الاثنين، 2 يناير 2023

قراءة في كتاب ( عن التعب ) لبيتر هاندكه

 نشرت لي اليوم في مجلة الجوبة الثقافية العدد 77 قراءة في كتاب : " عن التعب " لبيتر هاندكه . أرجو أن تحبوا الوقت الذي ستقضونه برفقتها. 

هل أنت بخير؟

        لم أقرأ كتابا جعلني أشعر في رفقته بأنه يطمئن عليّ بشكل شخصي مثل هذا الكتاب، لقد نجح المؤلف: "بيتر هاندكه"[1] في أن يؤنسني بهذا الشعور عبر حديثه الهادئ المشرق.

        كان بيتر هاندكه يحكي عن تعبه الخاص ولكأنه يحكي عن تعب إنساني مشترك، ولقد شعرت بدفء حكاياته، ذلك الدفء الذي نشعر به في صحبة صديق مقرّب نتوحد معه في مشاعرنا، وتغدو قصصنا ذات معنى واحد وإن اختلفت تفاصيلها.

الطيبة والتعب:

        يتحدث بيتر هاندكه عن التعب بوصفة امتيازا لا يهنأ به إلا الطيبون الذين يساندون بعضهم بعضا وهم يخوضون مشاق الحياة لتكون لحظات التوقف المؤقتة زادا روحيا لكل تجليات الألفة والنقاء.

يحكي لنا هاندكه عن التعب الجسدي المشترك الذي جمع أهل قريته –رجالا ونساء وأطفالا-  في مطلع الخمسينات في مواسم الحصاد: " ... ترتعش الركب، فنتهاوى ونترنح، ولكن لم يخل ذلك أبدا من المرح. تجد أيادينا وسيقاننا مخدوشة، وفتات القش يملأ رؤوسنا، ويستقر بين أصابع أيادينا وأقدامنا، أما فتحات أنوفنا – رجالا ونساء وأطفالا- فلم تكن رمادية اللون، بل سوداء يملؤها التراب. هكذا جلسنا بالخارج، تحت شمس الأصيل، نستمتع بنكهة ذلك التعب المشترك... فقد جمعتنا ووحّدتنا سحابة من التعب الأثيري إلى أن تصل الشحنة التالية.". النقل بتصرف.

يقدّس هاندكه هذا التعب الذي " نتحد به وننقى بسببه "، ويجعله هبة عظيمة يحرم منها الفاسدون الذين يأكلون حقوق الناس ظلما، يقول: " ولكن المجرم الذي ينجو بفعلته، لا يجد صعوبة في الخلود إلى النوم في أي وضع ... فهو لا يعرف شيئا عن التعب، فما بالك التعب الذي يوحّد الأفراد؟ ولا شيء في العالم بأسره يمكن أن يجعله يشعر بذلك، إلا إذا تلقى العقوبة التي يستحقها، ولعله يتوق إليها في الخفاء".

وقل ما قاله هاندكه عن الحرمان من لذة التعب، والبذل النقي، والإيثار في كل علاقة إنسانية يختار أحد أطرافها أن يكون شحيحا فلا يؤدي حقا، ولا يصدق في القيام بواجب، وتكون مصلحته الخالصة مدار تصرفاته وإن أضر وآذى غيره.

 إن الذي لا يكلف نفسه تعبا لأجل صون الحقوق محروم من تذوق لذة الشعور بالانتماء، والصلة التي تهب القلب مسرّة التعاطف التي يخص الله بها الطيبين.

الطفولة والتعب:

        افتتح هاندكه سيرته مع التعب بقصة حدثت له في طفولته، فيحكي لنا أنه حضر مع عائلته ذات ليلة قدّاس منتصف الليل في الكنيسة، يقول هانكه إنه شعر حينها بتعب جسدي، لكن هذا التعب لم يكن خالصا بل تخللته مشاعر مرهقة وثقيلة؛ لأنه كان خائفا من أن تكتشف عائلته تعبه فيغادرون اجتماعهم الذي يعظمونه ويحبونه لتعلقه بدينهم، ولأنه ملتقى الأصدقاء والجيران.

