الثلاثاء، 27 يوليو 2021

مدخل ميسر لقراءة كتاب تنبيه المراجع

    كتاب تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع للعلّامة عبد الله بن بيه ، هو من الكتب القيّمة التي قدمت رؤية تجديدية في بيان كيف يكون الدين حيّا في حياة الإنسان المعاصر ، ووجه التجديد هو ما ذكره –حفظه الله – من نظرات وتطبيقات في علاقة علم الفقه بواقع الناس، وكيف يكون محققا لما جاء به الشرع من رعاية لمصالحهم مستوعبا ضروراتهم، وحاجاتهم،  وإكراهاتهم، وتغيرات الزمان والمكان ، وثقافة العصر،  وقيمه الحضارية .

و قد كتب الكتاب بلغة تخصصية عالية ، فليس من اليسير على غير المتخصص في الفقه وأصوله  فهمه، وقد حاولت نقل بعض ما ورد في الكتاب  نصّا أو معنى أو إشارة  بلغة سهلة  وذلك لأهمية إعادة صياغة الوعي الشرعي الجمعي بما يفقّه الناس في دينهم على بصيرة وهدى. وقصدت  أن يكون ما نقلته مدخلا لقراءة الكتاب الثري بالأمثلة التطبيقية التي تتصل بعصرنا . وارتأيت أن يكون ذلك في فقرات مركزة أسأل الله أن ينفع بها وبأصلها.

1.  يراعي الفقيه في تقرير الأحكام تحقيق مقاصد الشريعة أي المعاني والحكم والغايات التي تحصل بها مصالح الناس ويندفع بها الضرر عنهم.

2. الاجتهاد في الأحكام الشرعية في ضوء مقاصد الشريعة إنما يقبل من أهل العلم بالشريعة، فهو ليس من قبيل الثقافة العامة.

3.إهمال تفعيل المقاصد الشرعية في تقرير الأحكام الشرعية التفصيلية المرتبطة بحياة الناس هو ضلال عن نهج أهل العلم.

4.نصوص الشريعة هي بمثابة نص واحد في نظام الاستدلال والاستنباط ، فمن لم يحط بها علما ، ولم يجمع أطرافها لم يسعه أن يفقه معانيها.

5.الشريعة ليست فقط الأدلة الجزئية ، ولا هي مجرد قواعد عامة عائمة، ولا قيم مجرّدة، وبالتالي لا ينظر إلى النص الجزئي إلا من خلال القواعد الكلية، كما لا يصح تفعيل القواعد الكلية دون مراعاة للنص الجزئي . والسؤال هنا : ماذا نفعل في حال التعارض ؟ : في حال التعارض ينظر العالم المجتهد في المسألة ويوازن بما يراه أقرب إلى الحق كما يترجح عنده من خلال خبرته في فهم روح الشريعة، فقد يقدم الكلي ، وقد يقدّم الجزئي . ولا يكون ذلك لغير أهل الاجتهاد والعلم بطرق الاستنباط.

6.الحكم الشرعي الفقهي له منزلتان الأولى منهما هي أساس للثانية .

المنزلة الأولى: الحكم الفقهي الذي يستخرجه الفقيه من النص الخاص، وهذا العمل من الفقيه لا يكون منفصلا عن الأدلة الأخرى الجزئية أو الكلية العامة ، فنصوص الشريعة كما قدمنا في الفقرة الثالثة هي بمثابة نص واحد. فهذا الحكم الفقهي المستخرج مباشرة من الدليل الخاص والمتسق مع بقية أدلة الشرع يسمى : الحكم التكليفي.

المنزلة الثانية : الحكم الوضعي : ومعناه : أن ننظر في الواقع التي سنطبّق فيها الحكم التكليفي، هل هو مستوف للشروط ، أم أن هناك مانعا يحول دون تنزيل الحكم التكليفي على واقع المكلّف وهذا يعيدنا إلى الفقرة الثالثة مرة أخرى ، لأننا إذا نزلنا الحكم على واقع الإنسان دون مراعاة لحاله  فإننا قد نخالف قاعدة قطعية في وجوب رعاية فقه الضرورات أو فقه المآلات مثلا.

