السبت، 19 نوفمبر 2011

الحجاب .. أسئلة الثابت والمتغير (1)

قبل عام أو أقل نظم مركز السيدة خديجة بنت خويلد في جدة ملتقى كبيرا يناقش قضايا المرأة والتنمية، وكان ممن استضاف الملتقى الباحث المثير للجدل الدكتور أحمد الغامدي، تكلم الدكتور الغامدي يومها عن أن من العلماء من قال إن الذراع ليست عورة ، وأن الإمام ابن عاشور ذكر في تفسيره التحرير والتنوير أن الشعر ليس عورة .. تذكرت حينها مناقشة جرت بيني وبين أحد المشايخ حول بحثي عن الحجاب ، وذكري لجميع ما توصلت إليه من أقوال علمية في المسألة مع تبيان منزلتها العلمية في المذهب الذي تنتسب إليه ، يومها قال الشيخ : أنت ستفتحين باب شر وفتنة على الناس. قلت له : الأقوال مسطورة في الكتب ، ولم تعد مراجعة الكتب مقتصرة على المتخصصين ، وقد قدمت دراسة علمية تأصيلية ، أراها أقرب إلى حماية الناس من الشر والفتنة لأنها لا تقدّم الدين للناس كما نراه بل كما هو، ليس من حقنا أن نكون أوصياء على خلق الله .

أعود للدكتور الغامدي ..طلبت التعليق وأنا أسأل الله صلاح النية والنفع .. علّقت فقط على مسألة الشعر لأن الوقت المتاح للتعليق ضيٌق: قلت : إن الإمام ابن عاشور في تفسيره ذكر أن الشعر ليس عورة بصيغة التضعيف ولم يعتمد هذا القول . فلا تصح نسبة هذا القول إلى الإمام ابن عاشور. كما أن هذا القول- فيما بحثت- لم ينقله أو ينص عليه أحد من العلماء. والبحث المدقق يجعلنا نقول إن وجوب تغطية الشعر قريبة من أن تكون قطعية . وقد احترمت رد الدكتور الغامدي حين قال إنه لم يكن دقيقا في كلامه . أقر بأنه أخطأ بأدب جدير بالتقدير.

كانت أسئلة الثابت والمتغير في الحجاب تشغل عقلي ، قال لي أخ فاضل من طلبة العلم الشرعي : المسألة واضحة لا لبس فيها ، ما عدا الوجه والكفين والقدمين يجب قطعيا على المرأة أن تغطيه أمام الرجال. قلت له : هناك أقوال أخرى ، قال : لا يعتد بها ..

لكن الأمر عندي لم يكن بهذه البساطة ، فمدخل بحث المسألة هو بحثها من حيث الثبات والتغير، ما الثابت القطعي الذي ليس مجالا للاجتهاد ، وما المتغير الظني الذي هو مجال للاجتهاد . والقول عن أمر ما أنه قطعي معناه أن نجزم أن مراد الله قطعا هو كذا فإن لم نكن متيقنين فنحن نقع في القول على الله بغير علم وهو إثم عظيم .

إذن : لا بد من اكتشاف المنهج الذي نتبين به القطعي الثابت من الظني المتغير.

ولا بد من معرفة كيف نزن الأقوال ، وما هو الضابط الذي نحكم وفقا له على قول ما أنه لا يعتد به.

كما أنني لا بد لي أن أدرس منهجية التعامل مع الأقوال الظنية في المسألة من حيث التطبيق، ما ضابط اختيار قول دون آخر؟

إذن هذه ثلاثة أسئلة أصولية بحثتها تفصيلا ، وسأذكر لكم خلاصة ما توصلت إليه مع كوني سأفردها بعرض مستقل في وقت لاحق.

أما السؤال الأول فجوابه أن الحكم الفقهي القطعي هو الحكم الذي دل عليه دليل قطعي من نص الكتاب والسنة المتواترة والإجماع القطعي .

والمراد بالنص هو الذي دل على معناه دلالة لا يتطرق إليها احتمال مقبول.

