الاثنين، 21 نوفمبر 2011

بين يدي الثبات والتغير : الحكم الفقهي الظني.

الحكم الفقهي الظني

1. إذا اختلف العلماء المؤهلون أو بعبارة أخرى إذا اختلف المجتهدون في دلالة دليل ما فإن هذا يدلنا على أن دلالة الدليل ليست قطعية إذ لو كانت قطعية لما اختلف المجتهدون فيها .

2. هذه الطريقة للتعرف على منزلة الدليل من حيث دلالته هل هي دلالة قطعية أو ظنية هي التي تتسق مع أمرين أحدهما احتمالية اللغة والثاني أمر القرآن الكريم بسؤال أهل الذكر .

3. ليس معنى كون الدليل محتملا لأكثر من معنى – من حيث الدلالة- أن يكون هذا الدليل متاحا لكل أحد ليتبنى ما يراه مناسبا له من معنى محتمل . لأن التعامل مع الدليل الشرعي هو عمل يحتاج إلى التأهيل اللغوي والشرعي ، ولا عبرة بحكم احتمل الدليل الظني الدلالة عليه ما لم يرجحه من هو أهل للاجتهاد والترجيح . فأهلية الاجتهاد- كما قال الإمام القرافي في نفائس الأصول- تجعل الناظر في الدليل متكيفا بأخلاق الشريعة ، ينبو عقله وطبعه عما يخالفها. وكما قال الإمام العز بن عبد السلام في القواعد الكبرى : " ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها ، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها نص ولا إجماع ولا قياس خاص ، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك . ومثَل ذلك أن من عاشر إنسانا من الفضلاء الحكماء العقلاء، وفهم ما يؤثره في كل ورد وصدر، ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة، لم يعرف قوله فيها ، فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عاداته أنه يؤثر تلك المصلحة ، ويكره تلك المفسدة". ومما لا يخفى أن الترجيح يرتبط بتحقيق المقاصد والمصالح التي جاء الشرع باعتبارها.

4. ينبغي أن نفرّق بين قطع المجتهد بترجيح إحدى دلالات الدليل وبين القطع بدلالة الدليل .فالقطع بترجيح إحدى دلالات الدليل هو قطع نسبي ، وهو ملزم لصاحبه ، وليس ملزما لمجتهد آخر قطع بترجيح دلالة أخرى من دلالات الدليل . أما القطع بدلالة الدليل فهذا مجاله الحكم الفقهي القطعي الذي لا يختلف العلماء في تقريره . ولا يصح أن يخلط بين القطع النسبي والقطع المطلق . وبالتالي لا يصح أن يتم التعامل مع الحكم الفقهي الظني كتعاملنا مع الحكم الفقهي القطعي .

5. مسؤولية غير المجتهد تجاه انتفاء القطع ، وتعدد الترجيحات في المسألة الواحدة أن يراجع مفتيا مؤهلا يفتيه في المسألة بما يناسب حاله، وأن يكون أمينا في بيان حاله للمفتي ليحصل التعاون بينهما على إقامة شرع الله عز وجل دون حرج أو عنت على وصف التقوى.

6. مسؤولية المفتي أن يبين للمستفتي جميع الأقوال في المسألة الواحدة ويتدارس معه مآلات الأقوال من حيث الحال الخاص للمستفتي مصلحة ومفسدة .

بين يدي الثبات والتغير: الحكم الفقهي القطعي .

الحكم الفقهي القطعي:

1. هو الحكم الذي دل عليه دليل قطعي من حيث نسبته إلى مصدره ومن حيث دلالته .

2. مثاله : تحريم أكل الميتة المستفاد من قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة ) . هذا حكم فقهي قطعي لأن دليله نسبته إلى مصدره قطعية أي ثابتة لا يتطرق إليها الاحتمال ، كما أن المعنى الذي يدل عليه الدليل هو معنى واحد ثابت لا يقبل الاحتمال وهو تحريم أكل الميتة.