7.ما الدليل  على أننا يجب أن نراعي  واقع المكلّف ؟  الأدلة كثيرة من القرآن الكريم و سنة  سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم و فعل  الصحابة الكرام رضي الله عنهم .

فقد راعى القرآن الكريم الواقع ورتب الأحكام عليه ،فراعى واقع الإنسان فشرّع التخفيف في التكليف : ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) ، ( علم أن لن تحصوه فتاب عيكم فاقرءوا ما تيسّر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى و آخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسّر منه ) . وراعى رد فعل عبدة الأصنام فنهى عن سب آلهتهم : ( و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) .

وذلك يمثل أصلا لرعاية الأحوال والعاقبة والأعراض والأمراض التي يبتلى بها الإنسان .

ولم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين  وهو يعلم شقاقهم قطعا وهو القدوة والأسوة وقال :    " لا يتحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " وذلك لأن قتلهم منفّر من الدين ، ومؤثر في الجماعة

-ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن تقطع الأيدي في الغزو . يقول الإمام ابن القيم :"فهذا حد من حدود الله ، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض لله تعالى من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حميّة وغضبا كما قال عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم . " . قال الإمام ابن بيه : " قلت : ويؤخذ من هذا أن الإمام العدل الراعي مصالح الدنيا والدين يجوز له أن يعلّق الحد أو القصاص إذا ترتبت عليهما مفسدة أعظم كما فعل عمر رضي الله عنه عام الرمادة ."  إذ علّق حد السرقة، وأوقف نفي المحكوم عليه في جريمة أخلاقية لئلا يفتن في دينه .

8. إن التنزيل والتطبيق هو عبارة عن تطابق كامل بين الأحكام الشرعية وتفاصيل الواقع المراد تطبيقها عليه ، بحيث لا يقع إهمال أي عنصر له تأثير من قريب أو بعيد ، فيدقق المجتهد في الدليل بشقيه الكلي والجزئي، وفي الواقع بتقلباته وإكراهاته ، و مآلات الحكم صلاحا وفسادا .

9.عدّ الإمام الشعراني في " الميزان الكبرى " اختلاف الأئمة راجعا إلى الميزان المتمثل في حالة المكلفين من قدرة وقوة تتحمّل عزائم التكليف وشدائده، ومن ضعف أو فقر تستدعي حالة الترخيص والسهولة .

10.تحدّث الإمام ابن بيه عن أننا في عصر قلق، اضطربت فيه المعاني الإيمانية ، وتشوش فيه فهم المنهج السديد، واغتر الناس فيه بمناهج حادت عن الحق تأثرا بعدوى الزمان والمكان ، وأن هذا الأمر يحتاج إلى دراسة من أهل النظر . أقول : فلعل الخطاب الدعوي يحتاج إلى مراعاة ذلك ليجمع الناس على دين الله ولا يفرقهم عنه . والله أعلم  . 

                            


الأحد، 25 يوليو 2021

الاتساق بين القيم والسلوك قراءة مقاصدية.

 

                          

(قد يغفر الله ذنوبنا لكن جهازنا العصبي لايغفرها لنا) قرأت هذه العبارة من قديم في مقالة للأستاذ عبد الوهاب مطاوع -رحمه الله-  لعلها في كتاب : ( صديقي لا تأكل نفسك ) ووجدتني أتأمل الفلسفة التي تبنّاها الإسلام في قضية الاتساق بين قيم الإنسان وسلوكه فخلصت إلى أن هذه الفلسفة تقوم على قواعد خمس :

القاعدة الأولى : 

إن تحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتكميلية هي أساس التشريع المتصل بالتحريم أو ما يقاربه من مكروهات أو مباحات قد تصير حراما باعتبار المقصد أو المآل . وعليه فإن قيم المسلم المتعلقة بالذنوب التي تؤرق ضميره هي قيم تحمي مصالحه ومصالح الآخرين المعنوية والمادية .

 

القاعدة الثانية : 

لم يجعل الإسلام الذنوب كلها في مرتبة واحدة بل قسمها إلى كبائر وصغائر. والأقرب عندي هو  ما قرره بعض العلماء من أن الكبائر هي ما مست الضرورات والصغائر هي ما دون ذلك وفي فقه الشافعية تأصيل جميل ينفي وصف الكبيرة عما عمّت به البلوى لعسر تجنبه إذ أن الشأن في الكبيرة عدم يسر تقحمها . وهو تأصيل يحتاح مزيد تحرير وفهم لضوابطه .

و أجد أن فقه الإسلام في عد الصغائر مما يكفّر بالصلوات ، وحثه على أن يتبع المسلم السيئة الحسنة لتمحها ، وتقرير أن حسن الخلق من المكفرات فضلا عن العبادات الظاهرة ، كل ذلك  فيه تأكيد على أن حياة الضمير تكون بحثه صاحبه على تجنب الشر كما تكون كذلك في إعانته على تجاوز ما يقع فيه من أخطاء .

قال أحد الصالحين : مثل أثر الذنب في القلب  كمثل بقعة وقعت في الثوب إن اقتصرت في التنظيف على محل البقعة  نظف الثوب وكذا هو أثر الاستغفار والتوبة والإقبال على الله بصالح العمل أما إذا سكبت الماء على الثوب كله امتدت البقعة إلى باقي الثوب وهكذا حال من يستغرقه لوم النفس ويقعد به عن فهم الشرع وحكمته ورحمته في عدم جلد الذات واحتقارها .

       ليس مسموحا لك كمسلم أن تتسربل باليأس من ذنوبك ، فاليأس هو نوع عُجب : يقول ابن عطاء الله السكندري: " من علامات الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند الزلل ".

      بل ليس مسموحا لك أن تحكم على نفسك بأنك إنسان سيء لا رجاء منه ، لأن الإسلام يجعل باب التوبة مفتوحا كل لحظة ، ويحدثك عن أن الإكثار من فعل الخير يمحو سيء العمل ، بل ويقول لك إنك تعد من أهل الخير والصلاح ما دام لديك ضمير حي يحب الخير ويسعى للتغيير . 

 

جعل الله الذنوب كلها محلا للتكفير إلا الشرك به ، والشرك هنا هو مظهر العناد والكبر لا البحث عن الحق .

 

القاعدة الثالثة :

  في فقه الضرورات : وحيث قرر الإسلام إن الحرام مرتبط بالإخلال بمصالح العباد، فقد يتغير الحكم الشرعي في حق الفرد والجماعة بتغير الأحوال والزمان وذلك لئلا يقضي الجزئي على الكلي  .وقد يخرج الأمر من التحريم إلى الحل وذلك لأمور عارضة تتعلق بتنزيل الحكم واقعا فلا ضرر ولا ضرار ، والأمر إذا ضاق اتسع ، والأمر هنا يحتاج في كثير من تطبيقاته إلى نظر دقيق من عالم معتبر وأثبته لاتصاله بموضوعنا .

 

القاعدة الرابعة : 

      سعة مساحة الظن في الشريعة وما اتصل بها من اتساع دائرة الاجتهادات في المسائل الفقهية مما يجعل غير المجتهد قادرا على تخير الأيسر الذي يلائم نفسيته ومصالحه ما دام لا يقع في صورة ممنوعة في المسائل المركبة وكذلك لايتخذ ذلك ذريعة لتضييع الحقوق .

 

القاعدة الخامسة :

في فقه الستر : أخطاؤك هي شأنك الخاص ، فليس لك أن تفضح نفسك أمام الآخرين ، أو تهتك ستر الله عليك ، كما أنك مأمور بالستر على أخطاء الآخرين حيث لا مفسدة ظاهرة - وتفصيل ذلك في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -  ،واحترام حق الستر هو خير معين للإنسان على الترقي ، وهو أحفظ للمودة ، مادام المرء صالح القصد والعمل . 

 

      إن فلسفة الإسلام في الاتساق بين القيم والسلوك هي فلسفة تحث على الترقي في الكمالات لكنها في ذات الوقت تجعل هذا الترقي مستوعبا لضعف الإنسان وعثراته فالقيم في النموذج المعرفي الإسلامي جاءت محققة لسلام الإنسان النفسي والاجتماعي وليست سيفا مصلتا على ضعفه البشري فلا حرج ولا عنت بل يعان الإنسان على ضعفه بتشريعات تعزز خيريته واحترامه لنفسه وتنهض به وتجعل الطريق إلى الله جوهره الرفق بالنفس والرفق بالناس .

وقد قالوا : سيروا إلى الله عرجا ومكاسير، فلا تجعل جهازك العصبي المرتبط بقيم لا تنتمي إلى دينك يحاكمك ويفسد عليك قلبك باليأس ، ويغبّش روحك بخطل الفهم، بل أقبل على الله بقلب مشرق راجيا رحمته وفضله شاكرا إياه على جمال ورقي دينه وتشريعه.

                                                               حرر في فجر الجمعة 4 ديسمبر 2020

الخميس، 15 يوليو 2021

الزوجة في الإسلام .. سؤال العدالة

 


العدالة : تحرير المفهوم :

تتناول هذه المقالة سؤال العدالة المتعلق بالزوجة في الإسلام في محاولة لتحديد الإشكالات الرئيسة في هذه القضية، و لمقاربة  الجواب عن هذه الإشكالات.

هل كان الإسلام عادلا مع الزوجة فجعلها في مرتبة متساوية مع الزوج من حيث الكرامة الإنسانية، ومن حيث الواجبات والحقوق ؟

الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تناولت قضية العدالة بين الجنسين تجيبنا عن هذا السؤال بنعم، فالمرأة  والرجل متساويان في أصل التكليف، وفي ترتب الثواب والعقاب على أفعالهما، وفي التكريم الذي اقتضته آدميتهما : يقول الله تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم ) الإسراء : 70. ويحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أن النساء شقائق الرجال .

هذه الإجابة العامة يجعلها العلماء أصلا محكما في تقرير حقوق الزوجين في الإسلام. الرجل والمرأة كلاهما في مرتبة واحدة من حيث الكرامة الإنسانية ، واحترام الحقوق في حياة  لا حرج فيها ولا ضرر ولا عنت .

وعندما تحدث العلماء عن أن الشريعة جاءت محققة لمصالح العباد، لم يفرقوا بين الذكر والأنثى في ذلك .. أين الإشكال إذن ؟

الإشكال هو في تحرير مفهوم العدالة ، الذي هو تبع لتحرير مفهوم المصلحة ، فالمصلحة كما عرّفها الإمام الغزالي هي : ( المحافظة على مقصود الشرع )[1] .

ويقول الإمام ابن عاشور : ( قد جاءت الشريعة بمقاصد تنفي كثيرا من  الأحوال التي اعتبرها العقلاء في بعض الأزمان مصالح، وتثبت عوضا عنها مصالح أرجح منها . نعم ، إن مقصد الشارع لا يجوز أن يكون غير مصلحة ، ولكنه ليس يلزم أن يكون مقصودا منه كل مصلحة .)[2].

ولتحرير مفهوم العدالة في مسألة الحقوق بين الزوجين في الإسلام فإن النظر في القرآن الكريم يقودنا إلى تقرير مبدأ التماثل بين الحقوق والواجبات، ويعد هذا التماثل بما يتضمنه من اختلاف في الصفة والكيفية  هو مظهر تحقيق العدالة .

قال إمام الحرمين الجويني في قوله تعالى: ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) البقرة : 228. " فاقتضى الظاهر تشبيه ما لهن بما عليهن، وهذا التشبيه في أصل الحق ، والحقان متشابهان في التأكد ووجوب الوفاء به ، وليسا متشابهين في الكيفية والصفة . " [3]

ونفهم هذا التماثل من قوله تعالى : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا و للنساء نصيب مما اكتسبن ) . النساء : 32 .

ويتحدث الباحثون في الفقه الإسلامي عن أن هذا التماثل هو تكامل تحصل به العدالة ويلائم الاختلاف في الخصائص بين الجنسين، ورغم ما أجده في هذا القول من وجاهة في بعض تطبيقاته كما في تكليف الزوج بالنفقة على زوجته إلا أني لا أستطيع أن أسلم بشكل مطلق إلا بأن التماثل عدل أما حصول التكامل بذلك فهذا مما لا أستطيع الجزم به؛ ذلك أن في التشريعات القطعية قدرا من التعبّد الذي قد لا ندرك حكمته الخاصة وإن كنا ندرك كونه محققا لمصالحنا تبعا لإيماننا بأن الإسلام دين حق وعدل، ولم يأت إلا بما هو حق وعدل.

