الخميس، 28 مارس 2024

أسئلة منتصف العمر ، قراءة في كتاب: منتصف العمر: دليل فلسفي

 *نشرت هذه المقالة في مجلة الجوبة الثقافية ، العدد 82 ، رمضان 1445 الموافق مارس : 2024م 


"هل تستطيع  الفلسفة الأكاديمية بكل جدالاتها وشكوكها وتعقيداتها أن تساعد أي فرد في منتصف العمر يتساءل: كيف يحيا؟ "

يطرح كيرين سيتيا هذا السؤال في كتابه : "منتصف العمر : دليل فلسفي"، ثم يجيب عنه بالإيجاب، و يؤكد على أن تناوله لأزمة منتصف العمر من زاوية فلسفية ليس لأن تدريس الفلسفة والتأليف في موضوعاتها هو تخصصه الأكاديمي فحسب، ولكن لأن الأمر بالنسبة له بات شخصيا بعد حالة الخواء التي اكتسحت روحه رويدا رويدا رغم استقراره الأسري والمهني . يقول: " كنت أستاذا دائما في قسم جيّد، وأقيم في مدينة ملائمة في الغرب الأوسط من الولايات المتحدة، وكنت أعرف أني محظوظ لأني أفعل ما أحب ومع ذلك، كان هناك شيءٌ خاوٍ ... وحينما صرفت فكري إلى الحياة التي سعيت بجد لبنائها، شعرت بمزيج مربك من الحنين، والندم، ورهاب الاحتجاز، والفراغ، والخوف".

لا يستهدف الكتاب من هم في منتصف العمر فحسب، بل يخص كل من يواجه حقيقة استحالة الرجوع بالزمن بكل ما يتصل بهذه الحقيقة من أسئلة حول الفناء، والفوات، و الحياة التي أردناها وتلك التي نعيشها.

ويقول كيرين سيتيا إنه لا يفترض في قارئ هذا الكتاب أي معرفة مسبقة بالفلسفة، فقد كُتب بلغة سهلة وموجزة أو كما عبّر : " وقد حاولت أن أكتب كتابا تقرؤه وأنت واقف على قدم واحدة" .

لست متخصصة في الفلسفة، ووجدت أن المؤلف وفى بوعده.

نشر كيرين سيتيا هذا الكتاب في عام 2017م، وهذا القرب الزمني في معالجة الموضوع كان من أسباب فضولي لقراءة الكتاب الذي يناقش مسألة أنا معنيّة بها بشكل شخصي أيضا. وقد قامت بترجمة هذا الكتاب نورة أبو طالب، ونشرته دار معنى السعودية ، في عام 2022م . ويقع الكتاب في 205 صفحة.

والقراءة التي سأقدمها لكتاب "منتصف العمر : دليل فلسفي" ليست قراءة هيكلية أو تلخيصية، لكنها قراءة تعرض مختارات من الكتاب، كما أقدّم فيها أفكارا قادتني إليها بعض أفكار الكتاب التي أضافت عمقا إلى جوابي الوجودي الخاص عن أسئلة أزمة منتصف العمر.   

 

سطوة الزمن

              يقول كيرين سيتيا : تدور أزمة منتصف العمر حول السمات المرحلية للحياة الإنسانية: التناقص التدريجي للإمكانات ، وإتمام الخطط أو تعطلها، وتراكم الخبرات الحياتية، وفي هذا السياق  يجد الإنسان نفسه أمام أسئلة تتعلق بالزمن، والفناء، ومحدودية الحياة، والفرص الضائعة، والطموحات غير المحققة.

            هذه الأسئلة تصبح مؤرقة بالنسبة له، بحيث تفقده طعم الحياة، أو تجعله في حال من الغضب أو التخبط  أو اليأس أو الإحباط أو الخواء. هي ليست مجرد فترة عصيبة لأكدار أو ابتلاءات خارجية، جوهر أزمة منتصف العمر مرتبط بسطوة إحساس قاس بمضي الزمن بكل تجليات هذه السطوة من مشاعر حادة.

