الاثنين، 3 أكتوبر 2022

قراءة في كتاب: " عندما تحب النساء أكثر مما ينبغي "

 * نشرتُ هذه المقالة في مجلة الجوبة العد 76/  أكتوبر 2022م . 

توطئة :

" إن الألم الذي تشعر به إنما هو تحطيم للقشرة التي تغلف إدراكك " .

   جبران خليل جبران .

       يحدثنا د. ديفيد دي. بيرنز في كتابه : " الشعور الجيد " عن أن كتب المساعدة الذاتية الجيدة تقوم مقام الإخصائي النفسي في مساعدة كثيرين ممن تساعدهم طبيعتهم النفسية على الاسترشاد بالمعاني المسطورة، وتكشف لهم من أحوال نفوسهم، وحاجاتها، ما يعينهم على الخروج من أزماتهم، وصراعاتهم الوجدانية.

 وقد اختبرت ذلك بنفسي عبر كتب كانت بمثابة المرشد والمعلم الذي أخذ بيدي في مضائق الدروب، ومما تعجبت له أني كنت أشعر بلذة معرفية في هذه الرحلة، لذة لا تفترق عن تلك التي يجدها الباحث والمتعلم في قاعات الدرس، أو في رحاب معتكفه البحثي الخاص، لكن هذا الكتاب : " عندما تحب النساء أكثر مما ينبغي " للكاتبة والأخصائية النفسية روبين نورود عرفت معه معنى معرفيا جديدا، المعنى الذي تحدث عنه جبران حين قال : " إن الألم الذي تشعر به إنما هو تحطيم للقشرة التي تغلف إدراكك "، نعم، لقد كنت أشعر بألم تحطيم القشرة التي كانت تغلّف إدراكي، لكنه ألم يداوي ولا يجرح ، ينهض بروحك لتبصر معان جديدة تعينك لتكون إنسانا أفضل .

ميراث الطفولة :

          الفكرة الرئيسة التي يركز عليها الكتاب هي أن طفولتنا تصنع أسلوب علاقاتنا، فالطفولة المضطربة في أسرة اختلت فيها العلاقة بين الوالدين من جهة، وبين الوالدين والأبناء من جهة أو تعرّض فيها الطفل لصدمات نفسية مستمرة، تصنع هذه الطفولة المضطربة اختلالا في علاقات هؤلاء الأطفال عندما يكبرون، فيتعثرون في علاقات غير صحية، ويجدون صعوبة في إدراك سبب عجزهم عن بناء علاقات متوازنة وداعمة.

لا أجد أن من المنهجي التأكيد على هذه الحتمية بين الطفولة المضطربة والعلاقات المضطربة، فلعل عوامل داخلية أو خارجية يكون لها الأثر الجيد في تخليص ميراث الطفولة القاسي مما شابه من صدمات.

زخر الكتاب بالأمثلة التي تشرح الأزمات النفسية التي يعانيها الطفل في أسرة ذات علاقات مختلة، وتجليات هذه الأزمات على سلوك الطفل، مما يجعل الكتاب ينتمي إلى حقل الكتب التربوية بقدر انتمائه إلى حقل الكتب التي تتناول مسائل العلاقات، إذ يحمل الكتاب في طياته إشارات تربوية جليّة تنبه الأمهات والآباء إلى أمور ينبغي عدم إهمالها، فإن حصل تفريط متعلق بها وجبت معالجته وإلا وقع الوالدان  في (كبيرة ) تربوية إن صح هذا الدمج بين ما هو فقهي وما هو تربوي ، وهو عندي صحيح لأننا محاسبون على التربية الحسنة، وليست الوالدية تشريفا مطلقا بل هو مقيد بأداء حقوق الأبناء التربوية.

يحدثنا الكتاب عن أن الطفل المرح، الذي يبدو أنه غير مكترث لاضطراب العلاقة بين والديه، هو في الحقيقة يهرب من خوفه من انهيار الأسرة إلى الاضطلاع بدور المنقذ لتكون طريقة تفاعله عاملا مساعدا في تهدئة العلاقة بين والديه.

