الخميس، 28 مارس 2024

أسئلة منتصف العمر ، قراءة في كتاب: منتصف العمر: دليل فلسفي

 *نشرت هذه المقالة في مجلة الجوبة الثقافية ، العدد 82 ، رمضان 1445 الموافق مارس : 2024م 


"هل تستطيع  الفلسفة الأكاديمية بكل جدالاتها وشكوكها وتعقيداتها أن تساعد أي فرد في منتصف العمر يتساءل: كيف يحيا؟ "

يطرح كيرين سيتيا هذا السؤال في كتابه : "منتصف العمر : دليل فلسفي"، ثم يجيب عنه بالإيجاب، و يؤكد على أن تناوله لأزمة منتصف العمر من زاوية فلسفية ليس لأن تدريس الفلسفة والتأليف في موضوعاتها هو تخصصه الأكاديمي فحسب، ولكن لأن الأمر بالنسبة له بات شخصيا بعد حالة الخواء التي اكتسحت روحه رويدا رويدا رغم استقراره الأسري والمهني . يقول: " كنت أستاذا دائما في قسم جيّد، وأقيم في مدينة ملائمة في الغرب الأوسط من الولايات المتحدة، وكنت أعرف أني محظوظ لأني أفعل ما أحب ومع ذلك، كان هناك شيءٌ خاوٍ ... وحينما صرفت فكري إلى الحياة التي سعيت بجد لبنائها، شعرت بمزيج مربك من الحنين، والندم، ورهاب الاحتجاز، والفراغ، والخوف".

لا يستهدف الكتاب من هم في منتصف العمر فحسب، بل يخص كل من يواجه حقيقة استحالة الرجوع بالزمن بكل ما يتصل بهذه الحقيقة من أسئلة حول الفناء، والفوات، و الحياة التي أردناها وتلك التي نعيشها.

ويقول كيرين سيتيا إنه لا يفترض في قارئ هذا الكتاب أي معرفة مسبقة بالفلسفة، فقد كُتب بلغة سهلة وموجزة أو كما عبّر : " وقد حاولت أن أكتب كتابا تقرؤه وأنت واقف على قدم واحدة" .

لست متخصصة في الفلسفة، ووجدت أن المؤلف وفى بوعده.

نشر كيرين سيتيا هذا الكتاب في عام 2017م، وهذا القرب الزمني في معالجة الموضوع كان من أسباب فضولي لقراءة الكتاب الذي يناقش مسألة أنا معنيّة بها بشكل شخصي أيضا. وقد قامت بترجمة هذا الكتاب نورة أبو طالب، ونشرته دار معنى السعودية ، في عام 2022م . ويقع الكتاب في 205 صفحة.

والقراءة التي سأقدمها لكتاب "منتصف العمر : دليل فلسفي" ليست قراءة هيكلية أو تلخيصية، لكنها قراءة تعرض مختارات من الكتاب، كما أقدّم فيها أفكارا قادتني إليها بعض أفكار الكتاب التي أضافت عمقا إلى جوابي الوجودي الخاص عن أسئلة أزمة منتصف العمر.   

 

سطوة الزمن

              يقول كيرين سيتيا : تدور أزمة منتصف العمر حول السمات المرحلية للحياة الإنسانية: التناقص التدريجي للإمكانات ، وإتمام الخطط أو تعطلها، وتراكم الخبرات الحياتية، وفي هذا السياق  يجد الإنسان نفسه أمام أسئلة تتعلق بالزمن، والفناء، ومحدودية الحياة، والفرص الضائعة، والطموحات غير المحققة.

            هذه الأسئلة تصبح مؤرقة بالنسبة له، بحيث تفقده طعم الحياة، أو تجعله في حال من الغضب أو التخبط  أو اليأس أو الإحباط أو الخواء. هي ليست مجرد فترة عصيبة لأكدار أو ابتلاءات خارجية، جوهر أزمة منتصف العمر مرتبط بسطوة إحساس قاس بمضي الزمن بكل تجليات هذه السطوة من مشاعر حادة.

في عام 2008م، نشر الاقتصاديّان ديفيد بلانشفور من جامعة دارتماوث وآندرو أوزوالد من جامعة وارويك مقالا بعنوان :" هل الرفاه يأخذ شكل حرف U خلال دورة الحياة؟ " واستنادا إلى استطلاعات طرحت فيها أسئلة على بالغين من مختلف الأعمار من قبيل : ما مدى رضاك عن حياتك هذه الأيام، مع وضع كل شيء بالحسبان؟ ومن خلال التركيز على الدخل، والحالة الاجتماعية، والحالة الوظيفية، وجد الباحثان أن مستوى السعادة المبلّغ عنه بحسب العمر اتخذ حرف U المقوّس، حيث يبدأ عاليا في بداية مرحلة البلوغ، وينتهي عند نقطة أعلى في مرحلة الشيخوخة، ويصل إلى القاع عند سن السادسة والأربعين. وظهر هذا النمط في 72 دولة حول العالم، وكان متماثلا عند الرجال والنساء. وقد استبعد تحليل العلاقة بين المتغيّرات التفسير المرتبط بالضغوط الناتجة عن الأمومة والأبوّة. لقد كان منحنى U متفشيا ومكينا من الناحية النفسية ، ويبدأ ذلك من سن السادسة والأربعين . وقد اعتمد الباحثان منحنى U في دراسات طولية تتبع ذات الأفراد عاما بعد عام ، فمصدر هذا المنحى هو ما يجري لنا حين نتقدّم في السن، وليس الاختلافات في "مكان" الميلاد أو حالة المجتمع .