في عام 2008م، نشر الاقتصاديّان ديفيد بلانشفور من جامعة دارتماوث وآندرو أوزوالد من جامعة وارويك مقالا بعنوان :" هل الرفاه يأخذ شكل حرف U خلال دورة الحياة؟ " واستنادا إلى استطلاعات طرحت فيها أسئلة على بالغين من مختلف الأعمار من قبيل : ما مدى رضاك عن حياتك هذه الأيام، مع وضع كل شيء بالحسبان؟ ومن خلال التركيز على الدخل، والحالة الاجتماعية، والحالة الوظيفية، وجد الباحثان أن مستوى السعادة المبلّغ عنه بحسب العمر اتخذ حرف U المقوّس، حيث يبدأ عاليا في بداية مرحلة البلوغ، وينتهي عند نقطة أعلى في مرحلة الشيخوخة، ويصل إلى القاع عند سن السادسة والأربعين. وظهر هذا النمط في 72 دولة حول العالم، وكان متماثلا عند الرجال والنساء. وقد استبعد تحليل العلاقة بين المتغيّرات التفسير المرتبط بالضغوط الناتجة عن الأمومة والأبوّة. لقد كان منحنى U متفشيا ومكينا من الناحية النفسية ، ويبدأ ذلك من سن السادسة والأربعين . وقد اعتمد الباحثان منحنى U في دراسات طولية تتبع ذات الأفراد عاما بعد عام ، فمصدر هذا المنحى هو ما يجري لنا حين نتقدّم في السن، وليس الاختلافات في "مكان" الميلاد أو حالة المجتمع .

نحن إذن وفقا للخلاصة التي يقدّمها لنا كيرين سيتيا من نتائج الدراسات المتعلقة بأزمة منتصف العمر أمام حالة "كونشوتية" في مواجهة الزمن، حالة من عدم الرضا في أقصى صوره وتجلياته، وهذه الحالة تبدأ من السادسة والأربعين إلى الستين من العمر. وقد استوقفني في هذه الخلاصة ما قاله كيرين سيتيا من أنه وفقا للدراسات فإن مرحلة الشيخوخة ( ما بعد الستين ) هي مرحلة رضا وزهد وتصالح مع الزمن ، وأظن أني أفهم ذلك؛ ولكأن قدر الإنسان ألا يسكن إلا بعد العاصفة، وألا ينشرح  قلبه إلا بعد أن يبلغ شعوره بالضيق مداه.

لقد اختبرت بعض تجليات أزمة منتصف العمر  في السادسة والأربعين ولكني اليوم أجد نفسي – بفضل الله-قد تصالحت معها إلى حد كبير ولمّا أبلغ الخمسين. و أرجو أن تساعد هذه القراءة في رحلة الطمأنينة.   

 

تاريخ موجز لأزمة منتصف العمر

            يقول كيرين سيتيا إن أقدم نص يستشهد به على تناول أزمة منتصف العمر يأتي من الأسرة المصريّة الثانية عشرة، منذ نحو ألفي سنة قبل الميلاد، وهو عبارة عن حوار بين رجل منهك وروحه.

ويطوف بنا كيرين سيتيا في نصوص أدبية كُتبت في القرون الوسطى ، وما قبلها،  تتناول نماذج من أزمة منتصف العمر، ثم ينبّه على أن المغزى من الشواهد من زمن ما قبل التاريخ      وما في حكمها لا يكمن في تبيان لا زمنية أزمة منتصف العمر، بقدر ما يكمن في الكشف عن هيمنتها على مخيّلتنا. ويقول إنه من اليسير إسقاط صورتنا عن الأزمة على حياة سابقة مختلفة تماما عن حياتنا، ولكن الأصوب هو الاعتماد على تاريخ قابل للتتبع منذ ظهور الفكرة عام 1965م وحتى يومنا هذا.