وهنا مسألة جوهرية وهي أنه لا بد لنا أن نقرر أن ثبات الحكم القطعي هو من حيث كونه قانونا كليا لا من حيث تنزيله على الواقع . لأن التنزيل على الواقع قد يقتضي تغيير الحكم مراعاة لقوانين كلية أخرى طلبا لاتساق الشريعة على نسق تام محكم . مثال ذلك أن الميتة محرمة وهذا حكم فقهي قطعي لكن يحل أكل الميتة حال الاضطرار وذلك مراعاة لقاعدة اعتبار الضرورات في الشريعة .

وقد فصلت في بحث مستقل ضوابط تغير الحكم الفقهي القطعي عند تنزيله على واقع المكلّف.

وهنا سؤال : كيف نتوصل إلى تبين قطعية الدلالة من عدمها ؟ والجواب أن علينا أن ندرس تفسيرات العلماء لدلالة الدليل القطعي من حيث طريق الثبوت ، فلو اختلف المجتهدون دل هذا الاختلاف على أن الدليل ليس قطعيا في دلالته . ونحن نرجع إلى العلماء المجتهدين في تبين قطعية الدلالة من عدمها لأننا مأمورين بسؤال أهل الذكر .

ويأتي هنا السؤال الثاني وهو كيف نزن الأقوال ، وكيف نحكم على قول ما أنه لا يعتد به . والجواب هو أن القول ما دام أنه صدر من مجتهد ولم يخالف حكما قطعيا باق محله مستوف شروطه منتفية موانعه فحينها يكون هذا القول مقبولا . فقد يرى مجتهد أن قولا ما لمجتهد آخر ضعيف، لكن هذا رأيه ، والمجتهد الآخر لا يرى في اجتهاد نفسه ضعفا . وعليه : ليس أحد القولين بأولى من الآخر.

والسؤال الأخير هو كيف نتعامل مع الأقوال الظنية في التطبيق. والجواب هو أننا نتبع فتيا من نعتقد أهليته للفتيا ، فليس لنا أن نستقل باتباع قول ما لمجرد كونه مسطورا في الكتب لا بد لنا أن نستفتي عالما يدرس معنا مآلات الأخذ بقول ما من حيث المصلحة والمفسدة . مع التنبيه على أن المفتي ليس من حقه أن يلزم المستفتي برأيه بل يعرض عليه الأقوال التي لا يترتب على الأخذ بها مفسدة بعد تدارس المفسدة مع المستفتي، وللمستفتي أن يتخير منها .

السطور التأصيلية السابقة هي ما ترجح عندي من بحث في موضوعها ، وتقريرها أساس لفهم الثابت والمتغير في المسائل الفقهية فهما يجمع بين التأصيل والتطبيق .. وبه أختم الحلقة الأولى من سلسلة مقالات أتناول فيها فقه " الحجاب" في الشريعة أصوليا ومقاصديا وفقهيا. والله الموفق.

هناك 7 تعليقات:

غير معرف يقول...

الله يعينك ويفتح عليك وينفع بك ويوقفك لكل مايحبه ويرضاه.حاولت اتخيل قد ايش الموضوع محير ومتشعب وعميق وفيه مسؤوليه جدا كبيرة كونه علم يتعلق بأحكام شرعية. جزاك الله خيرا وسدد خطاك ونفعنا بك.

طروب.

صفية الجفري يقول...

آمين يا طروب .. نعم هو كذلك .. أحتاج دعواتك جدا .. ولا تحرميني من تعليقك .. تعلمين أني يعجبني عقلك وصفائك

محمد يقول...

شكرا أختي صفية علي هذا المقال .. وأشرت إلي بحث لك عن "ضوابط تغير الحكم الفقهي عند تنزيله" وهذا الموضوع يهمني هل لي أن أحصل علي رابط للبحث إن كان نشر أو كان قابلا للنشر :) ؟

غير معرف يقول...

جميل
يعطيك العافية د.صفيه

في انتظار تتمة السلسلة :)
عبدالله سليمان

صفية الجفري يقول...

