الاثنين، 12 سبتمبر 2011

الثابت والمتغير ..حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل .. مذهب المالكية (3) *

المطلب الثاني: مذهب المالكية في حق الزوج في منع زوجته من الخروج من المنزل

اتفق المالكية على أن حق الزوج في أن تطيعه زوجته في عدم خروجها من المنزل إلا بإذنه ليس حقا مطلقا ، هو حق تقيده أدلة أخرى ، جمعا بينها وبين الأدلة التي أثبتت هذا الحق.

لكنهم اختلفوا في توجيه الأدلة الواردة في مسألة حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل. كما أننا نجد أن خروج المرأة من منزلها متزوجة كانت أم غير متزوجة هو محل نظر عند المالكية من حيث إن الإكثار من الخروج من المنزل تترتب عليه مفاسد ظاهرة، ويجيء حق الزوج في المنع من جهة أن له منعها من الخروج من المنزل إذا كان هذا الخروج لا مصلحة لها فيه تعادل المصلحة في عدم خروجها من المنزل.

فالمالكية يعدون حق الزوج في التزام زوجته بوقتها له، هو حق لا يعطل عليها مصالحها التي بها تستقيم حياتها من صلة الرحم، أو سوى ذلك مما يقدّر بقدره.

ومن ثم نجد أنهم يقررون أن حق الزوج في المنع إنما هو فيما لا ينكر له الخروج[1]. ويقررون أنه ليس على المرأة واجبا أن تستأذن زوجها إلا فيما له أن يمنعها منه[2].

وهنا ملمح مهم وهو أن الأحكام الفقهية الواردة في كتبهم هي نتاج عصرهم، وعاداتهم، التي من خلالها يوجهون الأدلة الواردة في المسألة ، وبالتالي فإنه من الخطأ أن نقول على وجه القطع إن مذهب المالكية في هذه المسألة في عصرنا هو ما قررته الكتب التي ألفت منذ قرن أو يزيد، فيعاد تكرار ما ورد في هذه الكتب مجردا عن السياقات الاجتماعية التي وجهت نظرة الفقيه ودراسته للأدلة في هذه المسألة التي يعد اختلاف الأحوال عاملا مهما في تقريرها.

انظر إلى تعليق الإمام الأبي على زجر سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه لابن له، ذلك أن سيدنا ابن عمر روى قوله r: " لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل" فقال ابن له – أي لعبد الله بن عمر-: "والله لنمنعهن". وفي رواية قال: " لا ندعهن يخرجن تتخذونه دغلا[3]". فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط. وقال: "أخبرك عن رسول الله r وتقول: والله لنمنعهن "[4].

قال الإمام الأُبي إن سب سيدنا ابن عمر لابنه هو لشدة ورع سيدنا ابن عمر، وتعظيمه لحرمات الله عز وجل، ولكن الابن لم يقل ما قاله من باب الاعتراض على السنة ، لا سيما إن كان سمع قول السيدة عائشة رضي الله عنها: " لو أن رسول الله r رأى ما أحدث النساء لمنعهن المساجد."[5] وإنما غاية ما ذكر أنه جعل العام في الأشخاص مطلقا في الأحوال، والحكم كذلك.[6]اهـ كلام الإمام الأبي منقولا بتصرف.

فانظر إلى قول الإمام الأبي: "وإنما غاية ما ذكر أنه جعل العام في الأشخاص مطلقا في الأحوال، والحكم كذلك" [7].

لقد سبق بيان هذه القاعدة الأصولية في القسم الأصولي من البحث عند تحرير تعريف المصلحة المرسلة ، والحاصل الذي نستفيده من كلام الإمام الأبي أن الأحاديث الواردة في حق الزوج في تقييد خروج زوجته من منزلها ينظر إليها في ضوء الأحوال المتجددة ، وتقدير المصالح والمفاسد المترتبة على إعطائه الحق في منعها من الخروج أو عدم منعها بما يحقق مصلحة الزوجين معا ، بالمعنى المقرر للمصلحة وهي المحافظة على مقصود الشرع.

مع التنويه أن مقتضى كلام الإمام الأبي أن هذه النظرة للأدلة الواردة في المسألة المراعية للأحوال هي نظرة تتصل بصميم النظر في الدليل ، فليس القول بتوسيع سلطة الزوج في المنع أو تقييدها هو من قبيل النظر في المصالح الطارئة على ما تقتضيه الأدلة اقتضاء أصليا ، وإنما ما تقتضيه الأدلة اقتضاء أصليا هو تحقيق المصلحة المشتركة للزوجين بما يحقق العشرة بالمعروف بينهما ، وبما لا يضر واحدا منهما. والله أعلم

ثم إن الإمام ابن عاشور ذكر كلاما مهما في شرح قوله r: " قد أذن الله لكن أن تخرجن في حوائجكن "[8]

قال: إن هذا النص رخصة في حق أمهات المؤمنين ، وعزيمة في حق نساء المؤمنات، فللمرأة أن تخرج لأجل أمور تحتاج إليها، والمراد بالإذن بالحديث مطلق الإباحة. ورد فضيلته قول من قال إن هذا النص ورد في الخروج إلى أماكن قضاء حاجة الإنسان[9].

ونص ما قاله الإمام ابن عاشور هو:

" باب خروج النساء لحوائجهن.

فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بنت زمعة ليلا فرآها عمر فعرفها ، فقال: إنك والله سودة ما تخفين علينا ، فرجعت إلى النبي r، فذكرت ذلك له وهو في حجرتي يتعشى ، وإن في يده لعَرقا[10] فأنزل الله عليه فرفع عنه وهو يقول: "قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن.".

الحوائج: جمع حاجة، وأصل معنى الحاجة في اللغة ما يحتاج إليه المرء من عمل أو أشياء، وأطلق بوجه الكناية على البراز ،فقالوا: ذهب لقضاء الحاجة، وقالوا: حاجة الإنسان، وذلك تكنيا لاستقباح التصريح بالاسم الصريح.

إلا أنه يعرف في الاستعمال أن الحاجة بمعناها الكنائي لم ترد جمعا، فلذلك كان قول النبي r: "أن تخرجن لحوائجكن" ظاهرا في أن المراد به الإذن للنساء في الخروج لأجل أمور يحتجن إليها بمقدار الحاجة.

وذلك أن أزواج رسول الله r أمرن بقوله تعالى: (الأحزاب:٣٣) وهو أمر خاص بهن لا يجب على غيرهن من النساء. وفهم منه عمر رضي الله عنه أنهن يمنعن من الخروج ، فلذلك قال لسودة: " والله ما تخفين علينا " تعريضا بتغيير ذلك عليها...وقصد عمر أن يبلغ النبي r فلما قال رسول الله:" أن تخرجن لحوائجكن" علمن أنهن مرخص لهن في مقدار الحاجة.

وقد حمله البخاري على أن المراد من ضمير النسوة جميع النساء ، فلذلك عمم في الترجمة، فيكون ذلك حكما عاما تقرر للنساء غير أمهات المؤمنين على وجه العزيمة، وأبيح لأمهات المؤمنين على وجه الرخصة ، فيكون المراد بالإذن في الحديث مطلق الإباحة.

ويحتمل أن المقصود بالضمير خصوص أمهات المؤمنين فيكون رخصة لهن، ويكون الإذن مرادا به الإباحة بعد النهي، فيكون الكلام تخصيصا للعموم الملزوم لقوله تعالى: أو بيانا له.

ومن الشارحين من فسر الحوائج بالبراز ، وهذا التفسير باطل من جهة اللغة لما علمت من أن الحاجة المكنى بها عن البراز لم ترد في كلامهم بصيغة الجمع ، وباطل من جهة المعنى، لأن الخروج للبراز لا يتصور توهم تحريمه، لأنه مضطر إليه إذ لم تكن في بيوتهم كنف ...على أنه ليس في طرق هذا الحديث ما يقتضي أن سودة خرجت للبراز ، لأن طريق البراز لا يجلس فيه الناس حتى يرى عمر فيه سودة، ولكن الظاهر أنها خرجت لزيارة أو نحوها، وكان النساء يتوخين الخروج لأمورهن ليلا استقصاء للستر، فأراد عمر بقوله لها أن يحرّم عليهن الخروج للحوائج دون الخروج للبراز." [11]اهـ باختصار يسير.