            يأتي هذا التنبيه على الرغم من الروح الأدبية التي كتب بها هذا الكتاب،  ورغم أن المؤلف قد نصّ على أنه لم يتّبع: "أسلوب العلوم الاجتماعية المنهجية، وإنما أسلوب الملاحظة الدقيقة للتجربة المعاشة"، إلا أن تخصصه الأكاديمي غلبه هنا، فضيّق واسعا؛ لأن المصطلح لا يخلق المعنى لكنه يجلّيه، ويضبطه.

            ثم استعرض المؤلف عددا من الكتابات والدراسات الحديثة التي تناولت أزمة منتصف العمر من عام 1965م إلى عام 2012م . وقد استوقفني تنويهه  إلى أن التسعينات من القرن الماضي كان زمن ازدهار تناول فكرة أزمة منتصف العمر في الروايات، وذكر منها رواية: "حدث شيء ما" لجوزيف هيلر، ورواية: " الصيف قبل حلول الظلام" لدوريس ليسينغ.

 

قسوة الفوات

            ناقش الكتاب المشاعر العاصفة التي غالبا ما تزور المرء في منتصف عمره ، ومن هذه المشاعر شعور الفوات، أن يتحسّر المرء على خيارات لم يغتنمها، ولم يعد قادرا على استعادتها، أو يصعب عليه استعادتها؛ لأن التقدّم في العمر يضيّق ما كان واسعا في الشباب .

            يقول كيرين سيتيا :"إن الفوات نتيجة مترتبة على تعدد الخيارات، ولن يحميك من الحيرة والفزع سوى نضوب العالم من الخيارات، أو افتقارك إلى القدرة على التفاعل معها . وعليه فلا مناص من قبول واقعك. وهناك أمر آخر هو أننا نبالغ -غالبا- في تقدير قيمة امتلاك الخيارات، نعم، الخيارات مهمة، ولكنها لا تكفي للتعويض عن النتائج التي لن تفضّلها، فلو اخترت طريقا آخر فلا بد أن له خساراته، فلا تنخدع بجاذبية الاختيار. " اهـ مختصرا.

            هذا بعض جواب كيرين سيتيا عن وجع الفوات. وقد كان جوابي لنفسي كلما اشتد بي هذا الوجع، هو الآية الكريمة : (والله يعلم وأنتم لا تعلمون )، ثم إن كلام كيرين سيتيا ساعدني على مزيد تحرير لما توصّلت إليه بعد طول تأمل، وهو أن التسليم للقدر هو الجواب المنطقي الوحيد عن قسوة الفوات، وحسرات منتصف العمر .

وجوابي الذي ينطلق من نموذجي المعرفي الذي أؤمن به، هو أننا عاجزون عن  التحكّم بالقدر؛ إذ أننا لا نملك التحكّم في مسارات أقدارنا، مهما بلغنا من حكمةٍ في الاختيار، ثم إن هناك نقصنا الشخصي، وإخفاقاتنا اللازمة لبشريتنا، كل ذلك يقودنا إلى القبول، قبول ما مضى بكل       ما فيه من سوء؛ لأنه في جوهر الأمر لا أحد يملك القدرة على التحكم الكامل في مسار حياته، فمن نجح وتحقق، فنجاحه وتحققه فيه عامل غامض يتصل بمساعدة القدر على هذا النجاح والتحقق، ومن تعثرت خياراته، فجزء من الأمر يتعلق بالقدر لا بفساد اختياراته، وعليه فإن المرء بين خيارين؛ إما أن يسجن نفسه في ظلمة الشعور بالبؤس والندم، أو أن يصالح أيامه الماضية بقبولها، والإقبال على ما تبقى من عمره بنفس هادئة، تحاول التعلم من دروس الماضي،              ولا تتحلل من القيم التي تؤمن بها ولكأنها هي العائق الذي يحول بينها وبين ما تبقى لها من نعيم في هذه الحياة؛ لأنها حينئذ ستصطدم بمجهول جديد يكلّفها مزيد عنت، ومزيد شعور بالندم، والإحباط، وجفوة أهل مودتها.

 

خواء الحاضر

            يرى كيرين سيتيا – وفقا لتجربته الخاصة- أن التحدّي الأكثر إرباكا في منتصف العمر       لا يكمن في التأقلم مع الماضي أو المستقبل، وإنما مع خواء الحاضر، ومع الشعور بأن الإشباع مؤجّل أو فات أوانه، وأن سعي المرء الدؤوب يدمّر ذاته. والحل لهذه المعضلة عنده هو أن يركز المرء على ما يمارسه لا على أن يحصد نتيجة عمله، يقول: قد لا يكون هناك تغيير فيما تفعله من يوم لآخر، لكن الشعور بالامتلاء لا يأتي من الانتقال من مشروع ننجزه إلى مشروع جديد، وإنما من تقدير ما لدينا من مهام، سواء تلك التي لها أمد، كالمشاريع التي لها مدة انتهاء ( ككتابة مقالي هذا قبل أن أنهيه )، أو لا أمد لها، كعملية تربية الأبناء، أو الحفاظ على الصداقات، أو المشي والتنزه في صحبة النفس ، أو القراءة، أو فعل الكتابة قبل بلوغ غايته، أو مزاولة أي عمل جاد.  

           

صبر متمهل

            لقد ركّز الكتاب على العلاج المعرفي لأزمة منتصف العمر، ونبّه كيرين سيتيا في السطور الأخيرة من خاتمة الكتاب إلى أن الإدراك وحده غير كاف، بل لا بد من أن نفعّل الأفكار كممارسة، ونصبر على ذلك إلى أن تجعل الممارسة وجداننا في حال انسجام مع قناعاتنا العقلية. قال: " ما زلت أسعى إلى حل أزمة منتصف العمر التي أعيشها، برغم أني أدرك السبيل للخروج منها، يلزمني التخلّص من العقلية الانتهائية، وتنمية التوجّه غير الانتهائي في المقابل".

            الزمن كما يصوغ أزمتنا في منتصف العمر فإنه رفيقنا في تجاوزها، التبصر المعرفي يحتاج إلى الصبر المتمهل، وشهود النعمة في التفاصيل التي نحياها، أو ما سمّاه كيرين سيتيا تقدير ما لدينا من مهام، نصبر لنتحقق بالمعنى الذي نؤمن به، ونصبر حتى يصير المعنى سجيّة.

            أضيف هنا أمرا آخر، وهو أن أزمة منتصف العمر قد يكون علاجها أوسع من أن يقتصر على الجانب المعرفي، وهو الجانب الذي اجتهد كيرين سيتيا في بسطه في هذا الكتاب، فقد يحتاج من يمر بهذه الأزمة إلى علاج نفسي يعينه على استعادة توازنه، والاتساق مع قيمه .

                                                                                    



السبت، 24 فبراير 2024

بوصلة طفلك. لأن التهذيب وحده لا يكفي

 

كانت ابنتي آمنة في السادسة من عمرها عندما قالت لي: " ماما صديقتي تقول إن الموسيقى حرام ، فقلت لها: مستحيل تكون الموسيقى حرام، الموسيقى جميلة فكيف تكون حراما، أيضا نحن نسمع الموسيقى أنا وماما ولم تقل لي ماما أبدا إن الموسيقى حرام" .

ابتسمت، فلم أكن أتوقع أن تثير آمنة هذا الموضوع في هذه السن المبكرة . قلت: قبل أن أجيبك يا آمنة على سؤالك لا بد أن أحكي لك قصّة حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت لها حديث: " لا يصلّين أحد العصر إلا في بني قريظة"[1] وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقر الفريقين على اجتهادهما.

قلت لآمنة هذه القصّة هي المنطلق الذي تفهمين منه أمرا مهمّا وهو أن العلماء كثيرا ما اختلفوا في فهم الآيات والأحاديث مثل اختلاف الصحابة في هذه القصّة، وقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحترم اختلاف العلماء.

والآن بالنسبة للموسيقى، الموسيقى يا آمنة وليس الكلمات، فقد اختلف العلماء في فهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم في حكم الموسيقى، فأكثر العلماء قالوا إن الموسيقى حرام، وهناك علماء قالوا إن الموسيقى ليست حراما.

طلبت من آمنة أن تعيد عليّ ما فهمته من كلامي، وأعادته بشكل جيّد ثم قالت : لكن يا ماما كيف تكون الموسيقى الجميلة حراما[2]؟ قلت لها:  الموسيقى التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعزف في مكان يجتمع فيه الناس على الخمر، والأفعال السيئة، فكانت هذه الأمور  السيئة جزءا من مجلس الغناء، ففهم أكثر العلماء أنها محرّمة لأنها تنتمي إلى الأمور السيئة إجمالا . لكن بعض العلماء فرّقوا بين الأمور السيئة وبين الموسيقى ووجدوا مثلك أن الموسيقى جميلة وقالوا  لماذا نقول إنها حرام إذا كانت لا ترافقها أمور سيئة ؟

لقد كان هذا الحوار بيني وبين آمنة هو أول ما نبهني إلى فكرة أن التربية لا تتعلق فقط بإرشاد أولادنا إلى التفاصيل المتعلقة بالتهذيب، وإنما بالمرجعيّة التي تشكّل موقفنا من التفاصيل.

أطفالنا ورحلة المعنى

            أذكر جيّدا أني عشت طفولتي وأوائل مراهقتي في الثمانينات دون أن أصطدم بأية أسئلة تتعلق بموقفي من هواياتي، أو من المسائل الأخلاقية المركبة كالصدق والكذب والتسامح ، كانت الأمور سلسة لا تعقيد فيها لكن يبدو أن الأمر ليس كذلك بالنسبة لطفلتي التي بدأت الأسئلة معها مبكّرا في السادسة.

            إذن يبدو أن أطفالنا يخوضون رحلة المعنى بصورة أكثر تعقيدا مما عشناه. كان " المعنى" في طفولتي يتصل بصورة بسيطة بفكرة أن الله يحب الخير ويكره الشر، وأننا نفعل الخير ليرضي الله عنّا ونبتعد عن الشر لأن الله لا يحبه.

            جيل ابنتي يتداول حديثا عن الحلال والحرام في تفاصيل لم نكن نتطرق إليها في الثمانينات. آمنة الآن في الحادية عشرة من عمرها ، تهوى الرسم ، وجاءت لتسألني هل حقا رسم الأشخاص حرام لأن صديقة لها قالت إن رسم " المانجا " حرام. عدت مع آمنة  إلى حديث بني قريظة ، هذا الحديث العظيم الذي يصوغ بشكل مبسّط موقف المسلم حيال الاختلاف الفقهي، ووجدت أن فهمه حاضر في وجدانها، وشرحت لها اختلاف العلماء في المسألة ؛ فكان أن اطمأنّت إلى هوايتها.

ما بعد الحلال

            مرّت خمس سنوات على حديثي مع آمنة عن الموسيقى، وعادت البارحة إليّ تسألني من جديد عن الموسيقى.

            قالت لي آمنة ألم تقولي لي يا ماما أن أكثر العلماء " من زمان" يقولون إن الموسيقى حرام، قولي لي من فضلك مرة أخرى لماذا قالوا ذلك ؟ شرحت لها من جديد وجهة الاختلاف بين العلماء في حكم الموسيقى، ثم وجدت أن الوقت صار مناسبا لتفصيل أعمق، فقلت لها: ليست العبرة – يا آمنة-  بالعدد ، عدد العلماء الذين فهموا فهما معيّنا، وإنما العبرة بالتمكّن العلمي، سواء اجتمع على الرأي عشرة أو قال به واحد فقط مادام مؤهلا. والمهم هو أن يختار المسلم من دائرة الإسلام الواسعة ما يكون مناسبا لشخصيته، وطبيعته ، واحتياجاته الوجدانية، بحيث يعيش في سلام واتساق بحيث لا يمارس أشياء تصطدم مع قناعاته ومرجعيته. قد يختار الإنسان في مسألة ما الرأي القائل بالتحريم لأنه يرى أنه أقرب لنفسيته والجزء الخاص برؤيته الذاتية للأمور، وضربت لها مثلا بما حكته لي صديقة من أنها كانت تصافح الرجال بناء على الفتوى التي أجازت ذلك، وأنها كانت تتبنى في حياتها مبدأ أن تفعل كل ما قال عالم معتبر بأنه حلال، وتجعل بوصلتها في التصرّف الأخذ بالأقوال التي تسمح ولا تمنع، ثم إنه تبيّن لها بعد أن نضجت تجربتها في الحياة أن الأمر أعمق من فكرة أن تأخذ بالمسموح ، وأنها تحتاج حقا إلى أن تتعرّف على موقفها الخاص من كل الأمور التي اختلف فيها العلماء والتي تتصل بتفاصيل شؤونها النفسية والاجتماعية والعملية وكل شؤون حياتها. قلت لآمنة : صديقتي الآن لا تصافح الرجال؛ لأنها فهمت أن هناك مساحة ذاتية تركها لنا الدين عبر فقه الاختلاف، مساحة نكتشف فيها رؤيتنا الخاصة ونمارسها وحينها قد نختار القول بالمنع لا الإباحة بناء على رؤيتنا الخاصة .

 الإسلام واسع يا آمنة، وما حرّمه الله علينا تحريما واضحا لا اختلاف فيه إنما يتعلق بأمور قليلة بالنسبة لمساحة الاختيارات المتاحة، ولم يحرّم الله علينا إلا ما يترتب على فعله مفسدة لحياتنا وجودتها، وغالبا تتبيّن لنا الرؤية التي من أجلها حرّم الله علينا فعلا ما.

 


أطفالنا والواقع

            طرحت قبل عام تقريبا فكرة السعة في الاختيار بين اجتهادات العلماء، وجاءتني اعتراضات كثيرة بناء على ما اعتمده الخطاب الديني لسنوات من القول ب" منع الأخذ بالأسهل"، وهو القول السائد في كتب الأصول والفقه ، وكنت أجيب بأن هذه المسألة فيها رأيان ليس أحدهما بأولى من الآخر، وأن ما اعتمدته هو ما ذهب إليه عدد من علماء الأصول والفقه من الحنفية والشافعية، وقد فصّلت ذلك في كتابي: " الثبات والتغيّر في الحكم الفقهي " وتناولته في مقالتين عن فقه السعة نشرتهما في مدونتي. ثمّ إنه طرأ لي اليوم فهم جديد، وهو أن القول         ب "منع الأخذ بالأسهل " ينتمي إلي سياق عام لا يهمل فقه الواقع، فإذا وجدنا أن القول بجواز الأخذ بالأسهل بضوابطه[3] هو الذي يحقق المصلحة الشرعية وفقا للسياق الحضاري المعاصر الذي يناسبه تعدّد الخيارات فينبغي أن يكون المآل -منهجيّا- إلى اعتماده.

            ما أؤمن به تربويا أننا كلّما أعطينا لأطفالنا سعة أكبر في الاختيار والسيطرة في إدارة اختياراتهم -بل وواجباتهم- بعد أن نزوّدهم بالبوصلة التي تشكّل مرجعيتهم فإننا بذلك ندعم سلامهم الداخلي ، وتواصلهم الآمن غير المرتبك مع الحياة .

 

البوصلة العقلية ليست ترفا

            لا شك أن التعامل الحكيم مع الطفل الذي يشبع احتياجاته النفسية الأساسية وهي الحب والاحترام والمساندة والرفقة يحمي الطفل من تخبطات السلوك لكن التربية العقلية التي ترافق ذلك ليست ترفا؛ لأن تلبية الاحتياجات النفسية الأساسية لن يجيب على حيرة الطفل حيال هواياته أو اختلافات زملائه في مسائل الحلال والحرام والأهم من ذلك حيرته الذاتية حيال حاجته إلى اتساق قناعاته مع ممارساته .

            المقالة إشارة إلى أهمية أن يفهم أطفالنا أن تصرّفاتهم ينبغي أن تستند إلى مرجعية كليّة؛ بحيث إننا نساعدهم على إدراك موقفهم من الأشياء التي يمارسونها. وفي سبيل ذلك سنشرح لهم الأفكار الكبرى التي تحكم التفاصيل المتعلقة بتعاملهم مع أقرانهم، ومع الكبار والصغار، وتحكم كذلك موقفهم من المختلفين عنهم في القناعات أو المظهر أو السلوك ، وتحكم موقفهم حيال ما يتعلمونه أو يطّلعون عليه من أفكار أو ثقافات.

            الأصل في تفاعلنا مع الحياة أن نكون في حال اتساق وانسجام بين ديننا وقيمنا وبين اختياراتنا المتعلقة بنمط هواياتنا وعلاقاتنا الإنسانية، والاستثناء هو حال الصراع. الأصل هو الاستقرار، والمجاهدة في إطار هذا الاستقرار لا الصراع المتعلق بمرجعيتنا، وقيمنا الوجودية.

            إملاء الأفكار لا يجدي، كما أن التربية العقلية لا تثمر إن لم يرافقها أمران؛ أحدهما: تربية وجدانية متوازنة وشاملة للاحتياجات النفسية الأساسية، والثاني: تربية أخلاقية تبدأ من أخلاق القلب وتمتد إلى أخلاق السلوك.

                                                                                   

حرر في:  ليلة النصف من شعبان 1445هـ

              14/ 2/ 2024م

 

                       

 

           



[1] رواه مسلم .

[2] سؤال آمنة هنا له مستويان من الجواب؛ أحدهما: المستوى الفقهي وهو الذي أجبتها به، وهو المستوى الأقرب، والمستوى الثاني وهو الأبعد، يتعلق بمسألة التقبيح والتحسين، ولم أتطرّق إليه معها لصعوبته.

[3] الأخذ بالأسهل ضوابطه : أن يقول به عالم معتبر، وأن لا يؤدي إلى التلفيق، وأن لا يترتب عليه مفسدة معتبرة.

 

 

الأربعاء، 17 يناير 2024

كنّا نحتاج إلى اسم

 


الاسم دواء

في "حصيلة الأيام"[1] تحكي إيزابيل الليندي أن الضغوطات قد أحاطت بحياتها مع زوجها الأمريكي من كل جانب، تفاصيل لا ذنب لأحدهما فيها ، تفاصيل تغيّر طعم الأيام ليكون مرّا،  وفجأة شعرت أنها غير قادرة على الاستمرار بعيدا عن وطنها تشيلي، وقالت لزوجها أنها تريد الطلاق، كان وقع كلامها عليه كالصاعقة ، طلب منها زيارة معالج نفسي ووافقت على مضض؛ فثقافتها التشيلية -كما قالت- لا تعترف بالأسلوب المدلل لحياة الأمريكيين. تقول إيزابيل: "استمع الرجل إلينا دون مقاطعة، وعندما لم يبق سوى دقائق قليلة لانتهاء الجلسة، رفع جفنيه ونظر إلينا بملامح رثاء بريئة ، وقال : يا للحزن الذي في حياتيكما. تمتمت : حزن؟ لم يخطر هذا الأمر لأي منّا. تلاشى غضبنا في هنيهة ، وأحسسنا حتى العظم بحزن فسيح باتساع المحيط الهادي، لم نكن نرغب في الاعتراف به لمجرد الكبرياء . أمسك ويللي يدي ، وجذبني نحو حشيته وتعانقنا، وأحسسنا للمرة الـأولى بأن قلبينا موجوعان جدا. وكانت تلك بداية المصالحة ."

لقد أنقذ زواجهما الاسم، كانا يحتاجان إلى أن يسمّيا مشاعرهما، أن يعطيا لها هويّة،  فلما هداهما المعالِج إلى الاسم، انفتح باب الصلح بينهما .

 

الاسم دفء

            في قصة قصيرة بعنوان : " حب قديم" من المجموعة القصصية :" أيام عادية" لعادل عصمت حديث شجيّ عن دفء أن نوفّق إلى تسمية ما نحسه من مشاعر حلوة ولو تأخرت هذه التسمية أربعين عاما : " بعد أربعين عاما تأتي صدفة لتبعث مشاعر قديمة وتمنحها اسم                 " الحب" . لولا رؤيتي لهذه البنت، لما تعرّفت على حب قديم، ظلّ غافيا، دون اسم ، حتى ظهرت فأعطته اسمه ومنحته الوجود. حضورها غير المتوقع رفع الغطاء عن مشاعر قديمة وحررها من غفوتها واستعدت فرحتي برؤية سناء ذات الضفائر والغمّازات والنمش على الأنف، تبتسم فتثير بهجة تلقائية ومرحا عذبا في الصباح "[2].

 

الاسم نجاة

            يحدثنا التربويون أننا إذا ساعدنا أطفالنا على تسمية مشاعرهم، ولم نصادرها، ولم نقل لهم إنهم بخير وهم لا يشعرون بذلك مهما بدا لنا تصرّفهم نشازا؛ فإننا بذلك نبني بداخلهم وطنا  لا تيه فيه ، يميّزون فيه أحاسيسهم ، وحينها فإننا قمنا بدورنا لحمايتهم من الاستمرار في  علاقة تشوشهم، أو تربك ثقتهم بما يشعرون به. لقد شيّدنا في وجدانهم وطنا يعرفون فيه أسماء مشاعرهم، فإذا ما حاول العبث معهم متلاعب، صدّهم عنه شعور من يحاول الغزاة أن يخرجوه من وطنه الآمن . لو عاش الأطفال خبرة احترام مشاعرهم وعدم تجاهلها أو الاستهانة بها فإنهم كما في كتاب :" الجسد لا ينسى" [3]لن يتقبّلوا سوء المعاملة من شريك مسيء، فهم تعوّدوا أن يعاملوا باحترام ، صوتهم الداخلي سينقذهم : " هذا ليس مألوفا ، هذا ليس شبيها بالوطن ".

 

الاسم دليل

            الأسماء كاشفة تميّز بين الإنسان الطيب والإنسان الخبيث. يسمّي الإنسان الخبيث الطيبة سذاجة، والتعفّف كِبرا، وحفظ المرء لحدوده جفاء، والبخل تدبيرا . قاموس الأسماء عند الخبثاء يعبث بالمعاني، ويشوّه الأفكار، لكنه دليل للمتبصّر على سوء طويتهم .

            يسمّي الإنسان الحكيم الأشياء بأسمائها، ليس فقط لأنه يتحرى الصدق، ولكن لأنه أيضا يراها واضحة ، لا تلتبس عليه معانيها. تسمية الأشياء بأسمائها قد يحتاج ما هو أكثر من الصدق قد يحتاج إلى علم وإلى خبرة .

لغة الأسماء عند أهل الحكمة دليل مروءة أيضا ، فهم يستحون أن يحرجوا بعلمهم جاهلا ، أو يفاخروا بفهمهم من دونهم ، وربما اختاروا الصمت عن تسمية الأشياء بأسمائها لئلا يقودوا خسيسا إلى مزيد خسّة .

           

 



[1] حصيلة الأيام ، إيزابيل الليندي، ترجمة صالح علماني، دار المدى، بغداد 2008م. ص 66.

[2] أيام عادية، عادل عصمت، الكتب خان، القاهرة 2023م. ص9 ( وفقا لتطبيق أبجد) .

[3] الجسد لا ينسى، د. بيسل فان در كولك، ترجمة عصام الدين سامي، عالم الأدب للترجمة والنشر، الطبعة الثانية، مصر 2021م. ص 215