الأربعاء، 17 يناير 2024

كنّا نحتاج إلى اسم

 


الاسم دواء

في "حصيلة الأيام"[1] تحكي إيزابيل الليندي أن الضغوطات قد أحاطت بحياتها مع زوجها الأمريكي من كل جانب، تفاصيل لا ذنب لأحدهما فيها ، تفاصيل تغيّر طعم الأيام ليكون مرّا،  وفجأة شعرت أنها غير قادرة على الاستمرار بعيدا عن وطنها تشيلي، وقالت لزوجها أنها تريد الطلاق، كان وقع كلامها عليه كالصاعقة ، طلب منها زيارة معالج نفسي ووافقت على مضض؛ فثقافتها التشيلية -كما قالت- لا تعترف بالأسلوب المدلل لحياة الأمريكيين. تقول إيزابيل: "استمع الرجل إلينا دون مقاطعة، وعندما لم يبق سوى دقائق قليلة لانتهاء الجلسة، رفع جفنيه ونظر إلينا بملامح رثاء بريئة ، وقال : يا للحزن الذي في حياتيكما. تمتمت : حزن؟ لم يخطر هذا الأمر لأي منّا. تلاشى غضبنا في هنيهة ، وأحسسنا حتى العظم بحزن فسيح باتساع المحيط الهادي، لم نكن نرغب في الاعتراف به لمجرد الكبرياء . أمسك ويللي يدي ، وجذبني نحو حشيته وتعانقنا، وأحسسنا للمرة الـأولى بأن قلبينا موجوعان جدا. وكانت تلك بداية المصالحة ."

لقد أنقذ زواجهما الاسم، كانا يحتاجان إلى أن يسمّيا مشاعرهما، أن يعطيا لها هويّة،  فلما هداهما المعالِج إلى الاسم، انفتح باب الصلح بينهما .

 

الاسم دفء

            في قصة قصيرة بعنوان : " حب قديم" من المجموعة القصصية :" أيام عادية" لعادل عصمت حديث شجيّ عن دفء أن نوفّق إلى تسمية ما نحسه من مشاعر حلوة ولو تأخرت هذه التسمية أربعين عاما : " بعد أربعين عاما تأتي صدفة لتبعث مشاعر قديمة وتمنحها اسم                 " الحب" . لولا رؤيتي لهذه البنت، لما تعرّفت على حب قديم، ظلّ غافيا، دون اسم ، حتى ظهرت فأعطته اسمه ومنحته الوجود. حضورها غير المتوقع رفع الغطاء عن مشاعر قديمة وحررها من غفوتها واستعدت فرحتي برؤية سناء ذات الضفائر والغمّازات والنمش على الأنف، تبتسم فتثير بهجة تلقائية ومرحا عذبا في الصباح "[2].

 

الاسم نجاة

            يحدثنا التربويون أننا إذا ساعدنا أطفالنا على تسمية مشاعرهم، ولم نصادرها، ولم نقل لهم إنهم بخير وهم لا يشعرون بذلك مهما بدا لنا تصرّفهم نشازا؛ فإننا بذلك نبني بداخلهم وطنا  لا تيه فيه ، يميّزون فيه أحاسيسهم ، وحينها فإننا قمنا بدورنا لحمايتهم من الاستمرار في  علاقة تشوشهم، أو تربك ثقتهم بما يشعرون به. لقد شيّدنا في وجدانهم وطنا يعرفون فيه أسماء مشاعرهم، فإذا ما حاول العبث معهم متلاعب، صدّهم عنه شعور من يحاول الغزاة أن يخرجوه من وطنه الآمن . لو عاش الأطفال خبرة احترام مشاعرهم وعدم تجاهلها أو الاستهانة بها فإنهم كما في كتاب :" الجسد لا ينسى" [3]لن يتقبّلوا سوء المعاملة من شريك مسيء، فهم تعوّدوا أن يعاملوا باحترام ، صوتهم الداخلي سينقذهم : " هذا ليس مألوفا ، هذا ليس شبيها بالوطن ".

 

الاسم دليل

            الأسماء كاشفة تميّز بين الإنسان الطيب والإنسان الخبيث. يسمّي الإنسان الخبيث الطيبة سذاجة، والتعفّف كِبرا، وحفظ المرء لحدوده جفاء، والبخل تدبيرا . قاموس الأسماء عند الخبثاء يعبث بالمعاني، ويشوّه الأفكار، لكنه دليل للمتبصّر على سوء طويتهم .

            يسمّي الإنسان الحكيم الأشياء بأسمائها، ليس فقط لأنه يتحرى الصدق، ولكن لأنه أيضا يراها واضحة ، لا تلتبس عليه معانيها. تسمية الأشياء بأسمائها قد يحتاج ما هو أكثر من الصدق قد يحتاج إلى علم وإلى خبرة .

لغة الأسماء عند أهل الحكمة دليل مروءة أيضا ، فهم يستحون أن يحرجوا بعلمهم جاهلا ، أو يفاخروا بفهمهم من دونهم ، وربما اختاروا الصمت عن تسمية الأشياء بأسمائها لئلا يقودوا خسيسا إلى مزيد خسّة .

           

 



[1] حصيلة الأيام ، إيزابيل الليندي، ترجمة صالح علماني، دار المدى، بغداد 2008م. ص 66.

[2] أيام عادية، عادل عصمت، الكتب خان، القاهرة 2023م. ص9 ( وفقا لتطبيق أبجد) .

[3] الجسد لا ينسى، د. بيسل فان در كولك، ترجمة عصام الدين سامي، عالم الأدب للترجمة والنشر، الطبعة الثانية، مصر 2021م. ص 215