وقد تقرر في الفصل الثاني من القسم الأصولي عند الكلام على معيار الضرورة والحاجة وهي المسألة الثانية من المبحث السادس،وكذا عند تناول أقسام التغير المرتبط بالمصلحة المرسلة وهي المسألة الخامسة من المبحث السادس: أن تقدير الحاجة يختلف باختلاف الأشخاص والزمان، ويتدخل في تقديرها أيضا النظر إلى مآل الفعل، فقد لا يترتب على ترك فعل ما مفسدة آنية بل مستقبلة ، فكل ذلك يتدخل في تقدير الحاجة.

ويعضد هذا الفهم ، بل ويوسّع آفاقه،الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: " طُلّقت خالتي فأرادت أن تجدّ[12] نخلها فزجرها رجل أن تخرج فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بلى فجدّي نخلك فإنك عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفا."[13] والشاهد من هذا الحديث الشريف أن الرسول صلى الله عليه وسلم ندب المرأة المعتدّة إلى الخروج الذي يثمر معروفا رغم أن حال العدّة هي حال حدّت فيها الشريعة تحركات المرأة، ومع ذلك فإن هذه الحال الاستثنائية كان الخروج فيها غير ممتنع بل مرغّب فيه مادام سببا لفعل المعروف.

والذي يظهر لي – والله أعلم- أن هذا يرفع ما قد يفهم من أن خروج المرأة من بيتها استثناء في حياتها وأن القرار في البيت هو الأصل. وأن الصواب هو أن الأصل في المرأة والرجل معا أن يفعلا الخير، سواء كانت وسيلة حصـول هذا الخير القرار في البيت أو الخروج منه ، وفي ضوء هذا المعنى نفهم الآية الكريمة: ﭽﭾ ﭿ ﮅﮆ (الأحزاب: ٣٣)

مذهب المالكية كما هو مقرر في كتبهم:

المسألة الأولى:

معتمدهم هو أن لها أن تخرج لزيارة والديها وأخيها ويقضى لها بذلك[14] إذا كانت مأمونة شابة أو امرأة مسنة، وهي محمولة على الأمانة حتى يظهر خلافها، وتخرج لذلك كل جمعة مرة[15].

جاء في البيان والتحصيل:

" وسئل مالك عن المرأة يغيب عنها زوجها فيمرض أخوها أو أمها أو أختها فتريد أن تأتيهم تعودهم ولم يأذن لها زوجها حين خرج ؟ قال: لا بأس أن تأتيهم وإن لم يأذن لها حين خرج.

قال محمد بن رشد : وهذا كما قال لأنه لو كان حاضرا فأراد أن يمنعها من ذلك لم يكن ذلك له، فليس على المرأة واجبا أن تستأذن زوجها إلا فيما له أن يمنعها منه ".

المسألة الثانية:

ليس للزوج أن يمنع زوجته من حج الفريضة ، لكن عليها أن تخرج معه أو مع محرم، فإن امتنعا إلا بأجرة ، لزمها أن تدفع أجرة خروج من سيخرج معها إن قدرت عليها. فإن لم تقدر فلها أن تخرج مع رفقة مأمونة[16].

واختلفوا في الرفقة المأمونة هل هي من النساء فقط أم من الرجال فقط أو مجموعهما وهو الأولى والقول الثاني أن الرفقة المأمونة تتكون من رجال ونساء تأمن معهم[17].

المسألة الثالثة:

اختلف كلامهم في حق الزوج في منع زوجته من الخروج إلى المسجد فقد نقل في مواهب الجليل: أن الزوج ليس له أن يمنع زوجته من الخروج إلى المساجد[18].وذهب القاضي عياض إلى أن خروجها إلى المسجد مباح لا مندوب إليه[19]، قال ابن رشد: ولا يقضى به على الزوج[20]، ومفاد ذلك أن الزوج له أن يمنعها من الخروج إلى المسجد.