أخي محمد نعم هو قابل للنشر :) فما فائدة العلم إن لم ينشر هذا واجب.. وتكرما الإشارة للمصدر .. سأفعل ذلك قريبا باذن الله .. اعطني بعض الوقت كرما
أخي عبد الله :
يعافيك ويبارك فيك اعتز بمتابعتك جدا

ابتهال يقول...

بداية سامحيني عزيزتي على التقصير في متابعتك على المدونة مؤخرا، تعلمين ما أنا فيه، لكني استمتعت كثيرا بقراءة هذا المقال وأعجبني ردك على الدكتور الغامدي، للأسف الكثير ممن يتصدى للكلام عن الدين تغلب أحيانا الحمية العصبية على ملكة العلم فتأتي الردود على من أخطأ أو أساء الفهم بأسلوب هجومي بعيدا عن العلم فتجعل الطرف الآخر آكثر تشبثا برأيه. أسلوبك العلمي الراقي الهادىء كان في محله وأثمر في حينه فتح الله عليك ووفقك وكثر من أمثالك في الأمة

ما يتعلق بموضوع الحجاب، تذكرت كلاما لساداتنا العلماء في هذه المسألة من المعاصرين جال بخاطري أثناء قراءة مقالك، وأنقله بمعناه لا نصه، إذ لا تسعفني الذاكرة، منها أنه لا خلاف في في فرضية الحجاب كما سمعت من الشيخ علي جمعة، وذلك حين طرحت عليه سؤالا عن بعض ما يتردد على ألسنة من يتصدرون للدعوة اليوم من كون الحجاب ليس واجبا وإنما هو فقط للعفة فمتى أمكن تحقيقها بدون حجاب لا يلزم الحجاب وغير ذلك من كلام باطل بين الشيخ أن لا أصل له، منها ما سمعته مؤخرا من العلامة الأصولي الشيخ بن بية حين سئل في احدى القنوات المصرية في مقابلة له في آخر رحلة له إلى مصر قبل فترة قصيرة، عن حكم تغطية الوجه كون المفتي الشيخ علي جمعة أفتى بجواز كشف الوجه فهاجمه المتنطعون هجوما شديدا بذيئا وصل إلى القذف، أوضح الشيخ بن بية بهدوئه المعتاد أن المسألة قد أشبعها العلماء بحثا فلم يعد فيها محلا للاجتهاد بعد ذلك فقد قلبوا كل أدلتها والأقوال حتى لم يبق شيء يضاف على ذلك، كما أوضح آن سماحة المفتي فتواه هي قول الأئمة في ٣ من المذاهب الأربعة.
الشاهد هنا أنه إذا كانت مسآلة النقاب قد قتلها العلماء بحثا، وهي آخر ما تستره المرأة، فلا بد أيضا و من باب أولى أنهم قد استنفذوا باقي الأجزاء بحثا وأحاطوا بكل الأقوال
الإشكال في المتطفل على العلم، كالمتطفل على الطب، لا يفرق بين قول يعتد به تلقاه الثقات بالقبول وقول شاذ لا يعمل به، وبين ما هو خلاف معتبر وخلاف لا عبرة له، فكما يقتل الطبيب الجاهل كذلك يفعل مدعي العلم

لذا فمن الأهمية القصوى في زمننا هذا أن يتصدر لمثل هذه الأمور ، وسيعى لاستخراج في بطون الكتب أمثالك من أصحاب العقول المستنيرة من آتاهم الله حب العلم مع الحرص على الحق وجمع لهم الغيرة على الدين مع الشفقة على الأمة
وفقك الله غاليتي و فتح عليك فتوح العارفين
محبتي

صفية الجفري يقول...

تواصلت أثناء بحثي للمسألة مع الشيخين ياابتهال / وبعد نقاشات تطول أو تقصر توصلت إلى ما كتبته في الجزء الرابع وما بعده من هذه المقالة .. أنتظر باهتمام تعليقك .. شكرا جزيلا يا أختي الغالية.