاية ما فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمح للزوجة بعصيان زوجها حتى لو كان ظالما لها، وهذا مثال على تسرّع ابن حزم.[7]اهـ كلام الشيخ محمد عوّامة فالجواب على ما قاله فضيلته هو أن رد الظلم حق شرعي، وتشريع الاستسلام للظلم هو في جوهره تشريع للظلم ، وتمكين للظالم من التمادي في غيّه، فليس في كلام الإمام ابن حزم هنا تسرّع بل فقه وتأكيد على أن قطعيات الشريعة هي المحكمات التي يرد بها كل ما يخالفها. والله أعلم.

الحديث الثاني : استدل به الشافعية والحنابلة:

عن أنس بن مالك عن النبي rأن رجلا خرج وأمر امرأته أن لا تخرج من بيتها، وكان أبوها في أسفل الدار، وكانت في أعلاه، فمرض أبوها فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. فقال: أطيعي زوجك فمات أبوها فأرسل إليها النبي r: إن الله قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها[8].

وهذا الحديث فيه راو[9] ضعيف، ومع ذلك استدل به الشافعية والحنابلة على أن للزوج منع زوجته من زيارة والديها، أما الحنفية والمالكية فلم يستدلوا به.

من الأدلة التي تفيد تقييد سلطة الزوج في منع زوجته من الخروج من المنزل:

الدليل الأول:

قوله تعالى: ﭚﭛ (الطلاق:٦) . وجه الدلالة: هو أن الله تعالى نهى الزوج أن يضرّ زوجته، وأن يضيّق عليها، فدلّ ذلك على أن سلطة الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل مقيّدة بعدم الإضرار بالزوجة.

الدليل الثاني:

قوله r: ": " قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن"[10] . والإذن هنا يفيد الإباحة[11]، فحق الزوج مقيّد بما لا يحرم الزوجة من حقها في أن تعيش حياتها بلا حرج. والحرج حاصل إذا ما حرمت من أن تخرج لأجل تلبية احتياجاتها الحياتية.

الدليل الثالث:

قوله r: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله." [12]

وهذا الحديث استدل به من قال بتقييد سلطة الزوج في منع زوجته من الخروج من المنزل ، ووجه الدلالة : أن حق الزوج في منع زوجته من الخروج من المنزل ليس حقا مطلقا، فليس له أن يمنع زوجته من الخروج إلى المسجد وآكد من ذلك أنه ليس للزوج أن يمنع زوجته من الخروج لزيارة أرحامها وكل ما فيه فضل أو إقامة سنة[13].

كما استدل بهذا من قال بأن للزوج حق في تقييد خروج زوجته ووجه الدلالة بالنسبة للاستدلال الثاني كما ورد في طرح التثريب: " ... قيل إن فيه دليلا على أن للزوج منع امرأته من الخروج إلا بإذنه قال هذا إن أخذ من تخصيص النهي بالخروج إلى المساجد فإن ذلك يقتضي بطريق المفهوم جواز المنع في غير المساجد ، فقد يعترض عليه بأن هذا تخصيص للحكم باللقب ومفهوم اللقب[14] ضعيف عند أهل الأصول. قال: ويمكن أن يقال في هذا: إن منع الرجال للنساء من الخروج مشهور معلوم وإنما علق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز على المنع المستمر المعلوم فبقى ما عداه على المنع المعلوم، وعلى هذا فلا يكون منع الرجل خروج امرأته لغير المسجد مأخوذا من تقييد الحكم بالمسجد." [15].

الدليل الرابع:

قوله r: " لا يدخل الجنة قاطع "[16] أي قاطع رحم.

وهذا الدليل استدل به الإمام ابن الهمام في فتح القدير على أنه ليس للزوج أن يمنع زوجته من الكلام مع والديها[17]ويصلح للاستدلال لمعتمد الحنفية من أن للزوجة زيارة والديها بالتفصيل الذي تم تناوله، ويصلح للاستدلال لمذهب المالكية أيضا في حق الزوجة في زيارة والديها.

* كافة الحقوق محفوظة


[1] رواه الإمام ابن عبد البر بسنده في التمهيد مج1/ ص 142. ورواه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب النكاح مج 9/ ص 321، 322 قال : " حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن ليث، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عمر، قال : ..." وذكر الحديث .اهـ

[2] انظر: سير أعلام النبلاء مج2/ ص 224، 225. قال الإمام الذهبي في المرجع المذكور :" ومن مناكيره ...أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن ليث، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عمر: (وذكر الحديث) الحديث رواه جرير، عن ليث، عن عطاء نفسه، عن ابن عمر. قلت: بعض الأئمة يحسّن لليث، ولا يبلغ حديثه مرتبة الحسن، بل عداده في مرتبة الضعيف المقارب. فيُروى في الشواهد والاعتبار، وفي الرغائب والفضائل، أما في الواجبات فلا ." انتهى كلام الإمام الذهبي. والحديث رواه الإمام ابن أبي شيبة في مصنّفه في كتاب النكاح مج9/ ص 321، 322 .

[3] انظر: التمهيد مج 1/ ص 142.

[4] البيان في مذهب الإمام الشافعي مج9/ ص 500.

[5] فيض القدير مج 3/ ص 391.

[6] المحلّى مج10 / 332 (2016) .

[7] انظر: تحقيق الشيخ محمد عوامة لمصنف الإمام ابن أبي شيبة / كتاب النكاح / مج9/ ص 321.

[8] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد مج4/ ص 313

[9] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد مج4/ ص 313

[10] صحيح البخاري المطبوع مع النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح ص 203.

[11] انظر : النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح ص 203، 204.

[12] صحيح مسلم المطبوع مع إكمال إكمال المعلّم مج2/ ص 333، التمهيد مج10/ ص153، ورواه البخاري بلفظ: "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن." فتح الباري/ كتاب الأذان/ باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس/ مج2/ ص 620.

[13] انظر : التمهيد مج10/ ص 155

[14] مفهوم اللقب : هو تعليق الحكم على اللقب وهو الاسم الذي عُبّر به عن الذات علما كان أو اسم جنس أو اسم جمع . وجمهور الأصوليين على عدم الاحتجاج به لأن ذكر اللقب إنما يكون لتعيين من يسند إليه الحكم ولا يستفاد منه شيء من وراء ذلك إلا بقرينة . ( انظر: تنقيح الفصول ص 48،غاية الوصول شرح لب الأصول ص 66، أصول التشريع الإسلامي ص 284).

[15] طرح التثريب مج 1/ ص 280.

[16] صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري بشرح صحيح البخاري/كتاب الأدب / باب إثم القاطع /مج12/ص21.

[17] شرح فتح القدير مج4/ ص 398.

ليست هناك تعليقات: