الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

وماذا أيضا أيها القدر؟

 

في ديسمبر 2021م قرأت كتاب: " الكاتبات والوحدة" للأستاذة: نور ناجي، كان الكتاب ثقيلا بالألم، والخذلان، وقسوة الانكسارات، ووجدتني أكتب عن أثر الرؤية التي يعتنقها المرء في صلابته في مواجهة ظلمة الأيام، وكان القدر يراقبني بصمت ليعلمني درسا جديدا في التواضع أمام تجارب الناس ومعاناتهم.

كنت قد سرت عاما كاملا في طريق خلقت فيه رؤيتي الجديدة لنفسي وللحياة، كنت ممتلئة بما تعلّمته، وأيقنت – وقتها-  أن العقل إذا ائتلف مع الوجدان معرفيا استنار الطريق فلا كدر ولا غبش.

وخرج القدر عن صمته، وأهداني امتحانا جديدا لإنسانيتي، كان امتحانا قاسيا، جعلني أسقط في هوة نفسية مؤلمة، ووجدتني أتعامل مع المنطقة العمياء في روحي من جديد. أين كل ما تعلّمته؟ أين القوة التي كانت تملأ قلبي؟ أين الفهم الذي كنت أظن ألا ظلمة بعده؟

كل ذلك كان حاضرا، لكنه كان عاجزا عن مساعدتي لحين. كان القدر يريد مني أن أعيش الحياة بنفسية المتعلّم التي يزيّنها التواضع، والذي لا تغيب عن قلبه دهشة الأسئلة.

يقول ستيفان زفايغ في كتابه عن ماري انطوانيت: " ما يقرر العلاقات إنما هو المهارة لا القوة، وعلوّ الإرادة لا سمو العقل".

لا يكفي أن تمتلك عقلا راجحا، وفهما ناضجا، وإنما يجب أن يرافق ذلك امتلاكك للمهارة والإرادة بما يمكّنك من إدارة علاقتك بنفسك والناس والحياة.

كان هذا هو أهم درس تعلّمته في عام 2022م، لا ليس أهمية الاجتهاد في سياسة النفس للتحقق بالمعاني التي نؤمن بها أو ما أسميه: (ما بعد الشفاء بالمعنى)، نعم، هذا درس مهم أهداني إياه القدر هذا العام، لكن الدرس الأهم هو ألا يغرّني فهم ولا نضج ولا تحقق وأن أعيش أيامي بقلب يرافق الأسئلة وترافقه، وعقل يحترم عقول الناس وآرائهم ومواقفهم دون أن يحاكمها أو يتخذ من قطعياته قاضيا وخصما.

الخوف من الخمسين:

       نعم، لقد بقي عامان وأدخل بوابة الخمسين – اللهم عفوك وعافيتك-، لقد ظللتني هذه الفكرة طيلة هذا العام بأسئلة وجودية مربكة، كيف مرّ العمر، ومتى؟ كنت أظن أني سأبلغ هذه المرحلة بوصف نفسي مختلف، لكني أعيش وجدانا تتخلق فيه الأسئلة وتتجدد.

       كتبت أريكا يونغ عن " الخوف من الخمسين" واقتنيت كتابها لعلي أجد فيه حديثا يؤنسني ويعلمني، لكني وجدت فيه تجربة لا تشبهني ولا تقترب من روحي وعقلي، وعزمت أن أعيش تجربتي بطريقتي.

العمر ليس مجرد رقم، نحن ندرك ذلك جسدا، وندركه عقلا، وندركه تجربة وشعورا، لكن العمر هو وسيلتنا إلى الامتنان لهدايا القدر من الفهم، والنضج، والوعي، والتواضع؛ لنكون سندا لمن حولنا، وأمانا لأحبتنا، وأكثر إدراكا لقيمة أن نعيش الحياة أكثر اتساقا مع قيمنا، وأكثر صدقا، وأكثر هدوءا، وصبرا، ورحابة، ومع ذلك كله وقبله وبعده أكثر تسامحا وتعاطفا مع أنفسنا والآخرين.

كتب وأشياء أخرى

       الكتابة بالنسبة لي فعل وجودي فليس من السهل عليّ مثلا أن أكتب قراءة في كتاب لم يلمس روحي أو يهدي عقلي إشراقة ما، لذلك أعد القراءات التي أقدمها في مجلة الجوبة نصوصا وسيطة، وأحيانا تكون أقرب لأن نسميها نصّا في أفياء الكتاب أو على شاطئه كما في قراءة كتاب: " توقف عن البقاء وحيدا " لكيرا آساتريان.

       وفي هذا العام 2022م بدأت الكتابة مع موقع: حجرة ورقة مقص وهو موقع يقدّم مقالات رصينة فكرية ونفسية واجتماعية. أهمية تجربتي مع هذا الموقع تنبع من أني قدّمت مقالات تمزج بين الإنساني والشرعي وفقا لرؤية رحبة مرتكزها السلام         لا الصراع.

       وفي هذا العام أيضا بدأت طريقا مهنيا جديدا عبر تحرير الكتب مع إحدى شركات المحتوى، مستمتعة بالتجربة لأنها تصب تماما فيما أحب عمله، صحبة المعاني، وإعادة خلقها وتشكيلها منهجا وصياغة.

آمنة وإثراء

       هل نفخر بنجاح أبنائنا لأننا جزء منه؟ الأمر ليس مطلقا، لكن إذا كنا جزءا من الرحلة الخاصة لنجاح معيّن أكرمهم الله به، فيحق لنا حينها أن نفخر بثمرة جهد وفقنا الله إليه، ووقت قمنا فيه بواجبنا بحب وصبر ومثابرة.

       ترشحت آمنة للمرحلة الثالثة من مسابقة (أقرأ) التي ينظمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي (إثراء)، وسافرت معها إلى الخبر لحضور المخيم الإثرائي، وكانت تجربة أضافت إلى آمنة إنسانيا وثقافيا، وخلقت هذه التجربة مساحة مشتركة جديدة بيني وبينها، مساحة خلقتها أياما عشناها خارج السياق اليومي المعتاد، وأنسنا بأوقات ثرية بالاحترام والثقة والمساندة والحب. وكانت بداية المخيم الإثرائي في يوم 26 نوفمبر يوم ميلاد آمنة لعامها العاشر ولكأنه إشارة من القدر إلى أن المخيّم هو هديّة ربّانية تعيننا على حسن الظن برب كريم لطيف خبير.

       أحببت الخبر، أحببت هدوءها ورقيّها، وطيبة أهلها وروحهم الودودة والمضيافة، وعشت تغييرا كنت بحاجة إليه، وكسبت صداقات أعتز بها.

قرارات مؤجلة

       لا أحب المساحات الرمادية؛ لكن الأيام علمتني أن الرمادي هو لون الحكمة أحيانا. الصبر قوة وطيبة، أذكر نفسي بذلك كلما أرادت أن تتعجّل.

ولا زلت أحاول

       جوهر إنسانيتنا هو المحاولة، المحاولة لفعل ما نتيقن أنه صواب، أو ما نرجح أنه صواب. والرجحان كاف وطلب اليقين قد يؤدي بنا إلى ظلم أنفسنا.

الخطأ لا يعرّفنا ولا يلطخنا ما دمنا لا نتكبر عن الاعتراف به، وما دامت أخطاؤنا ليست ظلما نرد الحق به، أو نحتقر به الآخرين، ونصد تجبّرا عن إيفائهم حقوقهم.

       شرف المحاولة هو شرفك الإنساني الذي تشرق به نفسك وتتجدد. اللهم توفيقك إلى محابّك من الأعمال، وعفوك، وعافيتك.

الاثنين، 3 أكتوبر 2022

قراءة في كتاب: " عندما تحب النساء أكثر مما ينبغي "

 * نشرتُ هذه المقالة في مجلة الجوبة العد 76/  أكتوبر 2022م . 

توطئة :

" إن الألم الذي تشعر به إنما هو تحطيم للقشرة التي تغلف إدراكك " .

   جبران خليل جبران .

       يحدثنا د. ديفيد دي. بيرنز في كتابه : " الشعور الجيد " عن أن كتب المساعدة الذاتية الجيدة تقوم مقام الإخصائي النفسي في مساعدة كثيرين ممن تساعدهم طبيعتهم النفسية على الاسترشاد بالمعاني المسطورة، وتكشف لهم من أحوال نفوسهم، وحاجاتها، ما يعينهم على الخروج من أزماتهم، وصراعاتهم الوجدانية.

 وقد اختبرت ذلك بنفسي عبر كتب كانت بمثابة المرشد والمعلم الذي أخذ بيدي في مضائق الدروب، ومما تعجبت له أني كنت أشعر بلذة معرفية في هذه الرحلة، لذة لا تفترق عن تلك التي يجدها الباحث والمتعلم في قاعات الدرس، أو في رحاب معتكفه البحثي الخاص، لكن هذا الكتاب : " عندما تحب النساء أكثر مما ينبغي " للكاتبة والأخصائية النفسية روبين نورود عرفت معه معنى معرفيا جديدا، المعنى الذي تحدث عنه جبران حين قال : " إن الألم الذي تشعر به إنما هو تحطيم للقشرة التي تغلف إدراكك "، نعم، لقد كنت أشعر بألم تحطيم القشرة التي كانت تغلّف إدراكي، لكنه ألم يداوي ولا يجرح ، ينهض بروحك لتبصر معان جديدة تعينك لتكون إنسانا أفضل .

ميراث الطفولة :

          الفكرة الرئيسة التي يركز عليها الكتاب هي أن طفولتنا تصنع أسلوب علاقاتنا، فالطفولة المضطربة في أسرة اختلت فيها العلاقة بين الوالدين من جهة، وبين الوالدين والأبناء من جهة أو تعرّض فيها الطفل لصدمات نفسية مستمرة، تصنع هذه الطفولة المضطربة اختلالا في علاقات هؤلاء الأطفال عندما يكبرون، فيتعثرون في علاقات غير صحية، ويجدون صعوبة في إدراك سبب عجزهم عن بناء علاقات متوازنة وداعمة.

لا أجد أن من المنهجي التأكيد على هذه الحتمية بين الطفولة المضطربة والعلاقات المضطربة، فلعل عوامل داخلية أو خارجية يكون لها الأثر الجيد في تخليص ميراث الطفولة القاسي مما شابه من صدمات.

زخر الكتاب بالأمثلة التي تشرح الأزمات النفسية التي يعانيها الطفل في أسرة ذات علاقات مختلة، وتجليات هذه الأزمات على سلوك الطفل، مما يجعل الكتاب ينتمي إلى حقل الكتب التربوية بقدر انتمائه إلى حقل الكتب التي تتناول مسائل العلاقات، إذ يحمل الكتاب في طياته إشارات تربوية جليّة تنبه الأمهات والآباء إلى أمور ينبغي عدم إهمالها، فإن حصل تفريط متعلق بها وجبت معالجته وإلا وقع الوالدان  في (كبيرة ) تربوية إن صح هذا الدمج بين ما هو فقهي وما هو تربوي ، وهو عندي صحيح لأننا محاسبون على التربية الحسنة، وليست الوالدية تشريفا مطلقا بل هو مقيد بأداء حقوق الأبناء التربوية.

يحدثنا الكتاب عن أن الطفل المرح، الذي يبدو أنه غير مكترث لاضطراب العلاقة بين والديه، هو في الحقيقة يهرب من خوفه من انهيار الأسرة إلى الاضطلاع بدور المنقذ لتكون طريقة تفاعله عاملا مساعدا في تهدئة العلاقة بين والديه.

ويحدثنا عن أن الطفل الذي يبدو لوالديه غير مهتم إلا بدراسته وتفوقه هو في الحقيقة يفعل ذلك لأنه يريد أن يفعل شيئا صائبا يحث والديه على الحفاظ على كيان الأسرة، ولكأنه يشعر بذنب خفي إن قصّر في أن يحافظ على الأسرة من خلال نجاحه الدراسي وهو في ذلك يحمّل نفسه عبئا سريا ثقيلا، ومسؤولية لا تتعلق بحلمه الخاص بل بالحفاظ على لم شمل الأسرة.

كما يحدثنا عن الطفل الذي يقوم برعاية والدته أو والده عند انهيار أحدهما بسبب مشكلات في العلاقة مع الآخر، وكيف أنه ظاهرا يبدو متماسكا وملاذا آمنا لوالديه أو أحدهما، وتبدو علاقته بهما علاقة ناضجة، وهي في الحقيقة علاقة تسلب أمان الطفل وحقه في أن يحيا طفولة يكون فيها الأبوان سندا له لا العكس.

 لقد شعرت كأني أسبح في بحر عميق غوره، ولكأن الكاتبة أرادت ببحر الأمثلة هذا أن تدرب عقول المربين على طريقة نظر تربوية جديدة تخلق في داخلهم ملكة تجعلهم في حال يقظة تدرس سلوك أطفالهم دراسة  تتجاوز ظاهر السلوك إلى باطنه المتعلق بالدوافع، وتتحقق من تلبية حاجات الطفل العاطفية الضرورية ومدى إشباعها وفقا لمتطلبات نموه النفسية .

 في رحلتي التربوية كأم ، قرأت كثيرا من الكتب التي تتحدث عن ضرورات الطفولة النفسية، لكن أيا منها لم يجعلني أشعر بالألم الذي يعتصر القلب كما فعل هذا الكتاب، لا يمكنك كقارئ ألا تتألم وأنت تقرأ قصص معاناة الأطفال، والصراع النفسي العنيف الذي يقاسونه وهم يرجحون كفة أن يشعروا بالأمان العاطفي ولو كان أمانا زائفا عبر سلوكيات ظاهرة تتناقض مع ضروراتهم النفسية المتعلقة بأن يعيشوا طفولتهم ولا يغادروها، وأن ينالوا حقهم الكامل في  الحنان والتقدير والمساندة والقبول .

 ولعل مما ساعدني على التوازن – الوجودي-حيال مشاعر الألم الذي صاحب الإدراك التربوي الذي خلقته قصص معاناة الأطفال المذكورة في الكتاب هو ما قرأته في كتاب: " تربية خالية من الدراما " من أن ما تقرر من أن  ارتباط صدمات الطفولة -المتعلقة بالبيئة الأسرية غير المستقرة، أو إساءة المعاملة من الوالدين، أو تعرّض لأذى مستمر في بيئة الطفل- بالأمراض النفسية والعقلية في مرحلة الشباب ليس ارتباطا لا يمكن معالجته؛ ذلك أن البنية المادية للمخ تتغير وفقا لما يحدث لنا، فلو  أنك عاملت طفلك معاملة سيئة أو خاطئة في زمن ما فلا زال الوقت أمامك للإصلاح وسيستجيب مخ طفلك ونفسيته لتغير معاملتك، ولكأن الحسنات يذهبن السيئات هي قاعدة تشمل السلوك التربوي، فأثر القسوة يمحوه الحنان ، وأثر الإهمال يمحوه التقدير والاحترام وأن تُشعر طفلك بأنك سند له، وأثر الفوضى والتذبذب يمحوه الانتظام في المعاملة الرحيمة المتوازنة التي تشعر طفلك بالأمان، وأثر التأنيب واللوم المستمر المتعلق بالكمالية يمحوه أن توصل لطفلك أنك تقبله دون شروط وأنك تقبل جوانب ضعفه كما تقبل جوانب قوته، وأثر كل خلل تربوي يمحوه السلوك الراشد الذي يجتهد الوالدان لتعلمه عبر الكتب التربوية أو الاستشارات أو الدورات.