ويحدثنا عن أن الطفل الذي يبدو لوالديه غير مهتم إلا بدراسته وتفوقه هو في الحقيقة يفعل ذلك لأنه يريد أن يفعل شيئا صائبا يحث والديه على الحفاظ على كيان الأسرة، ولكأنه يشعر بذنب خفي إن قصّر في أن يحافظ على الأسرة من خلال نجاحه الدراسي وهو في ذلك يحمّل نفسه عبئا سريا ثقيلا، ومسؤولية لا تتعلق بحلمه الخاص بل بالحفاظ على لم شمل الأسرة.

كما يحدثنا عن الطفل الذي يقوم برعاية والدته أو والده عند انهيار أحدهما بسبب مشكلات في العلاقة مع الآخر، وكيف أنه ظاهرا يبدو متماسكا وملاذا آمنا لوالديه أو أحدهما، وتبدو علاقته بهما علاقة ناضجة، وهي في الحقيقة علاقة تسلب أمان الطفل وحقه في أن يحيا طفولة يكون فيها الأبوان سندا له لا العكس.

 لقد شعرت كأني أسبح في بحر عميق غوره، ولكأن الكاتبة أرادت ببحر الأمثلة هذا أن تدرب عقول المربين على طريقة نظر تربوية جديدة تخلق في داخلهم ملكة تجعلهم في حال يقظة تدرس سلوك أطفالهم دراسة  تتجاوز ظاهر السلوك إلى باطنه المتعلق بالدوافع، وتتحقق من تلبية حاجات الطفل العاطفية الضرورية ومدى إشباعها وفقا لمتطلبات نموه النفسية .

 في رحلتي التربوية كأم ، قرأت كثيرا من الكتب التي تتحدث عن ضرورات الطفولة النفسية، لكن أيا منها لم يجعلني أشعر بالألم الذي يعتصر القلب كما فعل هذا الكتاب، لا يمكنك كقارئ ألا تتألم وأنت تقرأ قصص معاناة الأطفال، والصراع النفسي العنيف الذي يقاسونه وهم يرجحون كفة أن يشعروا بالأمان العاطفي ولو كان أمانا زائفا عبر سلوكيات ظاهرة تتناقض مع ضروراتهم النفسية المتعلقة بأن يعيشوا طفولتهم ولا يغادروها، وأن ينالوا حقهم الكامل في  الحنان والتقدير والمساندة والقبول .

 ولعل مما ساعدني على التوازن – الوجودي-حيال مشاعر الألم الذي صاحب الإدراك التربوي الذي خلقته قصص معاناة الأطفال المذكورة في الكتاب هو ما قرأته في كتاب: " تربية خالية من الدراما " من أن ما تقرر من أن  ارتباط صدمات الطفولة -المتعلقة بالبيئة الأسرية غير المستقرة، أو إساءة المعاملة من الوالدين، أو تعرّض لأذى مستمر في بيئة الطفل- بالأمراض النفسية والعقلية في مرحلة الشباب ليس ارتباطا لا يمكن معالجته؛ ذلك أن البنية المادية للمخ تتغير وفقا لما يحدث لنا، فلو  أنك عاملت طفلك معاملة سيئة أو خاطئة في زمن ما فلا زال الوقت أمامك للإصلاح وسيستجيب مخ طفلك ونفسيته لتغير معاملتك، ولكأن الحسنات يذهبن السيئات هي قاعدة تشمل السلوك التربوي، فأثر القسوة يمحوه الحنان ، وأثر الإهمال يمحوه التقدير والاحترام وأن تُشعر طفلك بأنك سند له، وأثر الفوضى والتذبذب يمحوه الانتظام في المعاملة الرحيمة المتوازنة التي تشعر طفلك بالأمان، وأثر التأنيب واللوم المستمر المتعلق بالكمالية يمحوه أن توصل لطفلك أنك تقبله دون شروط وأنك تقبل جوانب ضعفه كما تقبل جوانب قوته، وأثر كل خلل تربوي يمحوه السلوك الراشد الذي يجتهد الوالدان لتعلمه عبر الكتب التربوية أو الاستشارات أو الدورات.

ولعل المؤلفة في غمرة استغراقها في بيان أثر ميراث الطفولة المضطربة على العلاقات قد فاتها أن تعرّج على هذه الفكرة وكنت أتمنى لو أنها لم تغفل عنها ليس فقط لكونها ذات صلة وثيقة بموضوع الكتاب لكن لأنها نافذة أمل ضرورية وجوديا وتربويا ونفسيا.

سؤال جديد  وعي جديد

          الكتاب الجيد ليس فقط هو الكتاب الذي يقدم إجابات مكتملة أو مقاربة أو ملهمة عن سؤال يحيّرنا، لكنه أيضا قد يكون الكتاب الذي يطرح على القارئ سؤالا لم يتنبه له من قبل، فيقرأ المشهد المتعلق بالسؤال من زاوية جديدة تجعله يراجع رؤيته للأمر ككل .

          في ثنايا الكتاب وقصصه المزدحمة قفز أمامي هذا السؤال : هل ما يجمع بين هذه القصص التي تتحدث عن علاقات غير صحية هو أن أبطالها لم يدركوا أن العلاقات هي وسيلتهم لتجنب أنفسهم، وتجنب بناء علاقة آمنة بها، ولأنهم غير قادرين على صحبة أنفسهم فإنهم يستعيضون عن ذلك بالانغماس في علاقات غير صحية .

          الفكرة المهمة التي لفتت نظري في الكتاب هو أنه لا يتحدث عن أشخاص سيئين أصالة هو يتحدث – في المجمل - عن أناس يحبون الخير، ويحبون أن يكونوا أناسا جيدين، لكن لديهم عيوبهم المتفاوتة المتعلقة بالضعف البشري والتي تحتاج منهم إلى وقفة جادة لأنهم يؤذون أنفسهم ومن يحبونهم بسبب أنهم ينقصهم الوعي والرشد النفسي. .

          الكتاب وإن ذكرت المؤلفة أنه موجه بشكل أساسي للنساء الذين تسببت صدمات الطفولة في عدم قدرتهن على بناء علاقات صحية وصرن يخترن شركاء غير مناسبين لأنهم يوفرون لهن النمط الذي تعودن على التعامل معه في طفولتهن، فإنا نجد في الكتاب تنبيها على تعقيد العلاقات الزوجية و أن النية الحسنة وحدها لا تكفي لجعل هذه العلاقات صحية وغير مؤذية لأصحابها، والمشكلات التي يناقشها الكتاب لا تختص بها النساء وحدهن إذ يدرس الكتاب الحيل النفسية الخفية التي قد نلجأ إليها ذكورا وإناثا دون أن نشعر لنحمي أنفسنا من مخاوفنا الداخلية الدفينة سواء تلك التي تشكلت من خلال صدمات الطفولة أو التي ارتبطت بأوضاع حالية متذبذبة ومتطرفة نعجز عن التعامل معها .

          لقد قرأت في كتب متفرقة بعض الأفكار التي وردت في الكتاب لكن هذه الأفكار لم تستبن لي بوضوح إلا عبر هذا الكتاب، لأنه استعان بجنود مهمة لبيان أفكاره وهي القصص الذي ازدحم بها الكتاب لكنه الازدحام الذي يخدم الأفكار ويجليها بحيث تتحول الفكرة إلى حالة شعورية تساعد العقل على الفهم العميق لها .

من هذه الأفكار فكرة النمط القهري لعلاقات الطفولة إذ يحتشد الكتاب بحكايات لعلاقات لم يكن الحب فيها كافيا لجعلها علاقات مشبعة عاطفيا يتحقق فيها السكن والأمن النفسي بسبب أن الطرفين أو أحدهما عاجز عن السماح للطرف الآخر بالاقتراب من عالمه الداخلي لأنه لم يعش هذه الخبرة في طفولته فتظل العلاقة سطحية تنقصها الثقة العميقة مهما بدت مفعمة بالمشاعر الطيبة .