إذن حديثنا عن أن الإسلام أعطى الجنسين حقوقهما الكاملة هو حديث فيه قدر من الإبهام المرتبط ببعض المسائل التي قد لا نتبين حكمة التشريع فيها. وهذا الإبهام يجعل مفهوم العدالة مفهوما لا تستبين لنا بعض الأحكام المتعلقة به  كحق الرجل في تعدد الزوجات .

ولكن المطمئن هنا هو أن تعبدية الحكم في فضائه التكليفي لا يقف عائقا أمام الاستفادة من الكليات المقاصدية القطعية في التنزيل الوضعي للحكم على واقع المكلفين .

والسؤال هنا:

هل يصح لنا القول إن الإبهام الذي يكتنف مفهوم العدالة بين الزوجين في الإسلام هو إبهام نظري لا تطبيقي لأن خطاب الوضع يكفل في تنزلاته درء كل حرج قد يفسد حق الزوجة في حياة آمنة لا عنت فيها.

يتحدث الإمام القرافي في نفائس الأصول عن أن تقييد النص الجزئي في بعض الأحوال بالمصلحة الطارئة جائز وأن عدم اعتبار المصلحة الطارئة مع النص إنما يكون في حال مناقضتها للنص، والتقييد في بعض الأحوال ليست مناقضة. [4]

بين القطع والظن:

من المهم التنويه إلى أن القطعيات الفقهية في مسائل المرأة لم تحصر بعد، وحصرها يحمي الناس من تشويش المتسوّرين على الكلام في العلم الشرعي ممن لم يتأهلوا لذلك.

 نعم غير المتخصص يجب عليه اتباع العلماء، ومذهبه مذهب مفتيه، وعليه فإنه لا يحتاج إلى معرفة رتبة الحكم من حيث القطع والظن لأن الله تعبّدنا بغالب الظن الذي يترجح في نفس المجتهد كما تعبدنا بالقطع.

لكني أجد أن تصدّر من لم يتأهل من المثقفين للكلام في علوم الشرع فتن بعض الناس ولبّس عليهم دينهم وصار القطعي مجالا للنظر والاجتهاد في تقرير الحكم أصالة لا في تنزيله على واقع المكلفين.  

حصر القطعيات ليس مهما فقط في قضية حماية العوام من التشويش، لكنه يسهم في إعادة صياغة الفكر الجمعي بما يخفف من غلواء التعنت حيال مسائل هي محل اجتهاد مما يعين على تفاعل حي مع ما تفتضيه أحوال الزمان من متغيرات.

في كتابي : ( الثبات والتغير في الحكم الفقهي )  درست مسألة الثابت والمتغير في الحكم الفقهي دراسة أصولية وتناولت مسألة  حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل من حيثية التعرّف على الثابت القطعي في هذه المسألة . وكانت النتيجة بالنسبة لي مفاجئة، والطريق إلى اكتشافها كان محمّلا بالمفاجآت أيضا.

القول الشائع في هذه المسألة هو أن حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل هو حق خالص له يقتضيه حق القوامة. وقد ظللت لسنوات أظن أن هذا ابتلاء الله للنساء الذي لا نملك الاعتراض عليه ..

كنت أشعر أن هذا الحق يجعل البيت بالنسبة للمرأة كسجن مفاتيحه بيد الزوج وأن الزوجة إن كانت محظوظة حظيت بزوج يكرمها ولا يسجنها وإلا كان الحبس متى شاء هو حق لزوجها يجب عليها أن تطيعه فيه ولا تخالفه.