وقد حدث ما كان يخشاه هذا الطفل الطيب، وتنبهت عائلته لتعبه، وغادرت الكنيسة، لكن الأمر كان أسوأ مما توقع الطفل؛ لأن عائلته أخذت تلومه على تعبه الذي أفسد عليهم اجتماعهم ولكأنه كان مسؤولا عن خذلان جسده له، فكان لومهم سببا في تضخم شعوره بالذنب، وجثم على قلبه شعور زائد بخذلان عائلته له بعدم إحساسهم بأنه كان يهتم لأمرهم.

قال هانكه: " تسللت مشاعر الذنب إلى إحساسي بالتعب حتى حوّلته إلى ألم شديد. تألمت لأني خذلت عائلتي... تألمت وكأن رأسي مربوط بشريط فولاذي، أو كأن الدم قد انسحب من شرايين قلبي وحتى الآن – أي بعد مرور عدة عقود – ما زلت أشعر بالذنب عندما يراودني الإحساس بالتعب. لكن الغريب في هذه القصة هو أن عائلتي انهالت عليّ بعبارات التوبيخ دون أن يلتفت أي منهم إلى نوبة التعب التي أصابتني.".

تعجُّب هاندكه من موقف عائلته لم يجب عنه الزمن الممتد. يروي هاندكه القصة بعد سنوات طويلة ويصف موقفهم بالغرابة، ولعل موقفهم أربك وجدانه، فكيف يسلبونه بلومهم الأمان وهو يعدّهم ركنه الشديد؟ لقد عجز هانكه -مع هذا التشوش- أن يتبيّن افتقارهم إلى النضج العاطفي.

يقول لنا هانكه - عبر قصته هذه –إن الأطفال لديهم نضجهم الخاص، وأعني بالنضج هنا الإحساس بالمسؤولية تجاه مشاعر الآخرين وحقوقهم. دعونا نتخيّل أن عائلة هاندكه تعاملت بمراعاة مع تعبه لكنها لم تدرك إحساسه بالذنب ولم يتحدث هو عنه، ودعونا نتخيل أيضا أن تعب هاندكه الجسدي كان ملازما له، وسببا في حرمان العائلة من نشاطات تهمها، كيف سيتعامل الطفل مع الشعور بالذنب الذي لم يلاحظه أحد، وما أثر هذا الشعور على اطمئنانه النفسي؟ 

الحب والتعب:

         بعد حديث هاندكه عن التعب الجسدي وآثاره الوجدانية تناول نوعا آخر من التعب، تعب منشؤه النفس لا الجسد؛ إنه تعب الأحبة بعد أن يألفوا المشاعر التي داهمت قلوبهم، كما تألف العين – بعد حين -  النور الذي يباغتها في الظلام.

        يقول هاندكه إن الحب بعد أن تهدأ سَورة البدايات، وتذهب سكرته، قد لا يكون كافيا وحده، وحينها يتنبه الطرفان إلى أنهما يجب أن يناقشا بجدية تفاصيل تتعلق باختلاف طباعهما، وقيمهما، وثقافتهما، وطموحاتهما، وتصورهما عن الحياة المشتركة.

        قد يقتحمهما الإحساس بثقل التعامل مع تعقيدات هذه التفاصيل، وقد يصد –بسببها– أحدهما عن الآخر، لكنهما قد يكتشفان لاحقا مساحات للتقارب، ويرفد الحب العقل بما يمكّنه من صون العلاقة وتنميتها.

        يقول هاندكه: " أريد أن أحكي عن أنواع أخرى من التعب، مثل ذلك التي تتسبب به المرأة، فهو أشبه بالظواهر الفيزيائية، وكأنه نوع من الانشقاق، لا يصيبني وحدي، بل يصيب المرأة أيضا بنفس القدر... ترى الحبيبين يقفان مع بعضهما، أو يجلسان معا، ليفترقا فجأة، بين عشية وضحاها، بلا رجعة... صرنا بعيدين عن بعضنا، صار كل منا غارقا في مشاعر متزايدة من التعب، لكنها مشاعر لا توحدنا، فتعبي أنا هنا، وتعبك أنتِ هناك. يمكن أن نطلق على هذا النوع من التعب اسما آخر، مثل "الفتور" أو "الغربة " لكن كلمة " التعب " تحمل في طياتها معنى " الحمل الثقيل".