نحن إذن وفقا للخلاصة التي يقدّمها لنا كيرين سيتيا من نتائج الدراسات المتعلقة بأزمة منتصف العمر أمام حالة "كونشوتية" في مواجهة الزمن، حالة من عدم الرضا في أقصى صوره وتجلياته، وهذه الحالة تبدأ من السادسة والأربعين إلى الستين من العمر. وقد استوقفني في هذه الخلاصة ما قاله كيرين سيتيا من أنه وفقا للدراسات فإن مرحلة الشيخوخة ( ما بعد الستين ) هي مرحلة رضا وزهد وتصالح مع الزمن ، وأظن أني أفهم ذلك؛ ولكأن قدر الإنسان ألا يسكن إلا بعد العاصفة، وألا ينشرح  قلبه إلا بعد أن يبلغ شعوره بالضيق مداه.

لقد اختبرت بعض تجليات أزمة منتصف العمر  في السادسة والأربعين ولكني اليوم أجد نفسي – بفضل الله-قد تصالحت معها إلى حد كبير ولمّا أبلغ الخمسين. و أرجو أن تساعد هذه القراءة في رحلة الطمأنينة.   

 

تاريخ موجز لأزمة منتصف العمر

            يقول كيرين سيتيا إن أقدم نص يستشهد به على تناول أزمة منتصف العمر يأتي من الأسرة المصريّة الثانية عشرة، منذ نحو ألفي سنة قبل الميلاد، وهو عبارة عن حوار بين رجل منهك وروحه.

ويطوف بنا كيرين سيتيا في نصوص أدبية كُتبت في القرون الوسطى ، وما قبلها،  تتناول نماذج من أزمة منتصف العمر، ثم ينبّه على أن المغزى من الشواهد من زمن ما قبل التاريخ      وما في حكمها لا يكمن في تبيان لا زمنية أزمة منتصف العمر، بقدر ما يكمن في الكشف عن هيمنتها على مخيّلتنا. ويقول إنه من اليسير إسقاط صورتنا عن الأزمة على حياة سابقة مختلفة تماما عن حياتنا، ولكن الأصوب هو الاعتماد على تاريخ قابل للتتبع منذ ظهور الفكرة عام 1965م وحتى يومنا هذا.

            يأتي هذا التنبيه على الرغم من الروح الأدبية التي كتب بها هذا الكتاب،  ورغم أن المؤلف قد نصّ على أنه لم يتّبع: "أسلوب العلوم الاجتماعية المنهجية، وإنما أسلوب الملاحظة الدقيقة للتجربة المعاشة"، إلا أن تخصصه الأكاديمي غلبه هنا، فضيّق واسعا؛ لأن المصطلح لا يخلق المعنى لكنه يجلّيه، ويضبطه.

            ثم استعرض المؤلف عددا من الكتابات والدراسات الحديثة التي تناولت أزمة منتصف العمر من عام 1965م إلى عام 2012م . وقد استوقفني تنويهه  إلى أن التسعينات من القرن الماضي كان زمن ازدهار تناول فكرة أزمة منتصف العمر في الروايات، وذكر منها رواية: "حدث شيء ما" لجوزيف هيلر، ورواية: " الصيف قبل حلول الظلام" لدوريس ليسينغ.

 

قسوة الفوات

            ناقش الكتاب المشاعر العاصفة التي غالبا ما تزور المرء في منتصف عمره ، ومن هذه المشاعر شعور الفوات، أن يتحسّر المرء على خيارات لم يغتنمها، ولم يعد قادرا على استعادتها، أو يصعب عليه استعادتها؛ لأن التقدّم في العمر يضيّق ما كان واسعا في الشباب .

            يقول كيرين سيتيا :"إن الفوات نتيجة مترتبة على تعدد الخيارات، ولن يحميك من الحيرة والفزع سوى نضوب العالم من الخيارات، أو افتقارك إلى القدرة على التفاعل معها . وعليه فلا مناص من قبول واقعك. وهناك أمر آخر هو أننا نبالغ -غالبا- في تقدير قيمة امتلاك الخيارات، نعم، الخيارات مهمة، ولكنها لا تكفي للتعويض عن النتائج التي لن تفضّلها، فلو اخترت طريقا آخر فلا بد أن له خساراته، فلا تنخدع بجاذبية الاختيار. " اهـ مختصرا.