ولعل المؤلفة في غمرة استغراقها في بيان أثر ميراث الطفولة المضطربة على العلاقات قد فاتها أن تعرّج على هذه الفكرة وكنت أتمنى لو أنها لم تغفل عنها ليس فقط لكونها ذات صلة وثيقة بموضوع الكتاب لكن لأنها نافذة أمل ضرورية وجوديا وتربويا ونفسيا.

سؤال جديد  وعي جديد

          الكتاب الجيد ليس فقط هو الكتاب الذي يقدم إجابات مكتملة أو مقاربة أو ملهمة عن سؤال يحيّرنا، لكنه أيضا قد يكون الكتاب الذي يطرح على القارئ سؤالا لم يتنبه له من قبل، فيقرأ المشهد المتعلق بالسؤال من زاوية جديدة تجعله يراجع رؤيته للأمر ككل .

          في ثنايا الكتاب وقصصه المزدحمة قفز أمامي هذا السؤال : هل ما يجمع بين هذه القصص التي تتحدث عن علاقات غير صحية هو أن أبطالها لم يدركوا أن العلاقات هي وسيلتهم لتجنب أنفسهم، وتجنب بناء علاقة آمنة بها، ولأنهم غير قادرين على صحبة أنفسهم فإنهم يستعيضون عن ذلك بالانغماس في علاقات غير صحية .

          الفكرة المهمة التي لفتت نظري في الكتاب هو أنه لا يتحدث عن أشخاص سيئين أصالة هو يتحدث – في المجمل - عن أناس يحبون الخير، ويحبون أن يكونوا أناسا جيدين، لكن لديهم عيوبهم المتفاوتة المتعلقة بالضعف البشري والتي تحتاج منهم إلى وقفة جادة لأنهم يؤذون أنفسهم ومن يحبونهم بسبب أنهم ينقصهم الوعي والرشد النفسي. .

          الكتاب وإن ذكرت المؤلفة أنه موجه بشكل أساسي للنساء الذين تسببت صدمات الطفولة في عدم قدرتهن على بناء علاقات صحية وصرن يخترن شركاء غير مناسبين لأنهم يوفرون لهن النمط الذي تعودن على التعامل معه في طفولتهن، فإنا نجد في الكتاب تنبيها على تعقيد العلاقات الزوجية و أن النية الحسنة وحدها لا تكفي لجعل هذه العلاقات صحية وغير مؤذية لأصحابها، والمشكلات التي يناقشها الكتاب لا تختص بها النساء وحدهن إذ يدرس الكتاب الحيل النفسية الخفية التي قد نلجأ إليها ذكورا وإناثا دون أن نشعر لنحمي أنفسنا من مخاوفنا الداخلية الدفينة سواء تلك التي تشكلت من خلال صدمات الطفولة أو التي ارتبطت بأوضاع حالية متذبذبة ومتطرفة نعجز عن التعامل معها .

          لقد قرأت في كتب متفرقة بعض الأفكار التي وردت في الكتاب لكن هذه الأفكار لم تستبن لي بوضوح إلا عبر هذا الكتاب، لأنه استعان بجنود مهمة لبيان أفكاره وهي القصص الذي ازدحم بها الكتاب لكنه الازدحام الذي يخدم الأفكار ويجليها بحيث تتحول الفكرة إلى حالة شعورية تساعد العقل على الفهم العميق لها .

من هذه الأفكار فكرة النمط القهري لعلاقات الطفولة إذ يحتشد الكتاب بحكايات لعلاقات لم يكن الحب فيها كافيا لجعلها علاقات مشبعة عاطفيا يتحقق فيها السكن والأمن النفسي بسبب أن الطرفين أو أحدهما عاجز عن السماح للطرف الآخر بالاقتراب من عالمه الداخلي لأنه لم يعش هذه الخبرة في طفولته فتظل العلاقة سطحية تنقصها الثقة العميقة مهما بدت مفعمة بالمشاعر الطيبة .

ومن هذه الأفكار أيضا أن البالغين الذين عاشوا طفولة تفتقر للأمان، واعتادوا على مواجهة هذا الافتقار بنمط معين من التصرفات عبر تحمّل مسؤولية الحفاظ على العلاقة بين الأبوين، فإنهم قد يتوجهون لاختيار شركاء لديهم أوضاع خاصة تجعلهم في حاجة إلى الدعم، وهذا الاختيار يجعلهم يشعرون بأن هؤلاء الشركاء لن يغادروهم، وتهدأ مخاوفهم الداخلية من التعرض للرفض أو الهجر ، بل إنهم يطورون –من حيث لا يشعرون – سلوكيات متلاعبة تحاول الحفاظ على شركائهم في حالة احتياج دائمة إليهم ،وهو أمر لا يستمر وتؤول العلاقة إلى الأذى والإحباط لطرفيها بل ولتأذي الأطفال إن وجدوا بسبب نشأتهم في بيئة غير سوية .

الكتاب يقرع جرس تحذير من أن ما يبدو لأصحابه حبا قويا جارفا هو في حقيقته تعلّق غير سوي يرتبط بمشكلات نفسية حقيقية، ومن علامات ذلك أن المتعلّق يعاني فراغا داخليا موحشا يحاول إشباع هذا الفراغ بأنماط سلوك غير سوية في علاقته بمن يحب وهو في ذلك يهرب من مواجهة مخاوفه وآلامه الداخلية وعدم قدرته على أن يكون في علاقة آمنة مع نفسه، وما قد يبدو عطاء كريما للمحبوب هو في حقيقته حيل ماكرة لمحاصرته، والسيطرة عليه، ويؤول الأمر إلى علاقات موجعة متكررة، وغربة داخلية لا تنقضي .

رحلة الشفاء:

          تبدأ هذه الرحلة من الوعي المؤلم الذي تحدث عنه جبران ، شرح مفصل -عبر القصص الثريّة -لأثر صدمات الطفولة التي لم تعالج على خلق أنماط علاقات متلاعبة، حشوها إنكار المشاعر العميقة، وإن بدت ظاهرا علاقات يهتم أحد طرفيها برعاية الطرف الآخر ومساندته.

يقول الكتاب إن الإنسان إذا لم يكن على علاقة سويّة بنفسه، يعرف لها قدرها، ويحفظ لها حقها المتعلق بقيمها، وحاجاتها، فإنه -من حيث لا يشعر -–سيؤذي نفسه وشريكه في الحياة، وأن المساندة الحقيقية هي التي تنطلق من قبولنا للطرف الآخر، وقبولنا لطريقته الخاصة في النهوض بنفسه، وإصلاح عثراته، وأن التدخل في طريقة تعامل الطرف الآخر مع ضعفه وأخطائه هو نوع من أنواع التحكم المتلاعب، ومؤشر ظاهر على حاجتنا لمراجعة سواء علاقتنا بأنفسنا.

يقدّم الكتاب رؤية واضحة لقضية اضطراب العلاقات الزوجية المتعلقة بصدمات الطفولة المؤثرة التي لم تعالج، ويضع خطوات تفصيلية ليستعان بها على الشفاء، لكن لعل المؤلفة جانبها الصواب فيما قررته من فعالية المعالجة الذاتية أو الجماعية لصدمات الطفولة بدون أن تشترط الاستعانة بمتخصص في هذا المجال. وقد نبهت إلى وجوب الاستعانة بمتخصص عند معالجة صدمات الطفولة د. هبة حريري –معالجة نفسية وأكاديمية وباحثة سعودية- في بودكاست :"مع هبة حريري ".