 وكانت المفاجأة حقا بمعرفتي أن هذا الحق فيه نوع تقييد في منصوص مذهب الحنفية والمالكية لكن المفاجآت بالنسبة لي توالت بعد أن درست كلام  العلماء في المذاهب الأربعة دراسة تحليلية و قرأت كلامهم قراءة تستحضر السياقات الكلية التي صدر منها الفقيه، والمتعلقة بالقواعد الفقهية ، والمصالح المرتبطة بعصره ، ورؤيته المنبثقة عن ثقافته الاجتماعية ، ووجدت أن في كلام بعض  العلماء رؤية تؤسس لقراءة مختلفة عن القراءة السائدة  للنصوص الواردة في المسألة . وقد قادتني هذه  القراءة إلى  نتيجة مختلفة أيضا ، وهي أن الحق في تقييد الخروج من المنزل هو حق مشترك بما  لا يضر مصالح الزوج أو الزوجة . فليس للزوج أن يمنع زوجته من خروج لا يضره، وعليه ألا  يخرج من المنزل أو يهجرها فيه على وصف يضر بها.[5]

ذكرت لكم هذه المسألة كمثال على المسائل التي شاع بين الناس أنها من المسائل المتفق عليها بين العلماء والأمر فيها ليس كذلك.

بل إن مذهب الشافعية رغم تشدده ظاهرا في هذه المسألة -حيث نص علماؤه على أن الزوجة ليس لها أن تخرج من بيت زوجها بغير إذنه إلا لضرورة أو ما قاربها -[6]إلا أننا نجد في أصوله نصا مهما لإمام الحرمين الجويني في كتابه (البرهان) ناقش فيه ما سماه: (مغمضات من قضايا الأصول) كقول الشافعية إن المعاشرة الجسدية هي حق للزوج ولا حق للزوجة فيها إلا على سبيل الندب وقال: (والأمر مبني على أحوال الملتزمين الشريعة، المعظمين لها). [7]

 و السؤال هنا:

أليس في هذا الملمح الذي حدثنا عنه إمام الحرمين الجويني  وهو أن هذه الأحكام مبنية على أحوال الملتزمين الشريعة، المعظمين لها  ما يجعلنا نراجع تلك الأحكام في نور قاعدة (تغير الأحكام بتغير الزمان) ، فحيث تزعزعت الأوضاع الاجتماعية، وعم تراجع الأخلاقيات النبيلة بين الناس، فقد وجب فتح مجال النظر المستضيء بنور النصوص ، والمقاصد الشرعية لتقرير أحكام تلائم واقع الناس بحسب ما يستجد في حياتهم ، وما يطرأ على أخلاقهم وأحوالهم، درءا للمفاسد، وجلبا للمصالح المتصلة بحماية المجتمع المسلم من آفات تهدّم العلاقات ، وانهيارها .

الفقه التراثي وإغاثات التجديد :

وإذا كان سؤال العدالة يحتاج منا إلى تسليم في بعض القطعيات الفقهية، وأقول بعضها لأن فقه الضرورات قد يتغير في ضوئه الحكم الأصلي إذا طرأت عليه مصلحة يصح اعتبارها وهو تغير من حيثية تنزيل الحكم على واقع المكلف لا من حيثية الاقتضاء الأصلي للدليل.

أقول: وإذا كان سؤال العدالة يحتاج منا إلى تسليم في بعض القطعيات الفقهية فإن ما يقابل القطعيات من ثروة فقهية ظنية ينبغي أن يكون مقصدا للدراسة والبحث والموازنة     لا أقول لأجل أن نستنبط أحكاما مستحدثة مع أن ذلك غير ممتنع إذا صدر من المؤهلين ولكن لأجل أن  نروي جدب حياتنا الاجتماعية بفقه جديد من الأقوال التي نص عليها العلماء والمنثورة في كتبهم بمنهجية محكمة يعلم بواسطتها ميزان القول، وسياقاته، وأفقه المقاصدية.

نحن لدينا إشكال حقيقي في مسألة التعامل مع الفقه التراثي بين جامد على منصوصه دون نظر في سياقات ذلك المنصوص وحمولته المقاصدية، وبين مزدر له غير مدرك لعمقه المنهجي والإنساني، وبين مقبل عليه إقبالا يفتقر إلى المنهجية فيخرج لنا بنتائج تصادم قطعيات الشريعة.