            هذا بعض جواب كيرين سيتيا عن وجع الفوات. وقد كان جوابي لنفسي كلما اشتد بي هذا الوجع، هو الآية الكريمة : (والله يعلم وأنتم لا تعلمون )، ثم إن كلام كيرين سيتيا ساعدني على مزيد تحرير لما توصّلت إليه بعد طول تأمل، وهو أن التسليم للقدر هو الجواب المنطقي الوحيد عن قسوة الفوات، وحسرات منتصف العمر .

وجوابي الذي ينطلق من نموذجي المعرفي الذي أؤمن به، هو أننا عاجزون عن  التحكّم بالقدر؛ إذ أننا لا نملك التحكّم في مسارات أقدارنا، مهما بلغنا من حكمةٍ في الاختيار، ثم إن هناك نقصنا الشخصي، وإخفاقاتنا اللازمة لبشريتنا، كل ذلك يقودنا إلى القبول، قبول ما مضى بكل       ما فيه من سوء؛ لأنه في جوهر الأمر لا أحد يملك القدرة على التحكم الكامل في مسار حياته، فمن نجح وتحقق، فنجاحه وتحققه فيه عامل غامض يتصل بمساعدة القدر على هذا النجاح والتحقق، ومن تعثرت خياراته، فجزء من الأمر يتعلق بالقدر لا بفساد اختياراته، وعليه فإن المرء بين خيارين؛ إما أن يسجن نفسه في ظلمة الشعور بالبؤس والندم، أو أن يصالح أيامه الماضية بقبولها، والإقبال على ما تبقى من عمره بنفس هادئة، تحاول التعلم من دروس الماضي،              ولا تتحلل من القيم التي تؤمن بها ولكأنها هي العائق الذي يحول بينها وبين ما تبقى لها من نعيم في هذه الحياة؛ لأنها حينئذ ستصطدم بمجهول جديد يكلّفها مزيد عنت، ومزيد شعور بالندم، والإحباط، وجفوة أهل مودتها.

 

خواء الحاضر

            يرى كيرين سيتيا – وفقا لتجربته الخاصة- أن التحدّي الأكثر إرباكا في منتصف العمر       لا يكمن في التأقلم مع الماضي أو المستقبل، وإنما مع خواء الحاضر، ومع الشعور بأن الإشباع مؤجّل أو فات أوانه، وأن سعي المرء الدؤوب يدمّر ذاته. والحل لهذه المعضلة عنده هو أن يركز المرء على ما يمارسه لا على أن يحصد نتيجة عمله، يقول: قد لا يكون هناك تغيير فيما تفعله من يوم لآخر، لكن الشعور بالامتلاء لا يأتي من الانتقال من مشروع ننجزه إلى مشروع جديد، وإنما من تقدير ما لدينا من مهام، سواء تلك التي لها أمد، كالمشاريع التي لها مدة انتهاء ( ككتابة مقالي هذا قبل أن أنهيه )، أو لا أمد لها، كعملية تربية الأبناء، أو الحفاظ على الصداقات، أو المشي والتنزه في صحبة النفس ، أو القراءة، أو فعل الكتابة قبل بلوغ غايته، أو مزاولة أي عمل جاد.  

           

صبر متمهل

            لقد ركّز الكتاب على العلاج المعرفي لأزمة منتصف العمر، ونبّه كيرين سيتيا في السطور الأخيرة من خاتمة الكتاب إلى أن الإدراك وحده غير كاف، بل لا بد من أن نفعّل الأفكار كممارسة، ونصبر على ذلك إلى أن تجعل الممارسة وجداننا في حال انسجام مع قناعاتنا العقلية. قال: " ما زلت أسعى إلى حل أزمة منتصف العمر التي أعيشها، برغم أني أدرك السبيل للخروج منها، يلزمني التخلّص من العقلية الانتهائية، وتنمية التوجّه غير الانتهائي في المقابل".

            الزمن كما يصوغ أزمتنا في منتصف العمر فإنه رفيقنا في تجاوزها، التبصر المعرفي يحتاج إلى الصبر المتمهل، وشهود النعمة في التفاصيل التي نحياها، أو ما سمّاه كيرين سيتيا تقدير ما لدينا من مهام، نصبر لنتحقق بالمعنى الذي نؤمن به، ونصبر حتى يصير المعنى سجيّة.

            أضيف هنا أمرا آخر، وهو أن أزمة منتصف العمر قد يكون علاجها أوسع من أن يقتصر على الجانب المعرفي، وهو الجانب الذي اجتهد كيرين سيتيا في بسطه في هذا الكتاب، فقد يحتاج من يمر بهذه الأزمة إلى علاج نفسي يعينه على استعادة توازنه، والاتساق مع قيمه .