ختاما : لقد حرصت على عرض الكتاب بطريقة تقدّم خلاصات كلية  لأن الكتاب يفتح آفاقا للعقل والنفس تتجاوز موضوعه الخاص إلى موضوعات أوسع تتعلق به نوع تعلق .

ممتنة حقا للترجمة الجيدة التي قدمتها د. إيناس التركي للكتاب، و قد شعرت بهذا الامتنان مرات كلما قرأت عبارات أفادت المعاني العميقة بوضوح ينم عن تمكن وأصالة. وممتنة أيضا لدار الكرمة على هذا الإصدار المهم . وممتنة لتطبيق أبجد الذين وفروا الكتاب بعد طلبي ذلك منهم بأيام قليلة .

يقع الكتاب في 335صفحة لا حشو فيها ، و نشرت الطبعة الأولى للكتاب باللغة الإنجليزية في عام 1985م ، و نشر الكتاب مترجما إلى اللغة العربية في هذا العام 2022م .

                                                                 كتبته : صفية الجفري . 

                                                          

                            

 

         

 

 

         

 

 

         

 

         

 

         

 

 

الاثنين، 20 يونيو 2022

قراءة في كتاب : توقف عن البقاء وحيدا *

 

تمتلك صداقات قديمة سرت معها في دروب الأمل والألم معا، صداقات لا تجد حرجا في مكاشفتها بما يقلقك أو يكدرك، صداقات تتبادل معها حكايات الفرح وقصص الشجن والمعاناة، لكنك مع هذا كله تشعر بوحدة وجودية تبعثر دواخلك، كيف يجتمع هذا و ذاك ؟

كيف يجتمع شعورك بالوحدة مع صداقات تثق بها وتطمئن إليها؟. ما الذي تفتقر إليه الروح لتسكن ؟ قرأت عبارة في رواية عشر نساء للكاتبة : مارثيلا سيرانو كانت مفتاحا لما ظننته جوابا عن سؤالي المرتبك . 

تقول مارثيلا سيرانو : " ... فقيمة البشر هي في قدرتهم على الانفصال ، على أن يكونوا مستقلين ، أن ينتموا إلى أنفسهم وليس إلى القطيع. " .

هل الجواب يتصل إذن بأن نجد ( المعنى ) الخاص بنا ، وأن نسير في رحلة التحقق به ؟ . ظللت أتلمس جوابا لسؤالي في قراءات متنوعة ، وفي تجربتي الذاتية ، فوجدت أن جزءا من جواب سؤال الوحدة، والأساس المتين لسكينتنا الوجودية هو أن نعمل على علاقة واعية بأنفسنا ، وأن نمتلك رؤية واضحة حيال رحلة  ( المعنى )  الخاصة بنا ، لأن رحلة الطمأنينة تبدأ من معرفة النفس ، وتقبلها ، وإعطائها حقها من حسن المعاملة ، وتزكيتها، ثم استكشاف قيمها الذاتية، وإدراك ( المعنى) الخاص بها ثم إعادة صياغة قصصنا في ضوئه ، ورسم طريقنا في الحياة وفقا لمنطلقاته ومقاصده .

وظللت مع الإجابة الناقصة تأنس بسؤالي ، وآنس بحكمتها ، وأسير في طريق التعلم عن عالمي الداخلي حتى التقيت بكتاب : " توقف عن البقاء وحيدا ". لكيرا أساتريان[1] .

كانت رحلتي مع كتاب :" توقف عن البقاء وحيدا " رحلة تتجاوز ظاهر النص إلى الاستنباط ، ووجدت فيه جوابا عن سؤال الوحدة في تجليات متنوعة .

تحدثت كيرا آساتريان في الفصل الأخير من كتابها عن الاقتراب من النفس، وضمنته كل الآليات التي بثتها في باقي فصول الكتاب التي تتعلق بالاقتراب من الآخرين. أظن أن كيرا أرادت أن تحفز الخيال المتعلق بالذكاء العاطفي للقارىء ليتبنى في علاقته بنفسه كل ما أدركه من معلومات تخلق علاقة جيدة مع الآخرين .

ما ذكرته كيرا آساتريان في الفصل الخامس عشر والأخير بعنوان :" اقترب من نفسك " يقارب إلى حد كبير ما قدّمت به جوابي عن سؤال الوحدة ، ولعل  طريقتها في عكس الجواب ، وابتدائها بما هو أساس لبناء علاقة جيدة مع الآخرين  هي أقرب لإشراق المعنى في نفس القارىء .

تقول كيرا : " بنفس الطريقة التي تنجذب بها بشكل طبيعي إلى صفات معينة لدى الآخرين ، فمن المحتمل أن تنجذب إلى صفات معينة في نفسك . قد تكون فخورا بحقيقة أنك تعمل بجد دائما . قد ترغب في قدرتك على رؤية الدعابة في جميع المواقف لرؤية الجانب المشرق من الحياة . قد تشعر بالثقة في أن لديك قلبا دافئا أو عقلا قادرا ... تماما كما هو الحال مع الأشخاص الآخرين ، فهذه هي الأشياء التي ترغب في معرفة المزيد عنها ويجب عليك متابعتها ... إن التعرّف على عوامل الجذب هذه مفيد للغاية أيضا في خلق التقارب مع الآخرين لأنها غالبا نفس الصفات التي ينجذب إليها الآخرون فيك . إن فهمها سيجعلك أكثر وعيا بأنواع الأشخاص الذين تجذبهم . هذه معلومات ممتازة بالنسبة لك وأنت تسعى إلى التقارب مع الآخرين . " .

التقارب :

        تعرّف  كيرا آساتريان الوحدة بأنها الحزن الناتج عن المسافة ، وتقول إن كثرة الأشخاص حولنا ، بل وتواصلنا معهم لا يحل مشكلة المسافة إن لم نستطع الدخول إلى العوالم الداخلية عبر التقارب بركنيه : المعرفة والاهتمام.

       لقد قدّمت مقالتي بأكثر صور الوحدة تعقيدا ، صداقات عمر أو علاقات عائلية مستقرة تحيط بنا، ونتحدث معها وإليها عن تقلباتنا في الحياة في بوح تصحبه الثقة بمحبتهم لنا ، ومع ذلك نحن نشعر بالوحدة تبعثر دواخلنا .

      هذه الصورة من صور الوحدة تبدو لنا قاسية تفتقر إلى انشراح الأنس والطمأنينة  ، لكن قسوتها تخف وطأتها إلى حد كبير عندما نبني علاقة حكيمة مع أنفسنا ، ونتحقق بالمعنى الخاص بنا ، أو كما عبّرت كيرا آساتريان عندما  " نقترب من أنفسنا " وينجلي عن هذه الصورة كل أثر للقسوة وتكتسي خضرة مبهجة عندما نتعلم كيف تكون علاقتنا بالآخرين مبناها معرفة عوالمهم الداخلية من وجهة نظرهم هم ، والاهتمام الصادق والحثيث بأن يكونوا في حال طيبة بالطريقة التي تناسبهم .تقول كيرا آساتريان :   " تتطلب العلاقة الوثيقة طويلة الأمد مشاركة منتظمة في فعلي المعرفة والاهتمام " .