 

إن الصواب في التعامل مع الفقه التراثي يحصل بأمرين :

أحدهما :

قراءته قراءة تستحضر النموذج المعرفي الخاص الذي جاء به الإسلام في فقه العلاقات الإنسانية ,

و الثاني:

الالتزام بمناهج أهله التي أخذوها عن سلفهم كابرا عن كابر ، وهذه المناهج فيها من السعة ما يكفل تجديدا للفكر الفقهي بما يلائم عقول أهل هذا الزمان في فهمها الحقوقي ، ونظرتها إلى العدالة .

ثم إننا نجد في كلام بعض العلماء حثا للمفتي على ذكر جميع الأقوال في المسألة للمستفتي ولو كانت هذه الأقوال ضعيفة مذهبيا ليتخير منها المستفتي ما يلائم حاله ما دام لا يترتب على أحدها مفسدة معتبرة  .

وقد وجد هؤلاء العلماء في هذا المسلك في الفتيا رفعا للحرج والمشقة عن الناس.  فقد أمر غير المؤهلين علميا باتباع أهل الذكر ، وما دام القول صدر عمن يصح اجتهاده، وتأكدت نسبته إليه بضوابطه جاز لهم الأخذ به وإن لم يكن قولا معتمدا في  المذاهب الأربعة [8].

 وممن تبنى تخيير المستفتي بين أقوال المجتهدين -وإن لم تكن معتمدة في مذاهبهم التي ينتسبون إليها  ما دام صح نقلها عنهم بضوابطها ولم يترتب على أحدها مفسدة ظاهرة في حق المستفتي- السيد أحمد بن حسن العطاس المتوفى عام 1334ه ـ

ينقل السيد محمد أحمد الشاطري -المتوفى عام 1422هـ- في كتابه ( شرح الياقوت النفيس) عن السيد أحمد بن حسن العطاس أنه كان يفتي المتوفى عنها زوجها من عوام الناس أن إحدادها في ترك النكاح مدة العدة ولا زيادة على ذلك وكان يقول إن تكليف عوام النساء من أهل البادية بما زاد على ذلك مما يشق عليهن، ويجعلهن ينفرن من الدين، ونعلم من حالهن أنهن لن يلتزمن بقول الجمهور لو ذكرناه لهن، فكان يختار الإفتاء بقول الحسن البصري في المسألة جمعا لهن على دين الله ورفقا، ورحمة .

ينقل السيد الشاطري هذه المسألة عن السيد العطاس ولا يقره في اعتماد رأي الحسن البصري لكنه يسلّم للسيد العطاس العلم والفقه [9].

ونجد في فقه الشافعية قولا اختاره بعض علمائه وهو أن  المرأة إذا غاب عنها زوجها، وانقطع خبره، ولم يترك لها نفقة، ولم تستطع إثبات ذلك عند القاضي، فلها أن تستقل بفسخ النكاح وعليها أن تشهد على ذلك [10].

ولست هنا بصدد مناقشة المثال تفصيلا، لأني أجد فيه إشكالات ترتبط بتصوّر الضرر فقهيا، وكذا ترتبط بالسياق القانوني للواقعة، لكني سأناقش مسألة محددة تضمنها ، وهي إعطاؤهم الزوجة حق الاستقلال بالفسخ مع الإشهاد حيث تعذر عليها إثبات الضرر الواقع عليها في خصوص عدم تحصيل نفقتها ، قالوا وينفد الفسخ ظاهرا وباطنا [11].

فقولهم هذا شاهد  على ما يمكن للفقه التراثي الظني أن يقدّمه من إغاثات حيال تعقيدات الحياة الاجتماعية وعلى ما يمكن أن نظفر به من كنوز فقهية تتناثر في كتب المذاهب المعتمدة، وكيف أننا من الممكن أن نقدم بها تجديدا لفقه المرأة يجيب عن كثير من أسئلة العدالة في عصرنا.

