الجمعة، 27 فبراير 2009

عن الجانب الجسدي أتحدث / تأملات عن الحب والدين والزواج 2

عرضت تدوينتي ( تأملات عن الحب والدين والزواج ) على صديقة ، فقالت : أعرف كثيرات في مجتمعنا يقدمن على الزواج لأجل العلاقة الخاصة وكفى ॥
قلت لها : وكفى ؟ دون تفكير بما يترتب على الارتباط من مسؤوليات ، وبما يكتنفه من تغيير ، وما يتطلبه من مبادرات ، وخطط ॥ قالت نعم
ذكرني كلام صديقتي بما نص عليه بعض الفقهاء من وجوب الزواج حال خشية الزنا* ، وبالفتاوى التي تحلل الزواج بنية الطلاق ، وهو فيما يحضرني مذهب عامة أهل العلم - انظر تفصيلا حسنا في ذلك هنا -
قلت لها : إن من الخطأ أن نتوقف عند القراءة المجردة للأحكام التي ينص عليها الفقهاء ولا نتنبه إلى السياقات المستقاة من النصوص الفقهية في موضوع الزواج فضلا عن النصوص الشرعية ، ومقاصد الشريعة।
اختصار الزواج في ( العلاقة الجسدية) أراه أمرا كارثيا ، لا سيما في عصرنا المعقد هذا ॥ و (خشية الزنا) لم يعد التغلب عليها معضلة ॥ بل لقد تحدث الفقهاء قديما عن أدوية تخفف من وطأة الشعور الضاغط بالحاجة إلى العلاقة الجسدية لمن ليس لديه الاستعداد المادي للنكاح ।
والسؤال هنا : أليس الاستعداد النفسي والتأهيلي للزواج كعلاقة مقدسة دائمة هو لا يقل أهمية عن الاستعداد المادي ؟
بل إن الحديث حول حرمة العادة السرية قد تجاوزه بعض المفتين اليوم في وعي بطبيعة الضغوطات في عصرنا ..
فصاروا يذكرون ما في المسألة من سعة - كما سمعت من الشيخ سلمان العودة في برنامجه (الحياة كلمة )- أرى أنه يجب أن لا يغيب عنها التأكيد على الأبعاد النفسية المرتبطة بممارسة هذه العادة ، فضلا عن وضع هذه الممارسة في إطارها الصحيح بحيث لا تكون تكريسا لتفكير يكون الجنس هو محوره وغايته.
لن أجنح فأقول إن ( نكاح المتعة ) عند الشيعة الأمامية هو حل قد يكون أكثر نزاهة وعدلا وشجاعة -فالتنصيص على تأقيت الزواج يكون واضحا بلا مواربة -
وذلك إذا أردنا أن نعترف بالحاجات الجسدية بشكل مستقل عن متطلبات الزواج غير المؤقت ، لأن ( نكاح المتعة ) إن لم ينشأ في ظروف ملائمة ، فلا بد من أن مفاسد الإقدام عليه ستكون كارثية في مجتمع يرفضه ، ويعده جريمة شرعية ।
وهذا الرفض المجتمعي مستند إلى مذهب جمهور أهل السنة في عد زواج المتعة حراما يشذ من يعتد به عن الحق ، وينقل بعضهم الإجماع على ذلك ।
الحل السني – أنا هنا أتساءل ولا أقرر- قد يكون بالتصريح بنية الطلاق على أن لا يتضمنها العقد ، فيكون ثمة اتفاق بين الطرفين على تأقيت الزواج -كما هو مذهب الشافعية في الجواز-تجنبا لمفاسد التكتم على النية المبيتة عند الرجل فضلا عن ما في ذلك من غش وخداع ॥
وبقيت هنا فكرتان : إحداهما : أن الكلام عن حل الزواج بنية الطلاق بالنسبة للرجل دون تحميل الرجل مسؤولية التواصل الصادق مع المرأة وأهلها -وهو ما نقل عن الشيخ ابن عثيمين- رحمه الله- في كلام يستحق التقدير حقا وستجدونه في هذا الرابط- هو تكريس لتفكير يغيب المرأة كإنسان وكشريك في العلاقة الزوجية مؤقتة كانت أم دائمة।
والثانية : أن الحديث عن وجوب أو استحباب الزواج حال خشية الوقوع في الزنا لا يختص به الرجل ، بل يشمل المرأة أيضا ، أتذكر أني تساءلت مرة لما قرأت هذا الكلام في أحد الكتب الفقهية القديمة ، وهل الزواج بيد المرأة لكي يتحدث الفقهاء عن وجوب أو استحباب الزواج في هذه الحال ، قالت لي شيختي د.شادية كعكي : تتحدث مع أهلها .
وهنا أجد أن المجتمع بحاجة إلى ثقافة جديدة ، ليست فقط على صعيد الحوار الأسري، لكن على صعيد التمسك بجعل الزواج هو خيار يتفرد به الرجل ، ولهذا حديث آخر ، وتأملات أخرى ॥