3. الثبات المرتبط بالحكم الفقهي القطعي هو ثبات من زاوية معينة وهي زاوية تقرير الحكم كقانون أو كقاعدة ، فتحريم أكل الميتة هذا قانون شرعي ثابت . لكن الحكم الفقهي القطعي لا يكون ثابتا من زاوية أخرى وهي زاوية ارتباطه بواقع الإنسان المتغير بمعنى أن الحكم القطعي شرعه الله لفائدة الإنسان ، وبالتالي فإن الحكم الفقهي القطعي لا يتعالى على ضرورات الإنسان لكنه يستوعبها فهو يظل ثابتا ما دام مرتبطا بالأحوال الاعتيادية فإذا جاءت أحوال استثنائية مهما كانت هذه الأحوال فردية أو عامة ، في مدى زمني قصير أو طويل فإن الحكم الفقهي القطعي يعترف بها ولا يتجاهلها ويفسح لها الطريق رافعا الشقاء عن حياة الإنسان .

4. يجب أيضا أن نتنبه إلى أن الحكم الفقهي القطعي من زاوية قطعيته وثباته ينتمي إلى مظلة كبرى إن صح التعبير وهي مظلة القواعد الكلية التي تشكل مقاصد الشريعة فيصح أن نقول أن تحريم أكل الميتة مقصد كما أن مراعاة الضرورات مقصد . وحيث إن الشريعة لا تضاد فيها فإنه لا بد أن نوائم بين المقاصد القطعية ولا نقع في ضرب المحكمات بعضها ببعض ومن ثم إذا كان تحريم الميتة يتعارض مع ضرورة الحياة فتقدّم ضرورة الحياة في هذه الصورة ، ويحل أكل الميتة استثناء مراعاة لقاعدة قطعية أخرى وهي مراعاة الضرورات.

5. وبعبارة جامعة نقول إن الحكم الفقهي القطعي ثابت لا يتغير بتغير الزمان بل باختلاف الصورة الحادثة . هذا تعبير مقتبس من كلام الإمام الزركشي في البحر المحيط . ويمكن أن نعبّر بتعبير آخر اقتبسته من كلام الإمام الشاطبي وهو أن الحكم الفقهي القطعي ثابت من حيث الاقتضاء الأصلي للدليل وهو الاقتضاء المجرد عن العوارض التي ترتبط بالواقع إذ أن التنزيل على الواقع يجب أن يوازن بين الأحكام الفقهية القطعية -التي تنتمي إلى القواعد القطعية الكلية – وبين بقية القواعد القطعية الكلية مثل : لا ضرر ولا ضرار، والضرورات تبيح المحظورات، والأعمال بمقاصدها بما يحقق المصالح المعتبرة شرعا.

6. الأحكام الفقهية شرعها الله لتحقيق مصالح العباد . ومصالح العباد قد تكون مصالح ضرورية لا استقامة لحياتهم بدونها وقد تكون مصالح حاجية لو لم تراعى لوقعوا في حرج شديد وقد تكون مصالح تحسينية مراعاتها تجعل الحياة مكتملة الاستقرار .

7. الأحكام الفقهية القطعية قد تكون ضرورية كما في تحريم قتل النفس ، أو قد تكون حاجية كما في تشريع حد القذف ، أو قد تكون تحسينية كما في وجوب ستر العورة .

8. هذا التقسيم فيما أفهم يفيدنا في ترتيب الأولويات المرتبطة بالأحكام الفقهية القطعية في الواقع الحياتي . كما أنه يرتبط بقضية وزن الذنب فالإخلال بالتحسيني ليس في رتبة الإخلال بالضروري.

9. لكن هذا التقسيم ليس محله الموازنة بين المصالح الطارئة والأحكام الفقهية القطعية . ففي هذه الحالة نحن نتعامل مع الرؤية الكلية التي قررها الدين لصلاح حياة العباد وحينها ترتقي الأحكام الفقهية الحاجية والتحسينية لتصبح ضرورية والمصالح الطارئة عليها إن لم تكن في رتبتها فلا يصح اعتبارها .

10. من المهم التأكيد عليه أن تقدير الضرورات هو أمر اجتهادي يختلف باختلاف نظرة المجتهد كما أنه عملية تفاعلية يشترك فيها المجتهد والفرد أو المجتمع بمؤسساته المختلفة .

11. الضرورات قد تكون كذلك باعتبار مآلاتها . فقد يكون الأمر ضروريا باعتبار تراكمي ومن ثم فهذه الضرورة المآلية ترقى إلى الموازنة بينها وبين الحكم الفقهي القطعي.