المعرفة  :

      في رواية :" فديتك يا ليلى"  ليوسف السباعي نجد هذا النص العميق : "  دع كل امرئ يدبر أمره من وجهة نظره هو، إنه أدرى بمطالبه ومشاعره، وهو مسؤول عن حياته، وعن نتائج أعماله، وإذا كان     لا بد لك من أن تدبّر أمره، فافهم نفسيته، وقدّر مشاعره،  وليكن تدبيرك ما أمكن من جهة نظره، وبطريقة تفكيره. "

    تحدثنا كيرا آساتريان عن أن الغوص في العوالم الداخلية لمن نريد أن نقترب منه لنتخلص من وحدتنا    لا يمكن إن لم نحاول تبني وجهة نظره في رؤيته للأشياء ، وإحساسه بها : تقول كيرا  " إنها القدرة على سرد تجربة شخص آخر عن العالم بكلماته الخاصة ." ، وجعل ذلك أساسا في سماعنا لحكاياته والأحداث التي يمر بها .

 تقول كيرا آساتريان : " تختلف طريقة المعرفة هذه اختلافا جوهريا عن الطريقة التي نعرّف بها الناس عادة. نميل إلى الاعتقاد إلى أننا نعرف شخصا ما عندما تفاعلنا معه كثيرا وانتهينا بصياغة فكرة عامة حوله ومن ذلك مثلا : آشلي دائما متأخرة... هذا النوع من المعرفة الكاذبة لن يولّد التقارب ، إنه خطأ لأن الصورة الموضوعية ل" كيف تكون آشلي " غير موجودة ، نحن لا نعرَف آشلي بالفعل حتى يمكننا وصف تجربتها من خلال تأخرها من وجهة نظرها. غالبا ما تتأخر آشلي لأنها تحاول فعل الكثير من الأشياء، إنهاء الغسيل ، وكتابة البريد الالكتروني العاشر، كل ذلك قبل الذهاب لموعدها وهي على أمل اللحاق به ، نسختنا من القصة : آشلي دائما متأخرة ، ونسختها من القصة : " أحاول دائما فعل الكثير من الأشياء"." اهـ بتصرف يسير.

الاهتمام :

في أغنية : " فاضي شوية " لحمزة نمرة شرح بديع لعلاقة الشعور بالوحدة بالتقصير في الرعاية والاهتمام سواء كان هذا التقصير نتاج غفلة عن الصداقة كأولوية ضرورية أو عن إهمال، أيا كان السبب فهذا التقصير إن لم تتم معالجته فالعلاقة قد تؤول إلى أن تكون سببا للوجع وقد تموت كزرع أهمل صاحبه سقياه .

تقول الأغنية :

آه يا سلام سيبنا الوقت يعدي قوام

محسبناش اللحظة الجاية

ده اسمه كلام عيشنا العمر نربي حمام

بس نسينا نقوّم غيه .

وما يهمكش عادي اسمع مني الساعة دي

مش وقت عتاب أو لوم

آه فيها ايه لو نرجع تاني

وبدل ما تكون وحداني تسندني معاك وتقوم

فاضي شوية نشرب قهوة في حتة بعيدة

اعزمني على نكتة جديدة وخلي حساب الضحكة عليا ..

    تتحدث الأغنية بشجن  عن الأصدقاء الذين تشاركوا كل شيء لكنهم نسوا أن يجعلوا لعلاقتهم مأوى يحميها عبر الرعاية والاهتمام : " عشنا العمر نربي حمام / بس نسينا نقوّم غيه " .

    تنبهنا كيرا آساتريان إلى أن الرعاية هي فعل يشعر الطرف الآخر بالتقدير والاحترام ، أنت تهتم به بالطريقة التي تناسبه ، والتي يحبها، وتهتم به من حيث نظرته للأمور لا من موضع استعلاء ، أنت تفكر معه ولا تفكر عنه ، أنت تقلق معه ولا تربكه بالقلق عليه بحيث يشعر بعدم الكفاءة .

   كما تنبه كيرا آساتريان إلى أن الأمر ينبغي أن يكون متبادلا  لكي تنجح العلاقة . تقول :"التقارب مبدأ بسيط : إنه تجربة الوصول إلى العالم الداخلي لشخص آخر – ولديه إمكانية الوصول إلى عالمك- فإنك تشاركه الشعور بالتقارب ... وبما أن الوحدة هي في الأساس حزن ناتج عن المسافة ، كلما زاد وصولك إلى العالم الداخلي لشخص آخر، قلّ شعورك بالوحدة ... يعمل التقارب كترياق للوحدة من خلال إبطال المسافة والحزن الذي يصاحبها ." .

التكنولوجيا كعقبة :

  ترى كيرا آساتريان أن التكنولوجيا الشخصية وضعت عقبات في طريق إنشاء علاقات صحية إذ أنها تجعل التفاعل الوسيط هو القاعدة والصواب أن يكون وسيلة مساعدة لا تلغي اللقاءات وجها لوجه .

    تؤمن كيرا آساتريان أنه لا يمكن التعرّف على العوالم الداخلية عبر التواصل المجتزأ ، لغة الجسد بكل تفاعلاتها أساسية ، ذلك أن عملية التعرف على عوالمنا الداخلية هي عملية مستمرة ، ولا يؤتي الاهتمام ثماره إن لم نولي التعرّف العميق المستمر أولوية في العلاقات، لأننا نتغير بشكل حتمي ، وهذا التغير هو نتاج تغيّر خبراتنا الجسدية والعقلية والنفسية .

     تنبه كيرا آسارتيان أيضا إلى أن " عقلية التكنولوجيا"  أثرت في صياغة ثقافتنا في التقارب ، لقد تعودت عقولنا على سهولة الوصول إلى ما نريد الوصول إليه تقنيا عبر الوسائط الذكية ، وطرق البحث المتقدمة، وبتنا نعتقد أن طريق تحقيق التقارب لا يحتاج إلى استكشاف متأن وصبور ومتأمل .

ترياق الوحدة :

      قدمت لنا كيرا آساتريان في كتابها : " توقف عن البقاء وحيدا " مفاهيم وقواعد وطرائق واضحة وتفصيلية ليشتفي المرء من وحدته ، وينشىء علاقات تدفىء روحه ، قالت في السطور الأخيرة من الكتاب: " نعلم جميعا ما يفترض بنا أن نحظى به في العلاقات : التواصل الجيد والثقة والمرح والاحترام والرحمة لكننا                لا نعرف ما يتعيّن علينا فعله للاقتراب وذلك ناتج عن الجهل الجماعي بشأن ما يجب علينا فعله لتحقيق التقارب " . اهـ بتصرف يسير.

      وأظن أن كيرا آساتريان نجحت إلى حد كبير في هدفها من الكتاب وفقا للثقافة التي تنتمي إليها ، والتي تتقاطع إنسانيا  في كثير من المسائل التي عالجتها مع ثقافتنا الاجتماعية والدينية .

      يقع الكتاب في 292 صفحة من القطع المتوسط ، ويتميز نهجه في التأليف بالخلاصات المركزة بعد كل فصل ، وملحق مركز في آخر الكتاب . وقد نشر بلغته الأصلية في عام 2006 م ، وقامت بترجمته إلى اللغة العربية دار ملهمون في عام 2021 م . بقي أن أقول أني تمنيت أن تكون الترجمة أكثر جودة ، لكن يحمد للدار هذا الاختيار الموفق لموضوع عمت الحاجة إليه .

 

   

                                                                                        



[1] جاء في تعريفها في غلاف الكتاب: مدربة علاقات معتمدة توفر تدريبا فرديا في سبيل التأقلم مع الحياة ، وتدريبا على خوض العلاقات المشتركة، والتوسط في النزاعات ، وتدريب الأزواج . تقيم الآن في سان فرانسسيكو .