* الشافعية في معتمدهم نصوا على استحباب الزواج حال التوق إليه وفقدان متطلباته المادية قالوا لأن الأمر مرتبط برضا الزوجة أو وليها ، وهذا تنصيص في محله . ( مغني المحتاج ج3/ص 168)

الخميس، 26 فبراير 2009

تأملات عن الحب والدين والزواج

الزواج كشراكة
كان حوارا طويلا دار بيني وبين إحدى الصديقات ، كنا نتحدث عن ( الاحتياج للشريك ) ، الإحساس بهذا الاحتياج ، وكيف نتعامل معه ، وكيف نفعله بحيث يكون حافزا للحصول عليه ، لاحظت أننا في حديثنا ابتعدنا غالبا عن وصف ( الزوج ) واستبدلناه بوصف ( الشريك) ، حسنا لم ألاحظ ذلك أثناء الحوار الممتد لثلاث ساعات تقريبا ، لكن اليوم وبعد استرجاعي لأجزاء من الحوار لاحظت ذلك ، ووجدتني أقول : يبدو أن كلمة (الزوج ) أصبحت ملتبسة- في واقعنا السعودي على الأقل- بمعان لا تغلب عليها الشراكة بل الحصول على مساحة أكبر من الاختيار بشكل ما ، من حيث تسلم إدارة الشؤون المنزلية ، والحصول على فرصة أكبر للسفر والخروج .. ناهيك عن ظلال القوامة بما تعنيه في واقع الحال من تسلط بشكل أو بآخر .. كنت أفكر لماذا ترغب إحدانا في الزواج ؟ أ لأجل المساحات الأوسع التي تحصل عليها بشكل ما ؟ وجدت أن فكرتي عن الزواج ملتبسة فعلا ، وبدأت أحررها بداخلي، أكتشف حاجتي الحقيقية .. المساحات الأوسع يمكن الحصول عليها بمزيد من الاستقلال المادي ، ومزيد من الحكمة في إدارة العلاقة مع الأهل .. لا أقبل أن يكون الزواج هو وسيلتي لتحقيقها ، لا أعيب من تقرر أن الزواج هو وسيلتها لذلك ، هذا خيارها ، ونظرة الناس إلى ترتيب شؤون حياتهم وخياراتهم مختلفة ، لكني ك(أنا ) وجدت أن فكرة الزواج بعد تحريرها عندي تصب في مسألة ( الشراكة ) ، هل أنا مستعدة لاقتسام حياتي ومكاني واحتياجاتي وشؤوني مع شخص آخر ؟ هذا هو السؤال الأساس بالنسبة لكل من تريد علاقة ترتبط بجوهر فكرة الزواج ، وتقول الدكتورة شيري كارتر سكوت في كتابها الذي أجده قيما :" إذا كان الحب لعبة فهذه هي قوانينها " أن الصدق مع النفس في إجابة سؤال كهذا مهم جدا لضمان نجاح الزواج .. رافقني كتاب د. سكوت لأيام ، ورغم أني قد قرأته قبلا ، إلا أن القراءة الجديدة له هذه الأيام ، أمدتني بمعان مختلفة ، من الكتب ما يكون في تكرار قراءتها مزيدا من الاكتشاف لمعان جديدة ، أو فهم معان قديمة لديك بطريقة مختلفة ومؤثرة ، ولعل هذا مرتبط تماما بجهد الكاتب ، وعمق تحضيره لمادة الكتاب ، بحيث لا تكفيها قراءة واحدة ..