ومن هذه الأفكار أيضا أن البالغين الذين عاشوا طفولة تفتقر للأمان، واعتادوا على مواجهة هذا الافتقار بنمط معين من التصرفات عبر تحمّل مسؤولية الحفاظ على العلاقة بين الأبوين، فإنهم قد يتوجهون لاختيار شركاء لديهم أوضاع خاصة تجعلهم في حاجة إلى الدعم، وهذا الاختيار يجعلهم يشعرون بأن هؤلاء الشركاء لن يغادروهم، وتهدأ مخاوفهم الداخلية من التعرض للرفض أو الهجر ، بل إنهم يطورون –من حيث لا يشعرون – سلوكيات متلاعبة تحاول الحفاظ على شركائهم في حالة احتياج دائمة إليهم ،وهو أمر لا يستمر وتؤول العلاقة إلى الأذى والإحباط لطرفيها بل ولتأذي الأطفال إن وجدوا بسبب نشأتهم في بيئة غير سوية .

الكتاب يقرع جرس تحذير من أن ما يبدو لأصحابه حبا قويا جارفا هو في حقيقته تعلّق غير سوي يرتبط بمشكلات نفسية حقيقية، ومن علامات ذلك أن المتعلّق يعاني فراغا داخليا موحشا يحاول إشباع هذا الفراغ بأنماط سلوك غير سوية في علاقته بمن يحب وهو في ذلك يهرب من مواجهة مخاوفه وآلامه الداخلية وعدم قدرته على أن يكون في علاقة آمنة مع نفسه، وما قد يبدو عطاء كريما للمحبوب هو في حقيقته حيل ماكرة لمحاصرته، والسيطرة عليه، ويؤول الأمر إلى علاقات موجعة متكررة، وغربة داخلية لا تنقضي .

رحلة الشفاء:

          تبدأ هذه الرحلة من الوعي المؤلم الذي تحدث عنه جبران ، شرح مفصل -عبر القصص الثريّة -لأثر صدمات الطفولة التي لم تعالج على خلق أنماط علاقات متلاعبة، حشوها إنكار المشاعر العميقة، وإن بدت ظاهرا علاقات يهتم أحد طرفيها برعاية الطرف الآخر ومساندته.

يقول الكتاب إن الإنسان إذا لم يكن على علاقة سويّة بنفسه، يعرف لها قدرها، ويحفظ لها حقها المتعلق بقيمها، وحاجاتها، فإنه -من حيث لا يشعر -–سيؤذي نفسه وشريكه في الحياة، وأن المساندة الحقيقية هي التي تنطلق من قبولنا للطرف الآخر، وقبولنا لطريقته الخاصة في النهوض بنفسه، وإصلاح عثراته، وأن التدخل في طريقة تعامل الطرف الآخر مع ضعفه وأخطائه هو نوع من أنواع التحكم المتلاعب، ومؤشر ظاهر على حاجتنا لمراجعة سواء علاقتنا بأنفسنا.

يقدّم الكتاب رؤية واضحة لقضية اضطراب العلاقات الزوجية المتعلقة بصدمات الطفولة المؤثرة التي لم تعالج، ويضع خطوات تفصيلية ليستعان بها على الشفاء، لكن لعل المؤلفة جانبها الصواب فيما قررته من فعالية المعالجة الذاتية أو الجماعية لصدمات الطفولة بدون أن تشترط الاستعانة بمتخصص في هذا المجال. وقد نبهت إلى وجوب الاستعانة بمتخصص عند معالجة صدمات الطفولة د. هبة حريري –معالجة نفسية وأكاديمية وباحثة سعودية- في بودكاست :"مع هبة حريري ".

ختاما : لقد حرصت على عرض الكتاب بطريقة تقدّم خلاصات كلية  لأن الكتاب يفتح آفاقا للعقل والنفس تتجاوز موضوعه الخاص إلى موضوعات أوسع تتعلق به نوع تعلق .

ممتنة حقا للترجمة الجيدة التي قدمتها د. إيناس التركي للكتاب، و قد شعرت بهذا الامتنان مرات كلما قرأت عبارات أفادت المعاني العميقة بوضوح ينم عن تمكن وأصالة. وممتنة أيضا لدار الكرمة على هذا الإصدار المهم . وممتنة لتطبيق أبجد الذين وفروا الكتاب بعد طلبي ذلك منهم بأيام قليلة .

يقع الكتاب في 335صفحة لا حشو فيها ، و نشرت الطبعة الأولى للكتاب باللغة الإنجليزية في عام 1985م ، و نشر الكتاب مترجما إلى اللغة العربية في هذا العام 2022م .

                                                                 كتبته : صفية الجفري .