 *

نشرت المقالة في مجلة الجوبة العدد 5 7 . شهر يونيو 2022 

فقه النصيحة والحرية الشخصية .. قراءة اجتماعية نفسية*

 

أضع صورتي الشخصية في تويتر منذ سنوات، التعليقات المستنكرة لوضعي صورتي ، والتي  لا زالت تردني من حين إلى آخر ، أعادتني إلى بدايات التسعينات ومنتصفها ، والأسئلة الوجودية القاسية التي استنزفت ضمائرنا في تلك الأيام، تلك الأسئلة التي لم تكن تحيي العقل، ولا تنهض بالروح، لكنها كانت تشتيتا بائسا رُمينا في أتونه بكل ما ترتب على ذلك من عثرات نفسية وفكرية وأسرية واجتماعية .

كان الخطاب الوعظي السائد حينها حافلا بالنصائح التي تحدد لنا شكلا صارما للحياة، والإشكال الذي يجعل كثيرا مما يطرحه هذا الخطاب بعيدا عن الصواب هو أنه صَدّر لنا المسائل التي هي محل اختلاف بين العلماء على أنها مسائل الخلاف فيها ضعيف لا ينبغي الالتفات إليه  و إنما ينبغي اتباع القول الراجح عند أصحاب ذلك الخطابندهم باعد بيننا وبين ما ن ما سوية للإمام الشبرخيتي المالكي عن المنكر في هذه الحال ولعلهم نظروا إلى أن عدم الفائدة ستؤدي إلى  و و الذي كان القول الأشد – غالبا - .

الأمر كان لا يتوقف على بذل النصائح في المحاضرات الدينية ، بل كان يمتد للدعوة  إلى بذل النصح بل والتغيير إن أمكن عن طريق الإنكار على كل من يخالف في هذه التفاصيل التي تتعلق بمسائل تشكّل علاقتنا بأجسادنا ، وملابسنا ، وأذواقنا، ورؤيتنا لإنسانيتنا وتحققنا بمكانتنا في الحياة .

 كانت ثقافة النصيحة هي المهيمنة على عقلية أبناء جيلي، وكانت عند كثيرين منا تقترن بالفجاجة في التدخل في حياة الآخرين ، واختياراتهم ، بل وفيها كثير من المحاكمات الأخلاقية، والدينية . لقد صُدّرت إلينا مسائل من الترجيحات الفقهية على أنها الدين وأن من يخالفها في خطر عظيم.

وكان تخصص الشريعة هو خياري الوجودي، لأعبد ربي على بصيرة، و لأجد حلا للإشكالات التي تثقل روحي وعقلي، وكان من أهم الأسئلة التي أرقتني هو سؤال النصيحة وعلاقتها باحترام الحدود الشخصية..


حرية القبول :

رحلة البحث كانت مفاجئة حقا، فالعلماء ينصون على تحريم أن ننصح إنسانا نعلم منه أنه سيزداد عنادا[1] وبعدا عن الحق ، أو سيترتب على نصحنا له ضرر أعظم[2] من ضرر الفعل السيء الذي نريد منه التوقف عنه.هذا الشرط يرتبط بقاعدتين أساسيتين :

إحداهما : 

مراعاة فقه المآلات أي الفقه المتعلق بدراسة ما يترتب على الحكم أو الفتوى في مسألة ما قبل تقرير حكم هذه المسألة أو الإفتاء فيها، فلا يدفع المنكر بمنكر أعظم منه: قال الإمام العز ابن عبد السلام: " وقد يكون من الفسقة من إذا قيل له " اتق الله " أخذته العزة بالإثم ، فيزداد فسوقا إلى فسوقه"[3].

 واختلف العلماء في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا عُلم أنه لا يفيد إلى قولين :

أحدهما : أنه يكون مستحبا لا واجبا لأنه وسيلة لا غاية[4]، ولعلهم نظروا إلى أن العمل بالوسيلة  فيه إظهار لشعائر الدين وإن لم تتحقق غايتها في نفع المنصوح.

والثاني : أنه لا يجوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث لا فائدة تترتب عليه[5]ولعلهم رأوا أن ذلك يسقط هيبة الحق، أو يجر إلى العناد و العداوة ، أو يخل بالسلم الاجتماعي.


القاعدة الثانية :

 احترام حق الأفراد في خيارات التواصل معهم، هذا الحق الذي لا ينال منه اضطراب تصوراتهم، وفساد أفعالهم، ويتحوّل الواجب هنا من النصح في جزئيات المسائل إلى تهيئة بيئة فكرية ونفسية يقبل فيها الناس على دين ربهم إقبال تسليم ، وإقبال طمأنينة إلى شرعه ، ويرتفع القلق المعرفي المرتبط بشبهات العصر والذي يغبّش عليهم صلتهم بدين الله وأحكامه، ومن ذلك أن تصبح ثقافة النصح محل قبول واحترام        لا تحقير وصد عن دين الله . روي عن أبي ثعلبة الخشني أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى : ( لا يضرّكم من ضل إذا اهتديتم ) ، فقال : " يا أبا ثعلبة ، مر بالمعروف وانه عن المنكر، فإذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك، ودع عنك العوام، إن من ورائكم فتنا كقطع الليل المظلم، للمتمسك فيها بمثل الذي أنتم عليه أجر خمسين منكم قيل : بل منهم يا رسول الله ؟ قال : بل منكم ، لأنكم تجدون على الخير أعوانا  و لا يجدون عليه أعوانا." [6].

وقال سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه : " يوشك من عاش منكم أن يرى منكرا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره."[7]. وسمع سيدنا ابن مسعود – رضي الله عنه -رجلا يقول : هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، فقال ابن مسعود : هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر . قال الإمام ابن رجب الحنبلي : "يشير – أي ابن مسعود رضي الله عنه -  إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد فمن لم يعرفه هلك . وأما الإنكار باليد واللسان فإنما يجب بحسب الطاقة."[8] .

وكلام سيدنا ابن مسعود – رضي الله عنه – ينبه إلى معنى دقيق وهو أن غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتحقق إلا بأن تغيب من القلب محبة الطاعة والخير، وكراهية المعصية والشر ، ولذلك سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- كراهية المنكر بالقلب تغييرا فقال : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ."[9] .

وتسميته صلى الله عليه وسلم كراهية المنكر بالقلب تغييرا فيه تنبيه إلى أن الشر لا يتمكن إلا إن تمكن في القلوب. وما دامت هناك قلوب صالحة، فلا زال للخير أثر، ولا زال للفضيلة طريق للتغيير، مادام أصحابها يلتزمون النهج النبوي العظيم في التغيير، وهو نهج قوامه العلم، والمحبة، واحترام حقوق الآخرين في حفظ كرامتهم ، وحدودهم الخاصة .

و النصيحة لا بد لها من ثقافة مجتمعية عامة تعدها فضيلة و قيمة محل احترام، أما إذا رأينا:        " هوى متبعا، وشحا مطاعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه " فقد أُمرنا أن نحفظ للكلمة الطيبة هيبتها، وأن لا يعرّض الإنسان نفسه للبلاء حيث لا يرتجى النفع.

يقول الإمام العز ابن عبد السلام في قواعده الكبرى : " وقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل إلى المسجد الحرام ، وفيه الأنصاب والأوثان، ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه، وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين ينكر عليهم . وكذلك كان السلف لا ينكرون على الفسقة والظلمة فسوقهم وظلمهم وفجورهم كلما رأوهم لعلمهم أنه لا يجدي إنكارهم ، وقد يكون من الفسقة من إذا قيل له " اتق الله " أخذته العزة بالإثم ، فيزداد فسوقا إلى فسوقه"[10].