قال الإمام الأبي في شرحه على صحيح مسلم:" قوله:(لا تمنعوا نساءكم المساجد) (ع)- أي القاضي عياض- هو إباحة لخروجهن وحض على أن لا يُمنعن ودليل أن لا يخرجن إلا بإذن الزوج. قلت-أي الإمام الأبي-: في جعله مباحا نظر لأنه خروج لشهود الجماعة وشهودها سنة أو فرض كفاية إلا أن يقال: إنما هي سنة أو فرض كفاية للرجال ويبعد ، لأن الباجي[21] قال: عدم منعهن من المسجد يحتمل أنه حق لهن يقضى به على الزوج ويحتمل أنه ندب فلو كان مباحا لم يقض به. ونص ابن رشد على أنه لا يقضى به. "[22]اهـ.

وذكر الإمام ابن عبد البر في التمهيد أن علماء السلف لم يختلفوا في أنه يندب للزوج أن لا يمنعها حسبما يراه من الصلاح والخير في ذلك وأن ذلك ليس بواجب عليه.

فتحصّل من كلامهم في المسألة قولان: أحدهما هو أن للزوج منع زوجته من الخروج إلى المسجد ، وهو اختيار ابن رشد في البيان والتحصيل. والثاني: هو أن الزوج ليس له منع زوجته من الخروج إلى المسجد[23].

المسألة الرابعة:

أن للزوج أن يمنع زوجته من الخروج للتجارة، وليس له منعها من مزاولة التجارة في منزلها[24].

تحليل وجهة المالكية في حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل:

الوجهة الأولى:

هي أن حق الزوج على زوجته هو آكد الحقوق عليها ، وهذا الحق لا يوازيه إلا حق الله عز وجل الواجب ، وكما في خروجها لحج الفريضة ، وحق الوالدين ، وحق الأرحام ، وكل حق يحصّل للزوجة مصلحة هي من قبيل الحاجيات ، بدليل أن الزوج ليس له أن يمنع زوجته من مزاولة التجارة في منزلها وإن أدى ذلك إلى اختلاطها بالرجال ما دام هذا الاختلاط لا خلوة فيه ولا ريبة.

جاء في مواهب الجليل: " .... لذات الزوج أن تدخل على نفسها رجالا تشهدهم بغير إذن زوجها وزوجها غائب ولا تمتنع من ذلك لكن لا بد أن يكون معهم محرم منها..."[25] وجاء في مواهب الجليل أيضا :" ... إنه من حقها أن تدخل من تشهده على نفسها بما تريد مما يجب عليها أو يستحب لأنها في ذلك كالرجل ، ولا يمنعها من شيء من ذلك. والاختيار كما قال إنه لا بد من ذي محرمها يكون معهم إن كان زوجها غائبا ، فإن لم يكن فرجال صالحون. اهـ "[26] اهـ النقل من مواهب الجليل.

وجاء في منح الجليل تقييد جواز الشركة بين النساء والرجال بأن تكون المرأة متجالة[27]، أو شابة وبينها وبين الرجال واسطة مأمونة في التجارة، لأن كثرة محادثة الشابة الرجل يخشى منها الفتنة، فإن كان بينهما واسطة فلا بأس. أو كان الرجل والمرأة صالحين مشهورين بالخير والدين والفضل وإلا فلا.[28]

فإذا جمعنا بين إباحتهم لمثل هذا الاختلاط الذي لا خلوة فيه ولا ريبة ولا مظنة معتبرة للمفسدة وبين موقفهم من أصل خروج المرأة من المنزل سواء كانت متزوجة أم غير متزوجة وهو المنع من الإكثار من الخروج لما يترتب على الإكثار من الخروج من مفاسد من حيث افتتان الرجال بهن كما قرره الإمام ابن رشد في البيان والتحصيل[29]،توصلنا إلى النتيجة التي تقررت في مقدمة الكلام على مذهب المالكية وهي:

أن حق الزوج عندهم في منع زوجته من الخروج من المنزل هو لأجل أن المفاسد المترتبة على الإكثار من الخروج من المنزل هي مفاسد ظاهرة.