12. إذا كانت الضرورة مرتبطة بالمجتمع فيتغير الحكم الفقهي القطعي في حق ذلك المجتمع -وهو تغير باعتبار الاقتضاء التبعي للدليل لا الاقتضاء الأصلي للدليل- ولا اعتبار للأحوال الفردية وكذلك لا اعتبار لطول الزمان وإنما العبرة بانقضاء الضرورة . تراجع هذه المسألة في كتاب الغياثي للإمام الجويني، و كتاب القواعد الكبرى للإمام العز بن عبد السلام، وكتاب صناعة الفتوى وفقه الأقليات للعلّامة عبد الله بن بيه.

السبت، 19 نوفمبر 2011

مع منال الزهراني حول : الحجاب .. أسئلة الثابت والمتغير(1) ( من الفيس بوك إلى المدونة )

قالت منال :

خلاصة جيدة يا صفية ، كنت أتساءل إلى أي حدّ يمكن أن يؤثر المقصد الكُلي في تنزيل حكم محدد، الأهم من هذا السؤال: إلى أي حد يؤثّر المقصد في قطعية دلالة النص؟ أنتِ تُرجعين الحُكم في قطعيّة الدلالة على تفسيرات العلماء لذات النص ومن جهة الثبوت أيضاً ، وهو مالا أؤمن به ، وأعتقد أن النص يتعالى عليه ... وما زلت أحاول الفهم .. بينما أمرّ هذه الأيام على كتاب " مشاهد من المقاصد" لابن بيّه...

قالت صفية :

إلى أي حد يؤثر المقصد في قطعية النص؟

ولعل الجواب هو أن النصوص هي بنية كثير من المقاصد كما أن من النص قد يكون مقصدا .. و المقاصد والنصوص تشكل معا كليات الشريعة وقواعدها

من زاوية أخرى : هناك فكرة طرحتها في المقالة واعيدها هنا وهي أننا لا بد لنا ان نفرق بين النص كمطلق وبين تطبيقات النص في حياة البشر لان التطبيقات التي سماها الشاطبي بالعوارض التي تطرأ على النص هذه التطبيقات متغيرة ونسبية وليست مطلقة

ومن ثم فإن المقصد يؤثر في تطبيقات النص المطلق وبدون ذلك لن يحصل اتساق الأحكام في الشريعة.

... أما كلامك عن ( تعالي النص على التأويلات ) فيحتاج إلى تحرير لمفهوم النص .. فإن قلنا إن النص هو كلام الله مطلقا من أي قيد .. فأنا معك أن النص الظني تأويلاته قد لا تنقضي وكل من يمتلك الأهلية من حقه تفسيره .. لكن من المسلّم ان هناك قطعيات محكمات في الشريعة هذه القطعيات تدل عليها النصوص القطعية .. وهنا تأتي الحيرة .. اللغة محتملة فكيف نصل الى القطع .. بحثت هذه المسألة وتوصلت الى ان هذا السؤال ليس صحيحا على اطلاقه لان القول بصحته اطلاقا يؤدي إلى هدم ضرورات التخاطب بين الناس كما قرر أستاذ اللغويات محمد يونس في كتاب له لا أذكر اسمه الآن .. الحاصل : ان اللغة كما هي محتملة فهي قد تكون قطعية وسيل التوصل الى القطعية هو القرائن الحالية والمقالية . والا لم يفهم أحد أحدا..

لكن هناك مشكلة في التوصل الى قطعيات الشريعة من جهة ان هذه القطعيات لم تجمع في كتاب .. وتركت لتداول العلماء .. وهذه المشكلة تناولها الامام الشاطبي في مقدمة الموافقات.. والحاصل اني للتوصل الى مقاربة للتعرف على القطعي اعتمدت طريق ان اختلافات العلماء المؤهلين في تأويل نص ما دليل على عدم قطعيته ..

ختاما ارجو ان اكون قد اقتربت من الاجابة على ما طرحت .. وشكرا لك.. اما كتاب الشيخ بن بيه فهو عميق جدا.. تعلمين يامنال طريق تعلم المقاصد هو دراسة اصول الفقه جيدا لا سيما القياس والعام والخاص.