لا بد أن تحب ذاتك أولا

القانون الأول التي تتحدث عنه د। سكوت هو أنك لتستطيع أن تحصل على حب شخص آخر لابد أن تحب ذاتك أولا ، حب الذات يكون بتقديرها بحيث تعطيها ما تستحقه من وقت ومال واهتمام ، إذا اهتممت بذاتك بشكل كاف فستجد شريكا يهتم بها ، لأننا نعطي الآخرين النموذج الذي يتعاملون به معنا من خلال تعاملنا مع ذاتنا ॥ مزيد من الوقت والاهتمام والمال بشكل متوازن ، لا يجنح نحو التضخم ، هذه إضافة صديقتي أروى الدرويش .. لو تعاملنا مع تقصيرنا في جو ملىء بالاتهام ، فسيعاملنا الآخرون كذلك ، ولو لم نحترم رسائلنا الداخلية ونقدرها فلن يحترمنا الطرف الآخر .. تتحدث د. سكوت عن أن الحب ينجذب لأولئك الذين يرغبونه لا إلى الذين يحتاجونه . الاحتياج التي تعنيه د. سكوت هنا هو أن يحتاج المرء شريكا يعطيه ما تقاعس هو أن يعطيه لذاته من اهتمام وعناية وتقدير واحترام. الحب المقدم من الشريك لا يمكن أبدا أن يحل محل حب المرء لذاته وعنايته بها .. الكتاب ثري .. وما حدثتكم عنه هو صفحات قليلة من صفحاته البالغة (253) صفحة .. وأرى أن اسمه قد ظلمه بشكل ما ، لأنه أكثر ما يكون ابتعادا عن ابتذال فكرة ( الحب) أو احترام قداستها في حياة الإنسان .. قالت لي صديقتي : المشاعر أقدس من الجسد ॥ أفكر الآن في كلمتها التي لم أناقشها فيها في حينها .. المشاعر أقدس ممن الجسد لأن تقديسها وعدم بذلها إلا بعد وعي تام بكونها صادقة ، وبكونها لا تعارض مع احترام المرء لذاته ، وبكون الطرف الآخر يستحقها حقا .. عدم بذلها إلا بعد التأكد من ذلك كله سيقود تبعا إلى التعامل مع الجسد بقداسة

الدين والحب

الكلام عن الحب قد يكون جريمة وتفسخ عند بعض الناس أو كثير منهم ، وأرى ذلك في عصر كعصرنا هو مجافاة للغة فرضت نفسها ، وبات الاحتشام عن الخوض فيها بما تستحقه من فكر ونظر واحترام ، هو احتشام في غير موضعه ،،ووضع الشيء في غير موضعه ظلم ، هو ظلم للدين ، وتكريس للانقسام بين طبيعة الحياة في هذا العصر وبين الدين أشعر حقيقة بالمسؤولية التي تجعل تخصصي الشرعي حملا ثقيلا أنطلق منه تحديدا للحديث عن موضوعات معجونة بهموم الناس وحياتهم ، ويتغاضى عنها الخطاب الديني أو يتحدث عنها بطريقة خجلة أو متحفظة ، وأتساءل مما نخاف ؟ هل نخاف من الناس الذين يرفضون أن يصدر الحديث في مثل هذا الأمر من منبع له ارتباط بالدين ؟ أليس الخوف يؤكد بعد الناس عن الدين ، ونظرتهم إليه كأنه يتسامى عن احتياجاتهم ، وهل جاء الدين إلا بمراعاتها واحترامها ؟