فإذا تقررت حقيقة مغايرة وهي أن الذي يحمي الرجل والمرأة معا من الفتنة والفساد هو التربية الصالحة، والتنشئة القويمة، وبناء الشخصية بناء متوازنا، والالتزام بما شرعه الله عز وجل طريقا لدرء الفتنة وهو أخلاقيات العفة من غض البصر، وعدم الخضوع بالقول، ونحو ذلك، وأن الجلوس في المنزل قد يكون سببا لمفسدة تعظم مفسدة الخروج منه في عصر تغيرت فيه أساليب الحياة، وصار التواصل متاحا داخل المنزل كما هو خارجه ، فإن النتيجة التي سنتوصل إليها وفقا لقواعدهم هي أن الزوج ليس له منع زوجته من خروج يحقق لها مصلحة تستقيم بها حياتها من خروج إلى العمل أو ما سواه ما دامت لا تضر باستقرار الزوج جنسيا وأسريا واجتماعيا.

والأمر يرجع إلى تقدير الزوجة لمصالحها وهي لا تهمل مع ذلك مشاورة زوجها وإشراكه في أمرها كما حقها عليه كذلك،وعندها ليس للزوج أن يطلب منها أن تستأذنه فيما لا يجب عليها أن تستأذنه فيه.

أقول: وإناطة ذلك بتقديـر الزوجـة لمصالحها مع المشاورة المبنية على الود والاحترام، فيه موافقة لما قرره الشارع من احترام إنسانيتها، وعدم اختصاص الرشد، والقدرة على تقدير المصالح بالرجل. والله أعلم.

الوجهة الثانية:

أن للزوج حق مؤكد على الزوجة لكن هذا الحق يرتبط أصالة بعدم الإضرار بالزوج جنسيا وأسريا واجتماعيا، وكذلك يرتبط هذا الحق بعدم الإضرار بالزوجة ومصالحها ولو كانت في رتبة أدنى من رتبة الحاجيات ، فكأن حق الزوجة في الخروج من منزلها مقيد بأمرين:

أحدهما: أن لا تخرج من منزلها إذا طلبها لفراشه ليلا ، وهو وقت سكنه إليها وسكنها إليه.

والثاني: أن يكون خروجها في غير وقت السكن وأنس أحدهما بالآخر خروجا غايته تحصيل ما فيه خير أو إقامة سنة.

وهذه الوجهة الثانية تحتملها الأدلة الواردة في المسألة ، ويمكن أن تستنبط من توجيه الإمام الباجي لحديث مسلم: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله "[30].

قال الإمام الباجي: "وفي المبسوط من رواية ابن القاسم عن مالك: لا يمنع النساء الخروج إلى المساجد ويحتمل أن يريد أنه يحكم به لهن على الأزواج ، ويحتمل أنه يريد به حض الأزواج على إباحة ذلك لهن لما كان لهم المنع والله أعلم."[31].

فانظر إلى الاحتمال الأول الذي أورده الإمام الباجي: " يحتمل أن يريد أنه يحكم به لهن على الأزواج." [32]

ولعل هذه الدلالة التي يحتملها الحديث الشريف هي مستند القول بأن الزوج ليس له منع زوجته من الخروج إلى المسجد[33].

وجاء في التمهيد في الكلام على حديث: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله." [34]. قال الإمام ابن عبد البر: " وفي معنى هذا الحديث أيضا الإذن لها في الخروج لكل مباح حسن من زيارة الآباء والأمهات وذوي المحارم من القرابات ، لأن الخروج لهن إلى المسجد ليس بواجب عليهن ، بل قد جاءت الآثار الثابتة تخبر بأن الصلاة لهن في بيوتهن أفضل، فصار الإذن لهن إلى المسجد إباحة، وإذا لم يكن للرجل أن يمنع امرأته المسجد إذا استأذنته في الخروج إليه ، كان أوكد أن يجب عليه أن لا يمنعها الخروج لزيارة من في زيارته صلة لرحمها ولا من شيء لها فيه فضل أو إقامة سنة، وإذا كان ذلك كذلك ، فالإذن ألزم لزوجها إذا استأذنته في الخروج إلى بيت الله الحرام للحج."[35] اهـ.

فانظر إلى الوجهة التي قررها الإمام ابن عبد البر في أن الحديث يحتمل أن الزوج ليس له منع زوجته من كل مباح حسن فضلا عن ما كان أعلى من ذلك منزلة في سلم القربات.