قالت منال :

بلا شك يا صفية عملية تدوير النص من التشريع إلى المقاصد أو تأثر تنزيله بالمقصد مفروغ منها ، لذلك السؤال كان: (إلى أي حد) يُسمح للمقصد سواء كان خاصاً بالحُكم أو عاماً في تحكيم قطعية النص ابتداءً ، وتفسيره انتهاءً؟ بالمثال: الحجاب من أصله وليس شكله ، إلى أي حدّ يمكن أن يتأثر بالمقصد الخاص منه؟ أو بمجمل المقاصد الشرعية، سمعت من شرعيين ينفونه احتكاما لانتفاء المقصد الخاص منه وهو التفريق بين الأَمة والحُرّة... طبعا هذا الاحتكام تطرقه اعتراضات وجيهة لذا لا يهمني المثال بل عموم فكرة (حد) تأثر قطعية دلالة/تفسير النص ..بالمقصد *التعالي الذي أقصده ليس على التأويل وما ذكرتيه صحيح ومنطقي قبل أن يكون لغوياً ..فعلا سيسقط التخاطب، ولن يُفقد المعنى فحسب بل حتى المادة ستُفقد لأننا نعيد توصيفها واستحضارها عبر اللغة وليس الحواس.. التعالي الذي قصدته يكون على طريقة التأويل، لأنني أجد أن المقاصد كطريقة تأويل أعلى من الاجتهاد الفقهي، وهي فيما تبدو ألصق بالنص منه ، خاصة في النصوص المُشكِلة أو التي راعى الشارع فيها لغة تمثل بيئة جيدة لخلق احتمالات تأويل.. سعدت بإضافتك عزيزتي صفية وأشكرك.

قالت صفية:

هل تقصدين : هل المقصد هو أحد طرق التعرف على النص؟

أما مسألة تفسير النص فالمقصد يتدخل فيها قطعا الى اي حد هذا يختلف بحسب رؤية المجتهد لان المسألة هنا تنتقل الى ساحات الظنيات الرحيبة .. مع الاخذ في الاعتبار ان العمل بالقطعي هو مقصد كما حرر ذلك نقلا عن الامام الشاطبي االعالم الجليل عبد الله بن بيه في تعريفه للمقصد في كتابه مشاهد من المقاصد

الحجاب .. أسئلة الثابت والمتغير (1)

قبل عام أو أقل نظم مركز السيدة خديجة بنت خويلد في جدة ملتقى كبيرا يناقش قضايا المرأة والتنمية، وكان ممن استضاف الملتقى الباحث المثير للجدل الدكتور أحمد الغامدي، تكلم الدكتور الغامدي يومها عن أن من العلماء من قال إن الذراع ليست عورة ، وأن الإمام ابن عاشور ذكر في تفسيره التحرير والتنوير أن الشعر ليس عورة .. تذكرت حينها مناقشة جرت بيني وبين أحد المشايخ حول بحثي عن الحجاب ، وذكري لجميع ما توصلت إليه من أقوال علمية في المسألة مع تبيان منزلتها العلمية في المذهب الذي تنتسب إليه ، يومها قال الشيخ : أنت ستفتحين باب شر وفتنة على الناس. قلت له : الأقوال مسطورة في الكتب ، ولم تعد مراجعة الكتب مقتصرة على المتخصصين ، وقد قدمت دراسة علمية تأصيلية ، أراها أقرب إلى حماية الناس من الشر والفتنة لأنها لا تقدّم الدين للناس كما نراه بل كما هو، ليس من حقنا أن نكون أوصياء على خلق الله .

أعود للدكتور الغامدي ..طلبت التعليق وأنا أسأل الله صلاح النية والنفع .. علّقت فقط على مسألة الشعر لأن الوقت المتاح للتعليق ضيٌق: قلت : إن الإمام ابن عاشور في تفسيره ذكر أن الشعر ليس عورة بصيغة التضعيف ولم يعتمد هذا القول . فلا تصح نسبة هذا القول إلى الإمام ابن عاشور. كما أن هذا القول- فيما بحثت- لم ينقله أو ينص عليه أحد من العلماء. والبحث المدقق يجعلنا نقول إن وجوب تغطية الشعر قريبة من أن تكون قطعية . وقد احترمت رد الدكتور الغامدي حين قال إنه لم يكن دقيقا في كلامه . أقر بأنه أخطأ بأدب جدير بالتقدير.

كانت أسئلة الثابت والمتغير في الحجاب تشغل عقلي ، قال لي أخ فاضل من طلبة العلم الشرعي : المسألة واضحة لا لبس فيها ، ما عدا الوجه والكفين والقدمين يجب قطعيا على المرأة أن تغطيه أمام الرجال. قلت له : هناك أقوال أخرى ، قال : لا يعتد بها ..