السبت، 7 فبراير 2009

البرابكاند .. حوار مع متخصص

هذا حوار نشر في موقع aljazeeratalk مع الأستاذ أمين صوصي العلوي حول تخصصه في البرابكاندا .. الحوار فيه معلومات جديدة بالنسبة لي .. وهو فوق ذلك كلام من متخصص وأستاذ في هذا العلم .. أرجو أن تجدوه مفيدا وممتعا كما وجدته .. http://www.aljazeeratalk.net/portal/content/view/3992/82/
لماذا اتجهت إلى علم البرابكاندا؟
تخصصي الأصلي هو إخراج أفلام الكرتون، وما كنت أتوقع أن هذا الفن الذي يشكل الأطفال غالبية جمهوره سيقودني إلى البحث وراء الايديولوجيات والأدب السياسي ! بدأت المتاعب والعراقيل تواجهني في الدراسة حين قررت إخراج فيلم كرتوني عن الأندلس, لم يكن تصوري لحجم الإشكال آنذاك واضحا ولم أكن أعتقد أن الغرب الذي يحارب الرقابة على ثقافته في كل أنحاء العالم هو من يمارسها فعليا على ثقافة الآخر. بعد تخرجي قررت الاتجاه إلى الدراسة النظرية المعمقة في السينما وهنا بدأ اكتشافي لشيء اسمه البرابكاندا, علم له أصول وفروع ومنظرون أسسوا له ووضعوا له القواعد بناءا على تراكمات بحثية خرجت من رحم هيئة باسم Commisson Creel أنشئت بأمر من الرئيس الأمريكي الديموقراطي وودروو ولسن الذي قرر استمالة الرأي العام لقبول دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب ضد الألمان. قام الصحفي الشهير والتر ليبمان، وابن اخت فرويد السايكولوجي إيدوارد بيرنايز بطلب من الرئيس ولسن بممارسة برابكاندا ممنهجة خلال ستة أشهر أدت إلى هستيريا ضد الألمان أدهشت صانعيها . من هنا ظهرت مصطلحات مثل "روح الجماعة" و"هندسة الإذعان" على يد بيرنايز كأول اللبنات البرابكاندا التطبيقية.
إلى أي حد يمكن التمييز بين البرابكندا والبرابكندا التطبيقية؟
في الحقيقة ليس هناك فرق في الجوهر لكن التمييز يأتي على أساس الآليات التي فجرتها ثورة البرابكاندا التطبيقية إبان الحرب العالمية الاولى।إن أول الصعوبات التي تواجه الباحث عن تعريف لكلمة برابكاندا تكمن في التناقضات الاصطلاحية في المراجع اللغوية والتاريخية والتي مردها إلى التشويش الإيديولوجي المستمر والى قلة الأبحاث والدراسات الأكاديمية التي خصصت لها. هناك عامل آخر يجب الانتباه إليه للتوصل إلى تصور صحيح عن حقيقة البرابكاندا وهو النظر إليها كظاهرة تاريخية بتعقيداتها فكل محاولة للتبسيط توقع لا محالة في إشكالات معرفية. هناك مثلا من يضع الدعاية في اللغة العربية مقابل كلمة برابكاندا, وهذا في نظري خطا محض يحيل الفاعل إلى نوعين من الأخطاء أولهما اصطلاحي يحصر الكلمة في الدعوة إلى فكر أو موقف أو معتقد معين بوسيلة من الوسائل ومن هنا نقع في شرك اعد مسبقا يجعل كل الناس أمام هذه الظاهرة سواء شريطة أن يقوموا بنشر آرائهم! أما الخطأ الثاني فيكمن في فعل الترجمة ذاته حيث أن القائم بذلك يفترض مسبقا أن لهذه الكلمة مقابلا في الثقافة العربية! فيحمله ذلك على الوقوع في إسقاطات غير علمية. للخروج من كل هذه الإشكالات المنهجية يتحتم