ثم إن كلام الإمام ابن عبد البر يصب في الاستدلال لهذه الوجهة ، وإن كان تصريح الإمام ابن عبد البر في موضع آخر من التمهيد – على ما تقدم ذكره- بأن الزوج يندب له أن لا يمنع زوجته من الخروج إلى المسجد ولا يجب عليه ذلك، وقال إن علماء السلف لم يختلفوا على ذلك حسبما يراه الزوج من الصلاح والخير في ذلك[36].

ويصب في هذه الوجهة أيضا كلام الإمام ابن عاشور في النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح. قال: " باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها. فيه قول أبي هريرة عن النبي r قال: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه ، فأبت أن تجىء لعنتها الملائكة حتى تصبح."[37].

خص ذلك بالليل لقوله في هذا الحديث " حتى تصبح" ، وقوله في رواية زرارة: " إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها." .

ووجه ذلك أنه وقت المضاجعة والأنس بالمرأة عادة ، لأن النهار وقت شغلها، فهي محمولة على العذر فيه.

والمراد من الحديث أنها امتنعت لغير عذر ولا مغاضبة منه إياها، فهو الامتناع المشعر بالنشوز عنه، ولذلك كانت عقوبتها لعن الملائكة إياها، لأن النشوز كبيرة، ولذلك كانت له عقوبة شرعا، وهي الهجران أو الضرب، لأن النشوز تنشأ عنه مفاسد جمة بين الزوجين...فهذا تأويل الحديث ، لأن ظاهره مشكل." [38]اهـ باختصار يسير. وقوله :" له عقوبة شرعا، وهي الهجران أو الضرب" فيه إشارة إلى قوله تعالى: ﭯﭰ ﭶﭷ( النساء: ٣٤).

فانظر إلى قول الإمام ابن عاشور: " لأن النهار وقت شغلها ، فهي محمولة على العذر فيه."[39]. وقوله: " فهذا تأويل الحديث ، لأن ظاهره مشكل."[40].فهو يوازن بين حق الزوج في السكن الجسدي وبين مراعاة حال الزوجة وحاجاتها واستقامة شؤون حياتها ، ثم إن تقدير الزمن الذي هو من حق الزوج، يحصل بالاتفاق بين الزوجين، فقد يكون الليل لا النهار وقت شغل الزوجة التي تحمل على العذر فيه، أو وقت شغل الزوج الذي يحمل على العذر فيه، وهنا لا بد من التأكيد على أهمية أن يتفق الزوجان على ما تصلح به حياتهما دون تعنت من أحدهما.

ولئن كان بعض علماء المالكية جعلوا ذهابها للمسجد مما لا يحق للزوج أن يمنعها منه فإن حاجتها النفسية والحياتية إلى العمل مثلا أولى بالاعتبار، فالذهاب إلى المسجد بالنسبة للمرأة من الفضائل المندوبة في أعظم أحواله أما العمل الشريف المنتج فهو في أدنى أحواله من فروض الكفايات التي هي أساس لنهوض المجتمع وقوته، وهذا مطلب شرعي[41]، فكيف إذا كان العمل المنتج الشريف هو سبيل المرأة للعيش بكرامة تترتب عليها غالبا استقامة شؤون حياتها ككل على ما تم الكلام عنه عند تناول مذهب الحنفية في المسألة. ولا يرد على ذلك أن العمل قد تطرأ عليه عوارض الحياة ومغرياتها مما قد يوقع المرأة في الزلل. فالعوارض لا تؤثر على أصل الإباحة كما تقدّم التأصيل له في الفصل الثاني من القسم الأصولي عند الكلام على مسألة تأصيل إباحة بعض الممنوعات الجزئية مراعاة لأصل كلي.

ولئن كانت الوجهة الأولى فيها اعتبار للعرف واختلاف الزمان فهذه الوجهة هي أولى باعتبار ذلك.