و الذي يترجح عندي – والله أعلم – أن السياق الذي ناقش فيه العلماء مشروعية النصيحة في حال عدم فائدتها للمنصوح هو سياق فردي لا مجتمعي بمعنى أن يكون للنصيحة قيمتها المعنوية وإن جاهر أفراد بردها، أما إذا شاعت في المجتمع ثقافة رفض النصح فلا يكون النصح مشروعا حينها إلا حيث عُلم حصول الفائدة في أحوال معينة، وبضوابط لا تخل بالسلم المجتمعي، وتكون مسؤولية العلماء هي أن يجددوا دين الله في القلوب بما يناسب حال عصرهم العقلي والنفسي.

النصيحة وأخلاق العناية:

          يورد الإمام ابن رجب الحنبلي تعريفا للنصيحة يبين المقصد الأخلاقي الذي شرعت النصيحة من أجله ، فالنصيحة هي: " عناية القلب للمنصوح له كائنا من كان " [11] .

 

 النصيحة هي فعل عناية ، وفعل محبة، وفعل صلة وسلام ، ولذلك فقد نبّه الإمام الغزالي في إحيائه تنبيهات مهمة تتعلق بالناصح :

أحدها : أن النصح  هو فعل ورع [12]، ومراقبة لله عز وجل، بحيث يصدر عن قلب سليم ، متخلّق بالأخلاق الواجبة ، قلب رحيم غير قاس، و في عمق خلق الرحمة يأتي معنى الاحترام ليصون هذا الخلق العظيم من أن يكون سببا في اضطراب المفاهيم، فالاحترام هو جزء من حقيقة الرحمة وليس أمرا منفصلا عنها، إذ لا يتصور تحقق الرحمة دون احترام، من يرحمك سيصون حدودك الشخصية، وسيراعي طبيعتك، وأحوالك، وقدراتك..

          وفعل النصح هو فعل عناية ورحمة يراعي حق المنصوح في احترام كرامته، وطبيعته ، وطريقة تفكيره، وقد أوجب الإمام الغزالي على الناصح أن يكون هذا المعنى حاضرا في قلبه حضورا يجعله يستثقل فعل النصيحة؛ لأن صيانة كرامة المنصوح حاضرة في وجدانه ، ويتمنى لو أن غيره كفاه ذلك ، يقول الإمام الغزالي إن الناصح لو وجد في نفسه إقبالا على النصح فذلك لأنه غالبا يستلذ أن يكون في مقام أعلى من مقام المنصوح ، وأن يكون له سلطة معرفية عليه، يقول الإمام الغزالي إن الناصح حينها يحرم عليه أن ينصح لأنه ليس أهلا للنصيحة وقد تكون هذه المشاعر التي فيها استعلاء خفي أشد ذنبا من المعصية التي يريد أن ينهى عنها [13].

          يقول الإمام الغزالي في معرض كلامه عن طريقة النصح لمن رأى جاهلا يرتكب منهيا عنه كمن لا يحسن الركوع و السجود : " فهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء، فإن إيذاء المسلم حرام محذور، كما أن تقريره على المنكر محذور ، وليس من العقلاء من يغسل الدم بالدم أو بالبول، ومن اجتنب محذور السكوت على المنكر واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه ، فقد غسل الدم بالبول على التحقيق ." .

          وقال عند كلامه عن رتبة النهي عن المنكر بالوعظ: " وههنا آفة عظيمة ينبغي أن يتوقاها، فإنها مهلكة، وهي أن العالم يرى عند التعريف عزّ نفسه بالعلم وذلّ غيره بالجهل ، فربما يقصد بالتعريف الإذلال وإظهار التميّز بشرف العلم وإذلال صاحبه بالنسبة إلى خسة الجهل، فإن كان الباعث هذا ، فهذا المنكر أقبح في نفسه من المنكر الذي يعترض عليه ...

          فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة من وجهين : أحدهما : من جهة دالّة العلم . والآخر من جهة الاحتكام والسلطنة . وذلك يرجع إلى الرياء وطلب الجاه، وهو الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي، وله محك ومعيار ينبغي أن يمتحن به المحتسب نفسه، وهو أن يكون امتناع ذلك الإنسان عن المنكر بنفسه أو باحتساب غيره أحب إليه من امتناعه باحتسابه، فإن كانت الحسبة شاقة عليه ثقيلة على نفسه، وهو يود أن يُكفى بغيره فليحتسب، فإن باعثه هو الدين . وإن كان اتعاظ ذلك العاصي بوعظه وانزجاره بزجره أحب إليه من اتعاظه بوعظ غيره فما هو إلا متبع هوى نفسه، ومتوسل إلى إظهار جاه نفسه بواسطة حسبته، فليتق الله تعالى فيه، وليحتسب أولا على نفسه ."

التنبيه الثاني  : أن فعل النصح فعل أخلاقي فيحرم أن يقدم عليه من طبعه الغضب والحدة لأنه لن يضبط تصرفاته على مقتضى الشرع : يقول الإمام الغزالي : " وأما حسن الخلق : فليتمكن به من اللطف والرفق، و أصل الباب وأساسه، والعلم والورع لا يكفيان فيه ، فإن الغضب إذا هاج لا يكفي مجرد العلم والورع في قمعه ما لم يكن في الطبع قبول له بحسن الخلق . وعلى التحقيق فلا يتم الورع إلا مع حسن الخلق ، والقدرة على ضبط الشهوة والغضب . "[14]

التنبيه الثالث:  أن فعل النصح هو فعل حكيم لا يصدر إلا عن عالم بما يأمر به أو ينهى عنه، عالم بدرجات الأمر والنهي فيجب على الناصح أن يتلطف بالقول قبل أن يغلظ به ، ويجب عليه أن يراعي  الترتيب في ذلك ، فلا يقدم على التصرّف الأشد إلا إذا كان التصرف الرفيق لا يؤثر.

 

النصيحة والإساءة الروحية :

                    في كتاب :" عن قرب" للدكتور شهاب الدين الهواري كلام  مهم عن أثر النصيحة على تشويه علاقة الناس بربهم حين يتعامل الناصح بنفسية الاستعلاء ويطالب المنصوحين بالكمالية الدينية .

          كلام الدكتور الهواري له صلة بما تقدم الحديث عنه من علاقة النصيحة بأخلاق العناية، وله صلة أيضا بقاعدة مهمة من قواعد النهي عن المنكر، وهي أن النهي الواجب إنما يكون عن المحرم المتفق على تحريمه[15]، لا ما اختلف العلماء في تحريمه ، وبالتالي فإن مطالبة الناس بالكمالية، والتزام النمط الأشد في حياتهم، دون مراعاة لمقصد التيسير، ورفع الحرج، فيه أذى عظيم ليس من نهج النبوة، وهو ضلال لا هدى.

          وهنا يرد سؤال مهم : كيف نعرف أن مسألة ما فيها خلاف معتبر، كيف لغير المتخصص أن يفرّق بين الخلاف المعتبر والخلاف غير المعتبر ، لا سيما أن هناك مسائل تتعلق بتفاصيل الحياة اليومية اختلفت فيها آراء العلماء ، ككشف الوجه ، و الزينة ، والموسيقى .

وهنا لا بد من الكلام على مسألتين :

إحداهما : أن غير المتخصص ليس له أن ينهى إلا عن منكر اتفق العلماء على تحريمه ، أما ما اختلف فيه العلماء ، فليس من شأن غير المتخصص أن يبحث في المعتبر من الخلاف أو غير المعتبر .

الثانية : أن أهل العلم الذين تلقوا علوم الشريعة بالسند المتصل ، واشتهر بين علماء الامة تقديمهم وعرفوا لهم مكانتهم العلمية ، هؤلاء هم العلماء الذي يؤخذ عنهم الكلام في الاختلاف بين العلماء . وهذه المسألة ليست مما يتعلق بموضوعنا تعلقا مباشرا ، لكني تطرقت إليها لأنه شاع عد مسائل مما يسوغ فيها الاختلاف مسائل شبه قطعية ككشف الوجه ، وسماع الموسيقى .