علينا التدقيق ليس لمجرد الترف الفكري او التقعر كما قد يخيل للبعض إنما تفرضه خطورة الموضوع لتأثيره المباشر في حركة الشعوب واختياراتها. بعد وضع الظاهرة في سياقها التاريخي وبيئتها الثقافية الاجتماعية كاول الخطوات لإدراك أبعادها الحقيقية ـ بغض النظر عن البحث في أصل الكلمة الذي قد نستأنس به في البحث ـ نجد أن انطباق الاسم على المسمى يظهر بجلاء أن للبرابكاندا مدلول ثقافي يربط المصطلح بواقع القارة الأوروبية. فلا يمكن تجاهل أن كلمة برابكاندا ذات الاشتقاق اللاتيني وتعني "النشر" قد وافقت الغرض الذي أسست من أجله مؤسسة بحجم Congregatio de Propaganda Fide بعد حرب الثلاثين عاما على يد بابا الفاتيكان غريغوار الخامس عشر من أجل نشر الكاثوليكية بكل الوسائل بغض النظر عن مدى مشروعيتها. ينبغي التوقف طويلا أمام هذا الحدث من حيث كونه محطة تاريخية مهمة يؤرخ بها لنشأة "البرابكاندا الفعلية" التي نقلت الظاهرة من الممارسة العشوائية إلى طور "المأسسة" فليس لجوبلز وزير البرابكاندا في حكومة هتلر الفضل في إنشاء وزارة بهذا الاسم كما هو سائد. مازالت المؤسسة قائمة بذاتها داخل الفاتيكان بينما انقضى عصر جوبلز وأغلقت وزارته وما تزال دول الحلفاء سابقا تجعل اسمه مرادفا البرابكاندا ! بين غريغوار الخامس عشر و جوبلز قرونا عرفت فيها أوروبا ثورات عسكرية ومدنية وحروبا دينية استيقظت فيها القارة القديمة على واقع جديد أفرزته الثورة الصناعية, نشطت فيه النقابات والأحزاب بشكل واضح وأضحت الضرورة تستوجب آليات جديدة لإبقاء السيطرة على الجماهير. بحلول القرن العشرين بدأ ما أسميه بثورة البرابكاندا التطبيقية وكان للسينما الحظ الأوفر في انطلاقها وخير دليل ما قدمه السينمائي الأمريكي وينسور ماكين في فلمه الكرتوني عن إغراق باخرة لوزيتانيا على يد غواصات الألمان. للعلم فهذه الحادثة التي مات فيها ما يناهز الألف من الركاب ولم يكن بينهم سوى مئتي أمريكي فقط كانت الذريعة التي اتخذها الرئيس ولسن لإقحام بلاده في الحرب العالمية الأولى. يعرف كثيرون أن السينما قد أدمجت منذ بداياتها في صناعة الحدث لكن قليل من يعلم –من غير المتخصصين - أن جزءا كبيرا مما نجده مثلا من وثائقيات رسمية لوقائع كالحربين العالميتين الأولى والثانية مفبركة. لم يتوقف الكذب على التاريخ عند هذا الحد بل تحول إلى مرض مزمن يعدي كل من استلهم أبحاث بيرنايز كجوبلز مثلا لذا فلا غرابة في مقولته الشهيرة اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس.
هل حقا للظاهرة ارتباط ببيئة معينة أم هي ظاهرة عالمية ؟
كل الشواهد التاريخية تؤكد ارتباط الظاهرة "بالغرب " وهنا لا أقصد الغرب الجغرافي بل الغرب ككيان ثقافي ايديولوجي يستلهم التاريخ الإغريقي الروماني ولو تناثرت أطرافه جنوبا وشمالا, فكل من يربط نفسه به ايديولوجيا تنتقل إليه أمراضه।