والذي يظهر لي هو أن مصالح الزوجة في الخروج في عصرنا قد يفهم أن لا تقتصر على ما يتعلق بالعمل الذي قد يعينها على فعل المعروف ، أو على حضور الصلوات في المساجد أو مجالس العلم ، بل قد يشمل ذلك الخروج للترفيه المباح بما يعود عليها بالانشراح النفسي ويجعلها أكثر قدرة على أداء واجباتها تجاه ربها ونفسها وزوجها ومجتمعها، وقد تم التنويه- في الفصل الثاني من القسم الأصولي عند الكلام على معيار الضرورة والحاجة وهي المسألة الثانية من المبحث السادس- إلى أن ما كان في رتبة التحسينيات قد ينتهض ليكون في رتبة الحاجيات من حيث الحاجة إلى حصوله في الجملة.

* كافة الحقوق محفوظة.


[1] انظر المعيار المعرب مج3/ ص 109.

[2] انظر: البيان والتحصيل مج4/ ص 318، بلغة السالك لأقرب المسالك على الشرح الصغير مج2/ ص 331.

[3] الدَغَل : الفساد . انظر: لسان العرب مج3 / ص1390/ مادة ( دغل).

[4] صحيح مسلم المطبوع مع شرحه المسمى إكمال إكمال المعلم مج2/ ص333، 334.

[5] صحيح مسلم المطبوع مع شرحه المسمى إكمال إكمال المعلم. مج2/ ص336.

[6] صحيح مسلم المطبوع مع شرحه المسمى إكمال إكمال المعلم مج2/ ص333، 334. ونص كلام الإمام الأبي في الشرح المذكور: "قوله: ( فسبه) (ع) فيه تأديب من يعترض على السنن بالرأي، وعلى العالم بهواه. وتأديب المعلم من يتكلم بين يديه بما لا ينبغي ، وتأديب الرجل ولده الكبير في تغيير المنكر. قلت – أي الإمام الأبي-: لا شك في تأديبهم، وإنما النظر هل هذا منه ، والأظهر أنه ليس منه لأنه قد بين وجه ما ذكر ولا سيما إن كان سمع قول عائشة رضي الله عنها: " لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثن لمنعهن المساجد". وغاية ما ذكر أنه جعل العام في الأشخاص مطلقا في الأحوال ، والحكم كذلك، وإنما سبه لما علم من ورع ابن عمر وشدة تعظيمه حرمات الله عز وجل." اهـ.

[7] صحيح مسلم المطبوع مع شرحه المسمى إكمال إكمال المعلم مج2/ ص334. والفرق بين العام والمطلق كما تقدّم بيانه في الفصل الثاني من القسم الأصولي، المبحث الثاني، القسم الثالث في الهامش: أن عموم العام شمولي وأن عموم المطلق بدلي . جاء في إرشاد الفحول مج1/ ص516 ، 517 : " اعلم أن العام عمومه شمولي، وعموم المطلق بدلي، وبهذا يتضح الفرق بينهما، فمن أطلق على المطلق اسم العموم، فهو باعتبار أن موارده غير منحصرة، فصح إطلاق اسم العموم عليه من هذه الحيثية. والفرق بين عموم الشمول وعموم البدل أن عموم الشمول كُلّ، يحكم فيه على كل فرد فرد. وعموم البدل كل من حيث إنه لا يمنع تصوّر مفهومه من وقوع الشركة فيه، لكن لا يحكم فيه على كل فرد فرد، بل على فرد شائع في أفراده، يتناولها على سبيل البدل، ولا يتناول أكثر من واحد منها دفعة." اهـ

[8] صحيح البخاري المطبوع مع النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح ص 203.

[9] انظر: النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح ص 203 ، 204، وجاء في التوشيح على الجامع الصحيح للإمام السيوطي مج1/ ص 201: باب خروج النساء إلى البراز ما يفيد أن قوله صلى الله عليه وسلم: " قد أذن لكن أن تخرجن في حاجتكن " ورد في الخروج للبراز ونقل قول ابن حجر العسقلاني: إن خروج النساء للبراز لم يستمر ، بل اتخذت بعد ذلك الأخلية فامتنعن عن الخروج أصلا إلا بضرورة.".

[10] العَرق: العظم الذي أُخذ عنه أكثر لحمه . انظر: لسان العرب / مج5 / ص 2906 / مادة ( عرق).