لكن الأمر عندي لم يكن بهذه البساطة ، فمدخل بحث المسألة هو بحثها من حيث الثبات والتغير، ما الثابت القطعي الذي ليس مجالا للاجتهاد ، وما المتغير الظني الذي هو مجال للاجتهاد . والقول عن أمر ما أنه قطعي معناه أن نجزم أن مراد الله قطعا هو كذا فإن لم نكن متيقنين فنحن نقع في القول على الله بغير علم وهو إثم عظيم .

إذن : لا بد من اكتشاف المنهج الذي نتبين به القطعي الثابت من الظني المتغير.

ولا بد من معرفة كيف نزن الأقوال ، وما هو الضابط الذي نحكم وفقا له على قول ما أنه لا يعتد به.

كما أنني لا بد لي أن أدرس منهجية التعامل مع الأقوال الظنية في المسألة من حيث التطبيق، ما ضابط اختيار قول دون آخر؟

إذن هذه ثلاثة أسئلة أصولية بحثتها تفصيلا ، وسأذكر لكم خلاصة ما توصلت إليه مع كوني سأفردها بعرض مستقل في وقت لاحق.

أما السؤال الأول فجوابه أن الحكم الفقهي القطعي هو الحكم الذي دل عليه دليل قطعي من نص الكتاب والسنة المتواترة والإجماع القطعي .

والمراد بالنص هو الذي دل على معناه دلالة لا يتطرق إليها احتمال مقبول.

وهنا مسألة جوهرية وهي أنه لا بد لنا أن نقرر أن ثبات الحكم القطعي هو من حيث كونه قانونا كليا لا من حيث تنزيله على الواقع . لأن التنزيل على الواقع قد يقتضي تغيير الحكم مراعاة لقوانين كلية أخرى طلبا لاتساق الشريعة على نسق تام محكم . مثال ذلك أن الميتة محرمة وهذا حكم فقهي قطعي لكن يحل أكل الميتة حال الاضطرار وذلك مراعاة لقاعدة اعتبار الضرورات في الشريعة .

وقد فصلت في بحث مستقل ضوابط تغير الحكم الفقهي القطعي عند تنزيله على واقع المكلّف.

وهنا سؤال : كيف نتوصل إلى تبين قطعية الدلالة من عدمها ؟ والجواب أن علينا أن ندرس تفسيرات العلماء لدلالة الدليل القطعي من حيث طريق الثبوت ، فلو اختلف المجتهدون دل هذا الاختلاف على أن الدليل ليس قطعيا في دلالته . ونحن نرجع إلى العلماء المجتهدين في تبين قطعية الدلالة من عدمها لأننا مأمورين بسؤال أهل الذكر .

ويأتي هنا السؤال الثاني وهو كيف نزن الأقوال ، وكيف نحكم على قول ما أنه لا يعتد به . والجواب هو أن القول ما دام أنه صدر من مجتهد ولم يخالف حكما قطعيا باق محله مستوف شروطه منتفية موانعه فحينها يكون هذا القول مقبولا . فقد يرى مجتهد أن قولا ما لمجتهد آخر ضعيف، لكن هذا رأيه ، والمجتهد الآخر لا يرى في اجتهاد نفسه ضعفا . وعليه : ليس أحد القولين بأولى من الآخر.

والسؤال الأخير هو كيف نتعامل مع الأقوال الظنية في التطبيق. والجواب هو أننا نتبع فتيا من نعتقد أهليته للفتيا ، فليس لنا أن نستقل باتباع قول ما لمجرد كونه مسطورا في الكتب لا بد لنا أن نستفتي عالما يدرس معنا مآلات الأخذ بقول ما من حيث المصلحة والمفسدة . مع التنبيه على أن المفتي ليس من حقه أن يلزم المستفتي برأيه بل يعرض عليه الأقوال التي لا يترتب على الأخذ بها مفسدة بعد تدارس المفسدة مع المستفتي، وللمستفتي أن يتخير منها .

السطور التأصيلية السابقة هي ما ترجح عندي من بحث في موضوعها ، وتقريرها أساس لفهم الثابت والمتغير في المسائل الفقهية فهما يجمع بين التأصيل والتطبيق .. وبه أختم الحلقة الأولى من سلسلة مقالات أتناول فيها فقه " الحجاب" في الشريعة أصوليا ومقاصديا وفقهيا. والله الموفق.