دعني هنا أقول وبوضوح إن البرابكاندا تاريخيا مرتبطة بالديمقراطية كأسلوب حكم يدعي إشراك العامة " الشعب" في القرار, من هنا وجدت آلية لتوهيمه أن لآرائه قيمة. إن التركة الرومانية التي يتغنى بها فوكوياما وهانتنغتون ويدعوان لتعميمها على العالم ولو بالقوة ! تحمل في طياتها "فيروس البرابكاندا" الذي وبفضل تطور وسائط الاتصال السمعية البصرية الحديثة انتشر حول الأرض ولم يترك بيتا إلا ودخله. قد يظهر من هذا الكلام أني أناقض نفسي بالقول ببيئية البرابكاندا وفي الوقت ذاته بانتشارها حول العالم, أعود فأقول أن الظاهرة من حيث الصناعة هي غربية لكنها تمارس على العالم بأسره بواسطة المؤسسات الإعلامية الضخمة مثل تلك التي يمتلكها روبرت موردوك و تيد تورنر ووالت ديزني... وشركات الإنتاج السينمائية العملاقة التابعة لها التي أصبحت اليوم امبراطوريات أخطبوطية تسيطر على أسواق التوزيع والإنتاج العالمية. إن ربط البرابكاندا "المتطورة" بالعالم الديموقراطي الليبرالي ليس من بنات أفكاري, ولا هو رأي ايديولوجي أنحاز إليه، بل هو نتيجة لأبحاث جادة مثل تلك التي قام بها الأكاديمي ايدوارد هيرمان رفقة عالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي.
كيف يمكن إلصاق البرابكاندا بالديموقراطية, و هي التي تكفل مساحة الحريات لتشومسكي وغيره ليقول ما شاء متى شاء؟!
إن تشومسكي يرد على هذا السؤال بمفهوم جديد يسميه "نموذج للبراباكاندا"propaganda model يبين فيه أن البرابكاندا تمثل بالنسبة للأنظمة الديموقراطية ما تمثله العصا للأنظمة الشمولية। فلا أحد يعبا بما يقوله تشومسكي أوغيره مادامت أقوالهم لا تصل إلى الجماهير।
فلا غرابة إذن حينما يلقب قادة البيت الأبيض مثلا كل من يحاول فضح خداعهم الإعلامي "بأمة الحقيقة الحقيقة" Comunity reality استهزاءا . هم يعلمون أن "قطعان" الجماهير المدجنة تصدق وسائط الإعلام الكبرى, فغرد خارج السرب كما شئت فلن يصدقك احد. داخل هذا النموذج الذي نتحدث عنه لا جدوى من القمع والترهيب لكسب الإذعان الفكري مادمت مسيطرا بشكل كاف على العقول, تدفع بها إلى الاتجاه الذي تريده, في الوقت الذي تريده, هذا كله وهي معتقدة بان اختياراتها ذاتية حرة . إن اختلاف أجهزة الإعلام الديموقراطية عن مثيلاتها في أسوء أيام روسيا الاتحادية أو تلك التي أدارها جوبلز النازي يكمن في استعمالها الذكي لمبدأي الرقابة والرقابة الذاتية وذالك بمحاصرة الخبر وحجبه بشكل جزئي مبتور بحيث أن الجمهور لا يحس بغياب الرأي الآخر. لنفرض مثلا أن المعلومة تسربت بشكلها "الأصلي" للجمهور وتفاعل معها, حينها تعمد وسائل الإعلام إلى السيطرة على الأوضاع بشكل سريع بتكثيف البرامج الحوارية حولها و"الريبورتاجات" لضمان توجيه الرأي العام وأعادته للخط المرسوم له مسبقا ولا عطاء انطباع بوجود الشفافية في الوقت ذاته, وهذا عين ما يعرف "بفن" التشويش الإعلامي .Desinformation
كيف يتم استدراج العقول...؟
في نظري لا يمكن تبرئة أصحاب هذه العقول المستدرجة كليا فهي وافقت ابتداءً على الانصهار في المجموعة بسبب الكسل ما يجعلها في حالة انقياد طوعي للنخب।