وختاما : فإن جواب سؤال العدالة في حقوق الزوجة في الإسلام ليس له صيغة منصوصة إلا في مسائل جزئية محصورة تعبدنا الله بها، وتسليمنا بها هو تبع لإيماننا المجمل بأن ديننا دين حق وعدل، لكننا  بحاجة إلى تحديد هذه المسائل الجزئية القطعية وحصرها، ثم بحاجة إلى دراسة إمكانية التجديد فيها من طريق خطاب الوضع ، أما ماعدا ذلك من مسائل فمجال الاجتهاد فيها أوسع ، ونموذجنا المعرفي الخاص، وتراثنا الفقهي ، وقواعدنا الفقهية ، ومقاصدنا الشرعية ، كل ذلك فيه ما يمكن لنا الاستنارة به ، و استثماره لتقعيد فقه جديد يوائم  أحوال هذا الزمان ، وحضارته .

وأستحضر هنا كلام الإمام الزركشي في البحر المحيط وفيه مزيد بيان وتحرير  لقضية التجديد الفقهي : يقول : " فلا نقول إن الأحكام تتغير بتغير الزمان بل باختلاف الصورة الحادثة .. وكل ذلك فإنما هو استنباط من قواعد الشرع لا أنه خارج عن الأحكام المشروعة . فانظر ذلك فإنه عجيب ."[12] .

                                                                                                       

 

 

 

 



[1] الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد ، المستصفى من علم الأصول ،  تقديم وضبط وتعليق : محمد رمضان . د. ط. بيروت :   دار الأرقم، 1414هـ ، 1994م.  مج1/ ص 636

[2] ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية،د. ط . تونس  دار سحنون ، د.ت . ص 76.

[3]  الجويني ، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ، نهاية المطلب في دراية المذهب ، حققه وصنع فهارسه عبد العظيم محمود الديب، ط1 . بيروت وجدة: دار المنهاج، 1428هـ/ 2007م . مج13/ ص 225.

[4] انظر:  القرافي، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المصري، تنقيح الفصول في اختصار المحصول، حققه و وثقه : محمد عبد الرحمن الشاغول ، القاهرة : المكتبة الأزهرية للتراث ، 2005م . ص 192، 193

[5] انظر:  الجفري ، صفية ، الثبات والتغير في الحكم الفقهي ، ط1 ، بيروت : الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، 2014م. ص 179.

[6] الرملي،شمس الدين محمد أبو العباس أحمد بن حمزة بن شهاب، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ،بيروت : دار الكتب العلمية . مج7،ص207.

[7] الجويني ، عبد الملك بن يوسف ، البرهان ، مج1-2، ج2،ص75

[8] عقدت في كتابي : الثبات والتغير في الحكم الفقهي مبحثا يتناول هذه المسألة . وعنوان المبحث : انتفاء القطع ومسؤولية المجتهد والعامي .

[9] الشاطري، محمد بن أحمد، شرح الياقوت النفيس ، ط1، دار الحاوي، 1418هـ، 1997م. ج3/ من ص 117 إلى 120.

[10] أبو بكر، محمد بن عثمان شطا الدمياطي الشافعي، إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين ، ط1، بيروت : 1418هـ/ 1997م. ج4/ ص 104، 105.

 

[11] أبو بكر، محمد بن عثمان شطا الدمياطي الشافعي، إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين ، ط1، بيروت : 1418هـ/ 1997م. ج4/ ص 104، 105.

[12] الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي، البحر المحيط، قام بتحريره عبد القادر عبد الله العاني، وراجعه عمر سليمان الأشقر، ط2. الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،1413هـ ، 1992م، مج1، ص 166 ،167 .

الخميس، 8 يوليو 2021

تعاطف

 

  •     لا تلم نفسك لأنك لم تستطع أن تدفع ظلما وقع عليك ..من يستحقون اللوم هم من تجردوا من عدالتهم وتعاطفهم وصدقهم .الميزان الذي نزن به أفعالنا هو ميزان قربها من الطيبة والنزاهة والعدالة ..هو ميزان تحققها من تحري الخلق الحسن

  •     خطورة الظلم ليس فقط في الأذى الذي يوقعه الظالم بالمظلوم بل لأنه قد ينجح أحيانا في تشويش بوصلة القيم عند المظلوم،وهز ثقته بنفسه وبقدرته على تنفس هواء الأمان من جديد ،لذلك فإن أدنى ما تستطيعه من نصرة المظلوم هو التعاطف بل هو أدنى النصرة وأعلاها معا. كن متعاطفا.