حديث النهي عن المنكر :

          قال صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ."[16]

          كنت قد ذكرت تنبيه الإمام الغزالي على أن الناصح يحرم عليه النصح بالشدة إلا حيث لم ينفع اللين ، وكلام الإمام الغزالي قد يبدو متعارضا مع كون الحديث جعل التغيير باليد أولا، وبيان ذلك أن الأدلة القرآنية كقوله تعالى لموسى وهارون عن فرعون : " فقولا له قولا ليّنا لعله يتذكر أو يخشى "[17] ، والقواعد العامة التي أكدت على صيانة كرامة المسلم تؤكد على أن النصح ينبغي أن يتدرج من التلطف إلى الشدة، وهذا يجعلنا نفهم أن الحديث الشريف جاء في حال خاصة ، وهي حال المنكر الذي لا يحصل تغييره إلا باليد، أما ذكر التغيير باللسان وبالقلب فمحمول على إقامة شعيرة النهي عن المنكر وإن لم تحصل حقيقة رفع المنكر الموجود في الحال . وينبغي التنبيه على أن الإنكار باليد يشترط فيه أن يكون في منكر متفق على تحريمه وأن لا يترتب عليه منكر أشد، ومن العلماء من جعل الإنكار باليد مختصا بالحاكم أو من يوليه الحاكم [18]ولعل ذلك دفعا لمفسدة أن تعطى السلطة للأفراد مما قد يحصل معه شغب وعداوات مع احتمال عدم الالتزام بضوابط الأمر والنهي .

النصيحة بين الفكرة المجردة والتطبيق :

          لعل من أهم الأفكار المتعلقة بفقه النصيحة هي فكرة الجانب الإنساني للنصيحة، وكما جاء في كلام الإمام ابن رجب الحنبلي: " عناية القلب للمنصوح كائنا من كان "، إذن النصيحة هي فعل حي يراعي حال المنصوح ، ونفسيته ، وما سيترتب على نصحه من نتائج، ومن هنا أكد العلماء على فكرة مراعاة المآلات التي تحدثت عنها عند الكلام على حرية القبول ، أنت كناصح لا تلقي الكلام إلى جماد بل إلى قلب له حق العناية والرحمة والاحترام . لقد نبّه العلماء على أن الناصح ليس له أن يتوجه بالنصيحة إلى من سيزيده النصح عنادا، ويأثم الناصح إن لم يلتزم ما يجب عليه من فقه النصح ، لكن الأمر الأشد من العناد هو أن يقطع الناصح-غير الملتزم بفقه النصيحة- طريق النور أمام المنصوح ، فيوقعه في اليأس من رحمة الله. يتحدث ( آدم ) في حلقة : ( تجربة التعافي من المثلية الجنسية ) وهي إحدى حلقات بودكاست د.هبة حريري عن أنه كان يلجأ لمجتمع متدين –على الانترنت - في شرح معاناته مع الميول المثلية ، فكان الجواب الحاضر هو الكلام عن أن الله سيعذبه عذابا عظيما إن لم يتب، وأن من هم مثله تنتفي صفة الرجولة عنهم، وحشد لكل عبارات التخويف، والتبشيع ، وأن هذا النهج في تقديم النصح له جعله يشعر بالقنوط من الرحمة ، واحتقار النفس، وشعر حينها أنهم قطعوا الانتماء الذي بينه وبينهم ، لقد كان يسألهم لأنه يبحث عن رضا الله، ويريد من يعينه على التعامل مع ابتلائه، فكان كلامهم قطعا للطريق بينه وبين الله لولا أن رحمة ربي تداركته . لقد خلط هؤلاء الناصحون في كلامهم بين الحق والباطل، ولكن الحق الذي تحدثوا به كان كفكرة مجردة منقطعة عن بعدها الإنساني المتعلق بفقه قول الحق ، وفقه النصح ، فكان كلامهم بهذه الصورة في حق آدم باطلا ، لأن النصيحة فعل عناية ، وفعل هداية، وفعل بر ، لا فعل أذى ، وتحقير ، وصد عن دين الله . لا يكفي أن يكون الفعل الذي تأمر به أو تنهى عنه من محكمات الشريعة لكن يجب عليك أن تستحضر أن فقه النصيحة هو فقه عناية ومحبة يراعي الحالة الإنسانية الخاصة بالمنصوح ، ويعينه على الحق ولا يصده عنه .

 

الاحترام أولا وآخرا:

          قرأت في فقه النصيحة وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبر سنوات، وكنت كلما قرأت تعلّمت أكثر عن رعاية الإسلام لمقصد احترام كرامة الإنسان ، وحريته، وطبيعته ، وأحواله ، وأن النصيحة هي فعل عناية واحترام لا فعل فيه سلطوية ولا استعلاء ولا أذى ولذلك قيّده العلماء بقيود ، وأكدوا على ضوابط تحافظ على جعله سببا لاستقرار الخير والفضيلة التي تحقق الفرد والمجتمع بالقيم دون عنت أو حرج أو اضطراب.

لم تستوف المقالة كافة الضوابط التي ضبط بها العلماء فقه النصيحة، ولا المسائل التفصيلية الواجبة والمستحبة التي نبّهوا عليها، وكلها تخدم مقصد احترام كرامة الفرد، وتحقيق السلم الاجتماعي، واستقرار قيم المجتمع، لكني حرصت على التنبيه على مقاصد تغيب أحيانا عند تناول هذا الموضوع. والله الموفق.

           

 

 

 



[1] الفتح المبين في شرح الأربعين للإمام ابن حجر الهيتمي .

[2] الفروق للإمام القرافي . مج3-4، ج4/ ص 255. وعبارة الفروق : " أن يأمن من أن يكون يؤدي إنكاره إلى منكر أكبر منه مثل أ ن ينهى عن شرب الخمر فيؤدي نهيه عنه إلى قتل النفس أو نحوه . " .

[3] القواعد الكبرى . فصل في بيان وسائل المفاسد . مج1/ ص 175.

[4] القواعد الكبرى. فصل في بيان وسائل المفاسد . مج1/ ص 175

[5]الفتوحات الوهبية بشرح الأربعين حديثا النووية للإمام الشبرخيتي المالكي. الحديث 34.  

[6] سنن الترمذي. باب : ومن سورة المائدة .

[7] جامع العلوم والحكم . شرح الحديث 34 .

[8] جامع العلوم والحكم ، شرح الحديث 34.

[9] رواه مسلم .

[10] القواعد الكبرى . فصل في بيان وسائل المفاسد . مج1/ ص 175.

[11] جامع العلوم والحكم . شرع الحديث 7 .

[12] إحياء علوم الدين ، كتاب الأمر بالمعروف ، مج4/ ص 626.

[13] إحياء علوم الدين ، كتاب الأمر بالمعروف ، مج4/ص615 ،616.

[14] إحياء علوم الدين . كتاب الأمر بالمعروف ، بيان آداب المحتسب . مج 4/ ص 626.

[15] إحياء علوم الدين . كتاب الأمر بالمعروف . مج4/ ص 600. جامع العلوم والحكم . شرح الحديث 34 .

[16] رواه الإمام مسلم .

[17] سورة طه : آية 44.

[18] الفتوحات الوهبية بشرح الأربعين حديثا النووية للإمام الشبرخيتي المالكي. الحديث 34.  

* نشرت المقالة في موقع ( حجرة ورقة مقص) . بتاريخ : 16/ 7/ 2022م.