تظهر خطورة هذا الوضع بجلاء حينما نقرا مثلا التصريح الخطير للمدير العام السابق للقناة الأولى الفرنسية TF1التابعة للقطاع الخاص باتريك لولاي حيث يقول: " توجد عدة طرق للحديث عن التلفزيون. لكن إذا كان الأمر يتعلق "بالبزنس", لنكن واقعيين : في الأصل مهنة TF1 هي مساعدة كوكا كولا مثلا على بيع منتوجها. […] لكن لكي تكون الرسالة الإعلانية سهلة الالتقاط, يجب أن يكون دماغ المشاهد مستعدا: بمعنى آخر أن تتم تسليته والوصول به إلى حالة من الاسترخاء ليتهيأ بين رسالتين. ما نبيعه لكوكاكولا, هو وقت دماغ إنسان في كامل الاستعداد." يقولها لولاي صراحة "وقت دماغ إنسان في كامل الاستعداد" هذه هي المهمة الحقيقية لمؤسسته. وهم في هذا أيضا عالة على روما القديمة, فالتخدير عبر صناعة التسلية اليوم من التظاهرات الرياضية العالمية إلى الحفلات الضخمة التي يصرف عليها بأرقام فلكية إلى السينما والتلفزيون... ما هي إلا ترجمة بشكل متطور لما عبر به الشاعر جوفينال عن أسلوب الحكم الروماني في زمانه « panem et circenses »الخبز والملاهي.
ما مدى حقيقة قوة البرابكاندا وهل من سبيل للمقاومة ؟!
لمعرفة حقيقة هذه القوة يجب أن ننظر للوقائع: في سنة 1929 قام بيرناز بإنجاز ضخم لصالح واشنتن هل رئيس شركة السجائر American Tabacco. كان الهدف هو التخلص من القيود الاجتماعية التي تفقده نصف الأرباح. بدا بيرنايز باستشارة الأخصائي ابراهام اردن برل الذي نصحه باستعمال السيجارة كرمز لسلطة الرجل, ومن ثم اعتبار انتزاعها من طرف المرأة تحد لهذه السلطة. اختير لهذه الحملة استعراضات عيد الفصح التي تقام كل سنة بشوارع نيويورك. تم تجميع عدد كبير من المصورين والصحفيين أمام مجموعة من الشابات اخفين السجائر تحت ألبستهن, عند سماع الإشارة خرجن السجائر في وقت واحد وأشعلنها. أشغلت صور الفتيات الرأي العام وألهبت النقاشات حولها وبين عشية وضحاها أصبحت المرأة بإشعالها للسيجارة تشعل مشعلا للحرية! لا أخفيك أن مقاومة البرابكاندا شيء صعب لكنه ليس بالمستحيل, فوصفي لها بالفايرس سابقا وتعني السم باللاتيني لم يكن عبثيا, لأن قوتها في قدرتها على اختراق الخلايا والتكاثر داخلها ومن ثم يصعب التخلص منها. لهذا يجب في نظري اتباع أسلوب "طبي" في التعامل مع الظاهرة, يتم التركيز فيه أولا على تقوية المناعة بما يعرف ب "الثقافة المضادة " و ثانيا بصناعة " الترياق" من جنس السم. الترقيع هاهنا لا يفيد, المطلوب هو إنشاء مؤسسات ربحية لهذا الغرض بعكس ما ألفه الناس من تعويل على كل ما هو حكومي. ويكفيني هنا ان أرشد إلى ان النجاح الحقيقي لبيرنايز لم يكن داخل هيئة كريل الرسمية بل بدا بعد ذلك حينما أنشا مؤسسة للعلاقات العامة نقلت أعماله من طور التجربة إلى الصناعة.

هقو