        لم أقدر أبدا أن أقول لها: " أنا تعبت منك " ولم تقدر هي كذلك على البوح بتعبها على الرغم من أننا لو كنا أطلقنا تلك الصرخة المشتركة لتحررنا من جحيمنا الفردي. لقد تلبسنا شيطان التعب حتى سيطرت علينا مشاعر الخوف، ولم تنج علاقتنا إلا بعد أن تخلصنا من الخوف. ". النقل باختصار وتصرّف.

        في كلام هاندكه عن الحب والتعب نجده يتنقل بين الحديث عن الأمر بشكل مجرّد وبين تجسيده في حكاية وقعت في سياق معيّن، ولكأنه كان مترددا في أن يبوح بقصته الخاصة، فاختار الجمع بين العام والخاص، وكان أسلوبه فيه تهذيب، وصدق، وتأمل لطيف.

الكتابة والتعب:

        تتصل الكتابة بالتعب، يرافقها وترافقه، تعب حال الكتابة، وتعب بعد الانتهاء منها، إنه تعب ينهك الجسد، لكنه قد يرتقي بالروح، فتصبح أكثر نقاء وإخلاصا لقيمها، ويفتح لها نوافذ جديدة في صلتها بالناس والحياة.  وقد يكدّر تعب الكتابة الروح بالغرور والاستعلاء على من لم ينعم بلذة المعرفة، والغوص في بحرها، واستخراج كنوزه عبر الكتابة.

يقول هاندكه: " احترفت الكتابة، وواظبت عليها زمنا، وعندما أخرج إلى الشارع كنت أشعر وكأنني فقدت صلتي بكل من حولي، وكان انعزالي هذا يفرز بداخلي إحساسا عذبا، لم يكن المجتمع غير متاح لي، بل كنت غير متاح للمجتمع، ولكل من حولي. لقد تحوّلت إلى كتلة من الغرور. صرت شخصا باردا يحتقر الآخرين، ويقلل من شأن المهن الأخرى (التقليدية)، التي لا يمكن أن ترقى إلى مستوى: "التعب الملكي" الذي يتسلل إليّ أثناء تأدية عملي. فبعد الانتهاء من الكتابة، حرصت على أن أظل "ممنوعا من اللمس " وكأني متوّج على عرشي." النقل باختصار وتصرّف.

لم ينقذ هاندكه من لعنة الغرور التي أصابته إلا وقوعه في تجربة قاسية -لم يتحدث عن تفاصيلها-أعادت له إنسانيته، وتوازنه العاطفي، وتواصله المعتدل مع الناس.

بعدها استلهم هاندكه من تعب الكتابة نوعا مختلفا من التواصل مع الناس. يقول هاندكه: " فمع ذلك التعب الذي تصاحبه البصيرة، يحكي العالم قصته دون كلمات، في طيات السكون التام. يقصّها عليّ، ويقصّها على هذا الشيخ الذي يجلس هنا بجواري، ويقصّها على تلك المرأة الجميلة التي تمر من هناك. تتشكل تلك القصص من تلقاء نفسها أمام عيني. " . النقل باختصار وتصرّف.

تجليات التعب :

        ارتحل بنا هاندكه -من خلال سيرته الشخصية -عبر تجليات التعب على أخلاق الإنسان، وقيمه الوجودية، وعلاقاته الأسرية والاجتماعية، ونضجه فكريا ووجدانيا. وقد كانت رحلة ثرية أدبيا وإنسانيا في كتاب لطيف الحجم يبلغ عدد صفحاته ست وخمسين صفحة. وقد قدّمت في هذا المقال قراءة في بعض محطات هذه الرحلة.

 ترجمت الكتاب: د. رضوى إمام، وقد أعجبتني سلاسة لغة الترجمة لولا صعوبات تتعلق بكون بعض فقرات النص مكثفة المعنى، ولعل المترجمة لو بسطت تلك المعاني لتجلّى المقصود منها تجليا تاما.

 ألف هاندكه الكتاب في عام 1989م، وقد نشرت الكتاب مترجما إلى العربية دار صفصافة للنشر في القاهرة  في عام 2020م.

 

 

 

 

       

       

 

 

 



[1] كاتب ومترجم نمساوي، حاصل على جائزة نوبل للآداب للعام 2019.