[11] النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح ص 203، 204.

[12] أي تقطع ثمر النخل. جاء في لسان العرب مادة (جدد) مج1/ ص 563: " وجدّ النخل يجدّه جدّا وجِدادا وجَدادا عن اللحياني: صرمه. وأجدّ النخل: آن له أن يجد. والجَداد والجِداد: أوان الصرم... الجداد: صرام النخل، وهو قطع ثمرها." اهـ.

[13] صحيح الإمام مسلم / كتاب الطلاق/ باب جواز خروج المعتدة البائن والمتوفى عنها زوجها في النهار لحاجتها/ ص 933.

[14] انظر: التاج والإكليل مج4/ 185.

[15]انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير مج2/ ص 512، بلغة السالك لأقرب المسالك على الشرح الصغير مج2/ ص 481.

[16]انظر: شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل مج1-2/ ج2/ ص 236.

[17] انظر: حاشية العدوي مج 1/ ص 650.

[18] انظر: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل مج5/ ص 548، 549.

[19] انظر: إكمال إكمال المعلم مج2/ ص 333.

[20] انظر: البيان والتحصيل مج 1/ ص 421، ونقل ذلك عن ابن رشد في إكمال إكمال المعلم. مج2/ ص333.

[21] جاء في ترجمته في سير أعلام النبلاء : الإمام العلّامة، الحافظ، ذو الفنون، القاضي، أبو الوليد، سليمان بن خلف ، الأندلسي، القرطبي ، الباجي صاحب التصانيف . ولي القضاء بمواضع من الأندلس. وكان جليلا رفيع القدر . تفقّه به أئمة ، واشتهر اسمه، وصنّف التصانيف النفيسة . مات سنة 474هـ . يُنظر سير أعلام النبلاء مج4/ من ص 37 إلى ص 40.

[22] إكمال إكمال المعلم مج2/ ص 333.

[23] انظر: مواهب الجليل مج5/ ص 549.

[24] انظر: مواهب الجليل مج5/ ص 548.

[25] مواهب الجليل مج5/ ص 549.

[26] مواهب الجليل مج5/ ص 549.

[27] المتجالة: " هي القاعدة العجوز التي لا أرب للرجال فيها ولا يلتذ بالنظر إليها ، وقال أحمد زروق في معناها: هي من لم ترزق من الجمال ما يحمل على النظر إليها والتلذذ بها. ( نوازل الفاسي ، المسألة التاسعة. مخط خاص) " اهـ. انظر: تحقيق مختصر كتاب النظر في أحكام النظر بحاسة البصر. ص 135، 136. حققه: د. محمد أبو الأجفان.

[28] انظر: منح الجليل مج6/ ص 251.

[29] انظر: البيان والتحصيل مج1/ ص 421.

[30] صحيح مسلم المطبوع مع إكمال إكمال المعلّم مج2/ ص 333.

[31] المنتقى شرح الموطأ مج1/ ص 342.

[32] المنتقى شرح الموطأ مج1/ ص 342.

[33] انظر: مواهب الجليل مج5/ ص 549.

[34] صحيح مسلم المطبوع مع إكمال إكمال المعلّم مج2/ ص 333، التمهيد مج10/ ص153.

[35] التمهيد مج10/ ص 155.

[36] انظر: التمهيد مج5/ ص212. ولا يحمل نقل الإمام ابن عبد البر عدم اختلاف علماء السلف في مسألة حق الزوج في منع زوجته من الخروج إلى المسجد على الإجماع القطعي الذي لا تحل مخالفته، إذ أن الأدلة الواردة في المسألة ظواهر لا نصوص ، ومن ثم اختلف العلماء في تأويلها.

[37] رواه الإمام البخاري. انظر: النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح ص 200.

[38] النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح ص 200.

[39] النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح ص 200

[40] النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح ص200.

[41] جاء في حاشية ابن عابدين مج1/ ص 126: إنه يدخل في فرض الكفاية كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب والحساب والنحو واللغة وأصول الصناعات. اهـ مختصرا.

ليست هناك تعليقات: