الاثنين، 12 سبتمبر 2011

الثابت والمتغير ..جق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل .. مذهب الحنابلة (5)*

المطلب الرابع : مذهب الحنابلة في حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل

العبارة التي تختصر وجهة الحنابلة في تقرير علاقة الزوج بزوجته لا سيما حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل هي قول الإمام ابن قدامة في المغني: " عقد النكاح يقتضي تملك الزوج الاستمتاع في كل الزمان، من كل الجهات ، سوى أوقات الصلوات."[1].

نعم هكذا ينظر الحنابلة إلى حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل، هو عندهم حق يمثل مظهرا من مظاهر حق الزوج في تملك وقت زوجته سوى الوقت التي تؤدي فيه ما كان واجبا عليها بأصل الشرع من صلاة مفروضة أو عمرة واجبة أو حج واجب[2].

ويرى الحنابلة في معتمدهم أن للزوج حق منع زوجته من زيارة والديها أو من سواهم من ذوي الأرحام لأن حق الزوج مقدّم عندهم على حق ذوي الأرحام ، أما بر والديها فيمكن حصوله بالكلام معهما، وزيارتهما لها ، ولا يملك منعهما من ذلك: قالوا: لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

واستثنوا من حقهما في زيارة ابنتهما ما لو ظن الزوج حصول ضرر يعرف بقرائن الحال بسبب زيارتهما، فللزوج حينها أن يمنع والدي زوجته من زيارتها دفعا للضرر[3].

وقد نصوا على أنها لا تلزمها طاعة أبويها في زيارة ونحوها لأن طاعة زوجها أحق لوجوبها عليها ، ويستدلون على ذلك بما روي عن رسول الله r: "أن رجلا سافر ومنع زوجته من الخروج ، فمرض أبوها فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضور جنازته. فقال لها: اتقي الله ولا تخالفي زوجك. فأوحى الله إلى النبي r إني قد لها بطاعة زوجها." وهذا الحديث الذي استدلوا به فيه راو ضعيف هو عصمة بن المتوكل كما نص على ذلك الإمام ابن حجر الهيثمي[4].

و الذي يظهر لي أن هذا الحديث تعضد عندهم قبوله بما فهموه من دلالة النصوص الصحيحة الواردة في تأكيد حق الزوج ، فهم فهموا أنها تفيد أن وقت الزوجة مستغرقا بالكامل لحقه سوى ما كان حقا واجبا خالصا لله عز وجل، فكأن هذه النصوص خصصت عموم النصوص الواردة في طاعة الوالدين وبرهما ، فيحصل البر من الزوجة في أضيق الحدود وبما لا يعارض حق الزوج في تملك وقت زوجته إلا من حق الله الخالص إذا كان واجبا. ولذلك فإننا إذا ما نظرنا إلى المسألة التي نحن بصددها من وجهتهم في النظر في الأدلة- وستأتي مناقشتها في المبحث الثالث من هذا الفصل-، فإننا لا نتعجب إذا وجدنا أن الإمام ابن قدامة يميل إلى القول بأنه ليس للزوج منع زوجته من الخروج إلى المسجد ، لأن ظاهر الحديث يقتضي ذلك[5]. نعم لا نتعجب لقوله هذا مع تقريره أن له منعها من زيارة والديها ، ذلك أن النصوص الواردة في حق الوالدين نصوص عامة يمكن التوفيق بينها وبين النصوص الواردة في طاعة الزوج بأن يعطى لبرها بوالديها مساحة لا تضر بتملك الزوج لوقت زوجته كما تقدم الكلام عليه آنفا ، لكن النص الوارد بنهي الأزواج عن منع زوجاتهم من الخروج إلى المساجد هو نص ورد في خصوص حق الزوج في المنع، فيقوى على تخصيص حقه في تملك وقت زوجته. هذا مع كون المذهب فيه قول بأن الزوج له الحق في منع زوجته من الخروج إلى المسجد وإنما يستحب له أن لا يمنعها[6].

نعم هم يحثون الزوج ندبا على أن لا يحول بين الزوجة وبين والديها وذوي رحمها إذا احتاجوا إليها لتمريضهم أو زيارتهم حال المرض، كما يحثون الزوج على وجه الاستحباب على أن لا يحول بين زوجته وبين شهود جنازة أحد محارمها، لكنهم لا يوجبون ذلك على الزوج ، ولا يجدون في المفاسد التي قد تترتب على منعها من ذلك ما يرقى إلى حد إيجاب ذلك على الزوج: جاء في كشاف القناع: "(... فإن مرض بعض محارمها) كأبويها وإخوتها (أو مات) بعض محارمها (لا غيره) أي المحرم (من أقاربها) كأولاد عمها وعمتها، وأولاد خالها وخالتها (استحب له) أي الزوج( أن يأذن لها في الخروج إليه) أي إلى تمريضه أو عيادته أو شهود جنازته ، لما في ذلك من صلة الرحم، وفي منعها من ذلك قطيعة رحم، وربما حملها عدم إذنه على مخالفته."[7].

ما سبق يمثل مذهب الحنابلة في معتمدهم ، وقد نقل عن ابن عقيل من علمائهم أنه يوجب على الزوج أن يسمح لزوجته بعيادة من مرض من محارمها[8] كما نقل في الإنصاف قولا يقابل المعتمد عندهم وهو أن للزوجة حق زيارة والديها ككلامهما. ونقله بصيغة التضعيف: قال الإمام المرداوي في الإنصاف: " دَلَّ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ على أنها لَا تَزُورُ أَبَوَيْهَا وهو الْمَذْهَبُ وَقَدَّمَهُ في الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَالْفُرُوعِ وَقِيلَ لها زِيَارَتُهُمَا كَكَلَامِهِمَا." [9].اهـ.

* كافة الحقوق محفوظة


[1] مغني ابن قدامة مج11/ ص 428.

[2] انظر: كشاف القناع مج5/ ص 474.

[3] انظر: كشاف القناع مج5/ ص 197، 198.

[4] جاء في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد مج4/ ص 313: " عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا خرج وأمر امرأته أن لا تخرج من بيتها ، وكان أبوها في أسفل الدار، وكانت في أعلاه، فمرض أبوها فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. فقال: أطيعي زوجك فمات أبوها فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها. رواه الطبراني في الأوسط وفيه عصمة بن المتوكل وهو ضعيف." اهـ. والإمام ابن حجر الهيثمي كما جاء في ترجمته في شذرات الذهب هو نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان بن أبي بكر الهيثمي الشافعي الحافظ . من تصانيفه : مجمع الزوائد ومنبع الفوائد . مات سنة 807 هـ . يُنظر : شذرات الذهب مج9/ ص 105، 106.

[5] انظر: مغني ابن قدامة مج 10/ ص224.

[6] انظر: مغني ابن قدامة مج10/ ص 224.

[7] كشاف القناع مج5/ ص 197. والأقواس ليست من زيادتي.

[8] انظر: الإنصاف مج8/ ص 361.

[9] الإنصاف مج8/ ص 361.

ليست هناك تعليقات: