الأحد، 2 أبريل 2023

فخ التدين *

 


                                                                                 

           

 في فقه التديّن

            قبل بضعة أشهر حضرت محاضرتين تتناولان تهذيب النفس من منظور علم التزكية الإسلامي، ومن منظور علم النفس المعاصر.

             في المحاضرة الأولى أكّد المحاضِر على أن كتب علم التزكية تحفظ نفس المسلم من الشتات، وأنه يُستغنى بها عن غيرها.

            ثم جاء المحاضر الثاني ليؤكد في محاضرته على الحاجة إلى الاستغناء بعلم نفس إسلامي عن علم النفس الغربي إذا أردنا الحفاظ على عقيدتنا وديننا.

            كان المحاضران الكريمان يتحدثان بعاطفة دينية لمس صدقُها قلبي، لكن صورة صديقتي سارة كانت حاضرة أمامي، وقبل ذلك فإن فقه الشريعة لا يقبل ما تبنّاه المحاضران الكريمان من فهم يحجّر سعة الشرع وتجدده وعالميته.

            استأذنت سارة أن أشارككم تجربتها فأذنت. كانت سارة من بيت علم أصيل، وشكّلت دروس الفقه والتزكية جزءا من تكوينها النفسي، وكانت أساسا في بنائها القيمي. عاشت سارة تجربة إنسانية تحب أن تصفها بالتجربة (المشوّشة)، لم تكن قادرة على تحديد ما الذي يعصف بوجدانها؛ فهي تمارس عباداتها، وتحافظ على أورادها، وتجعل عبادة الشكر عدّتها في مواجهة صعوبات التجربة الإنسانية التي تمر بها.

            قالت سارة: عشت سنوات وأنا أزاحم بالشكر شعوري المشوّش بالأذى، وأحاول أن أتسامى عن أخلاق المحاسبة وأتخذ المسامحة نهجا وطريقا، لكن غضبا ما كان يتنامى بداخلي، مع مشاعر مرتبكة تتعلق بأني أشعر أني بت أفقد ثقتي في نفسي يوما بعد يوم، وتواصلي مع الآخرين كان سببا في عذاب داخلي عندما أخلو بنفسي وأجلدها لأني لم أحسن الكلام أو التصرّف. ومع ذلك كنت لا أفهم ما الذي أمر به، وكنت أظن أني أحتاج إلى أن آخذ نفسي بمزيد حزم لأنقذها من الوحشة الداخلية التي كنت أشعر بها تنهشني وتصدّني عن أن أرتقي بنفسي. كان هذا الظن يعذبني إلى أن جاءت لحظة التنوير. كنت في مكتبة جرير ووقع في يدي كتاب:" الابتزاز العاطفي " لسوزان فورورد. اصطحبته إلى المنزل ليفتح لي عالما جديدا من عوالم الفهم. ووجدت أن الكتاب ولكأن المؤلفة كتبته لي خاصة، كل التفاصيل تقريبا أعيشها، وكانت معاناتي هي من آثار الابتزاز العاطفي الذي أتعرّض له بشكل مستمر منذ سنوات. كان الكتاب يتضمن أساليب إجرائية لمواجهة الابتزاز العاطفي، وكان الوعي وتفعيله واقعا منقذا أساسيا لي من شتات روحي الذي كاد أن يهلكها.

            لم يكن ينقص سارة التديّن، لكنها كانت تمر بابتلاء صدّها عن أن تفهم وجعها وأن تتعامل معه بوعي يجعلها تضع الأمور في مواضعها، فلا تكون عبادة الشكر وجها من وجوه الإنكار النفسي للأذى، ولا تكون المسامحة سببا في ذل نفسها وتسلط الظلم عليها. وهذه المفاهيم التي تعلمتها سارة من كتاب من كتب المساعدة الذاتية التي تنبثق من علم النفس الغربي أنقذتها بعد أن وظفتها ضمن رؤيتها الدينية الراسخة التي تشكلت من تعليمها الفقهي والتزكوي.

            ذكرتُ في مداخلة عقّبت بها على كلام المحاضرين الكريمين أن علم النفس يساعد المتديّن ليكون أكثر تديّنا؛ لأن من عرف نفسه عرف ربه، وأن المهم هو أن تكون مرجعتينا القيمية الخاصة بنا كمسلمين حاضرة عند انتفاعنا بالنتاج المعرفي المنبثق من مرجعيات أخرى.    

            تصوغ العاطفة الصادقة المنبثقة عن التديّن وجهة بعض الذين يتناولون مسألة تهذيب النفس؛ لكنّ التديّن لا تكفي فيه العاطفة بل يجب أن يتّبع صاحبه النهج النبوي وإلا كان متّبعا لهواه، مائلا عن الحق، ووقع في فخ تديّنه الذي يفتقر إلى البصيرة. قال تعالى: (قُلْ هذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (. سورة يوسف: 108. 

            قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ هذا الدينَ يسرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبهُ، فسدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا ويسِّروا واستعينُوا بالغَدوةِ والروحةِ وشيءٍ من الدُّلجةِ."

            يحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن نوع من التديّن ضلّ أصحابه الطريق لمّا شدّدوا على أنفسهم مالا تطيقه ولم يسددوا ولم يقاربوا.

            وفخ التديّن الذي سنتناوله في هذه المقالة هو فخ متعلق بالتصورات التي تشكّل علاقة الدين بالتخصصات الإنسانية، وهو القسم الأكبر من المقالة، كما ستتناول المقالة فخ التديّن المتعلق بالمصادرة على حرية العقل، وسأختتم المقالة بالكلام على فخ التدين المتعلق بالدفاع عن صورة الدين دفاعا على غير هدى.

            وقدّمت لهذه المسائل بالكلام على أثر العامل النفسي في تنوع اجتهادات الفقهاء، واستيعاب طبائع الناس. 

 

بين السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

            يحدثنا الإمام الغزالي في كتابه (المستصفى) عن الفرق بين الطبيعة النفسية للصحابيين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأثر هذا الاختلاف في الأحكام الفقهية التي يرجحها كل منهما. ويضرب لنا مثلا على ذلك اختلافهما في طريقة تقسيم أموال الدولة على المستحقين؛ فأبو بكر –رضي الله عنه - يرى التسوية بين الناس في قسمة الأموال دون تفريق بينهم بحسب الفضل الديني؛ إذ قال: الدنيا بلاغ، وإنما عملوا لله عز وجل وأجورهم على الله. وعمر –رضي الله عنه – يرى أن قسمة الأموال تكون بحسب الفضل الديني أو السابقة في الدين -كما عبّر الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية- فلم يسوّ – مثلا- بين من قاتل في معركة بدر وبين من لم ينل هذا الشرف. وقال: كيف نساوي بين الفاضل والمفضول؟، ورأى عمر – رضي الله عنه – أن عدم التسوية فيه ترغيب في طلب الفضائل.

            قال الإمام الغزالي: والمعنى الذي ذكره أبو بكر فهمه عمر رضي الله عنهما، لكن الفاروق –رضي الله عنه – وجد أن القول بعدم التسوية في العطاء أقوى من القول بالتسوية، وهذا الترجيح الفقهي هو الذي غلب على ظنه بعد أن بذل غاية جهده في دراسة هذه المسألة.

             والمعنى الذي ذكره عمر فهمه أبو بكر –رضي الله عنهما- لكن الصدّيق – رضي الله عنه- وجد أن القول بالتسوية في العطاء أقوى من القول بعدم التسوية[1]؛ وهذا الترجيح الفقهي هو الذي غلب على ظنه بعد أن بذل غاية جهده في دراسة هذه المسألة؛ (وذلك لاختلاف أحوالهما، فمن خلق خلقة أبي بكر في غلبة التأله وتجريد النظر في الآخرة غلب على ظنه لا محالة ما ظنه أبو بكر، ولم ينقدح في نفسه إلا ذلك، ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته في الالتفات إلى السياسة ورعاية مصالح الخلق وضبطهم وتحريك دواعيهم للخير، فلا بد أن تميل نفسه إلى ما مال إليه عمر مع إحاطة كل واحد منهما بدليل صاحبه، ولكن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون).

            يتحدث الإمام الغزالي هنا عن أن ترجيح المجتهد لرأي فقهي ما تتدخل فيه طبيعته النفسية، وتجاربه الشخصية، واختياراته الحياتية، أو كما عبّر – رحمه الله تعالى-: (اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون). والتعبير بالظنون هو تعبير ينتمي لمصطلحات علم أصول الفقه، والمراد به هو اختلاف ترجيحات الفقهاء باختلاف فهمهم للدليل الشرعي الظني أي الذي يدل على أكثر من معنى كل معنى منها يمكن اعتباره.

            إن اختلاف الحكم الفقهي تبعا لاختلاف نفسية الفقيه المجتهد هو في عمق المنهجية التي جاء بها الدين في مساحات الفقه الظنية[2]؛ أي المساحات التي تتعلق بالأدلة الشرعية التي يفهم منها المجتهدون أكثر من معنى يمكن اعتباره ثم يبذلون جهدهم في ترجيح أحد تلك المعاني وفقا لقواعد الترجيح المستفادة من المدرسة العلمية التي وضع أسسها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأخذها عنه علماء الصحابة ثم تلاميذهم والذين من بعدهم الذين كوّنوا المدراس العلمية الفقهية المكتملة منهجيا و المستفادة من هذه المدرسة العظيمة.

            ذلك أن الأحكام الفقهية جاءت لتحقق مصالح الناس، ولتغيث ضروراتهم، ولتلبي حاجاتهم، ولتجعل حياتهم على وصف الاعتدال الحسن الذي تستقر به النفوس وتتجدد. شرح ذلك بالتفصيل علماء أصول الفقه في القسم الذي يتناولون فيه موضوع الاجتهاد الفقهي.

            ويؤكد علماء الشريعة على أن الدراسة المتتبعة للأحكام الفقهية التي قررها الشرع توصِل إلى نتيجة لا شك فيها؛ وهي أن الشرع جاء ليحقق مصالح الناس بما تستقيم به أمور معاشهم، وتستقر به حياتهم وتزدهر، وبما ينفعهم في عمارة دنياهم وآخرتهم.  وتحقيق مصالح الناس       لا يتحقق إلا إذا كانت التشريعات لا تصطدم مع تنوع طبائعهم النفسية، ومن هنا كان العامل النفسي داخلا في عمق تعدد الاختيارات الفقهية، ليتعبّد المسلم ربّه بما لا يشق عليه نفسيا، ويوقعه في الحرج.

            يؤسس لنا الدين القواعد التي ننطلق منها لتحديد موقفنا من القدر، وتحديد القيم التي تحكم علاقتنا بأنفسنا، وعلاقتنا بالناس، وعلاقتنا بالمخلوقات الحية وغير الحيّة، والبيئة، والكون. وهذه القواعد تسمّى بالتصورات العليا، أو النموذج المعرفي. ويستمد كل إنسان وكل مجتمع نموذجه المعرفي من الدين الذي يؤمن به أو الفلسفة الإنسانية التي يتبناها.

            ونموذجنا المعرفي الذي أسسه الإسلام هو مَدَد لسعة الاختيارات الإنسانية للمسلم عبر الفقه الظني بما يوفره من تعددية في المسائل الاجتهادية، مثل اختلاف اجتهادات الفقهاء في المسائل التفصيلية في الاقتصاد والأحوال الشخصية، وفي تنزيل القطعيات في واقع الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم. يذكر الإمام ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية مثالا على التعامل مع المحرّم القطعي في واقع لم يتوفر فيه شرط التحريم وهو عدم وجود ضرورة تترتب عليها مفسدة هي في ميزان الشرع أقوى من مفسدة ارتكاب المحرّم. والمثال الذي ذكره الإمام ابن عاشور يتعلق بضرورة مجتمعية وليست فردية فحسب وسمّاها:" الضرورة العامة المؤقتة " وبيّنها بقوله: " وذلك أن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها تستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي مثل سلامة الأمة، وإبقاء قوتها أو نحو ذلك.".

            ويأتي الإشكال عندما تختزل بعض التصورات العليا في فهم مشوّش للقواعد أو الأحكام الفقهية في مجال علاقة الإنسان بنفسه أو علاقته بالآخرين. فيقال مثلا إن حث الإسلام على بر الوالدين يوجب على الأبناء طاعتهم في المسائل الاجتهادية أي المختلف فيها شرعا هكذا بإطلاق ولو كان في ذلك إهدار حق الابن في اختيار نمط الحياة الذي يناسب طبيعته النفسية، وإهدار حق الابن في ألا يؤدي به البر إلى حرج يبلغ مبلغ الضرورة أو ما يقاربها مما يعطّل عليه تواصله مع الحياة.

            نعم، بر الوالدين واجب قطعي، لكن وجوب البر مما يشترط فيه ألا يكون الوالدان متعنتان فيما يطالبان ابنهما به فيضيّقان عليه ما وسّعه الشرع تحكّما وإكراها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "لَيْسَ لأَحَدِ الأَبَوَيْنِ أَنْ يُلْزِمَ الْوَلَدَ بِنِكَاحِ مَنْ لا يُرِيدُ ، وَأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ لا يَكُونُ عَاقًّا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِأَكْلِ مَا يَنْفِرُ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَكْلِ مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ كَانَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ وَأَوْلَى ؛ فَإِنَّ أَكْلَ الْمَكْرُوهِ مَرَارَةً سَاعَةً ، وَعِشْرَةَ الْمَكْرُوهِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى طُولٍ يُؤْذِي صَاحِبَهُ كَذَلِكَ.".

            الإمام ابن تيمية يتحدّث عن أن الوالدين ليس لهما أن يلزما الابن بأكل ما ينفر عنه من حلال الطعام، فكيف يُقبل شرعا أو عقلا أن يتسلط الوالدان على حق ابنهما في اختيار طريقه في الحياة؟ ولعل ما في هذا المثال من بيان ما يغني عما سواه.

            وفي صفحة دار الإفتاء الأردنية كلام حسن في هذه المسألة. ومما ورد فيه: " عقوق الوالدين المحرم هو مخالفة أمرهما بما يؤدي إلى أذيتهما، ولم يكن لأمرهما مصلحة ظاهرة لهما، ولا أثرا بالغا عليهما، وإنما نشأ عن رغبة نفسية، أو هوى قلبي."[3]

            وعندما يلجأ الوالدان مع الابن إلى المختص النفسي المتديّن تديّنا يفتقر إلى البصيرة والفقه فإنه يوبّخ الابن على عقوقه لوالديه، ويؤيد الوالدين في قسرهما الابن على ما لا يرتضيه من نمط الحياة الذي لا يخالف سعة الشرع لأنهما يتبنيان ترجيحات فقهية معيّنة، ولا يفرّقان بين المسائل المتفق عليها اتفاقا قطعيا وبين المسائل الاجتهادية. وأنا هنا أتحدث عن واقعة شهدتها بنفسي مع صديقة فجّر المختص النفسي الصراع بينها وبين والديها -والمتعلّق بمسائل فقهية اجتهادية - وزاده اشتعالا بسبب فهمه القاصر للدين.

نفسية الصراع

            حبك لدينك، ومحاولة استصحابه في تخصصك الإنساني، قد يكون فسادا من حيث     لا تشعر، لأن الدين أرحب من التصورات الضيقة التي صدّرت باسمه، ولأنك لا تمتلك أدوات تمكنك من النظر في المسائل الجزئية.

            هناك فرق بين أن تنطلق في رؤيتك الكلية لعلم إنساني ما من قطعيات دينك، وبين أن تؤدلج هذا العلم وفقا لاختيارات فقهية معينة.

            أساس الإشكال هو أن هؤلاء المؤدلجين لا يفرقون من كليات الشريعة القطعية وبين تنزيلاتها الظنية، ولا يفرقون بين قطعيات الفقه وظنياته، ولا يفرقون بين الرأي في الشرع – أي الاجتهاد فيه والذي هو محل اختلاف بين العلماء ومورد سعة ويسر- وبين رأي الشرع – وهي الأحكام القطعية أو القواعد القطعية التي لا مجال للاجتهاد فيه والتي تمثّل التصورات العليا أو النموذج المعرفي الخاص الذي جاء به الإسلام -.

            الإسلام فيه مساحة واسعة لنمو العقل البشري، وتنوع اجتهاداته، وهو لا يصادر على الخبرة العلمية والإنسانية الإجرائية، كل ذلك ينتمي إلى (براح) المباحات بل يصبح المباح واجبا أو مندوبا إذا تعلق بتحقيق أو تمام واجب أو مندوب.

            نعم، علم النفس الغربي هو علم ينطلق من تصورات فلسفية فيها ما يصادم النموذج المعرفي الذي يقدمه الإسلام. وعلم النفس الغربي ليس بريئا من الأدلجة التي تلقي بثقلها في قضاياه الفرعية لا سيما القضايا الجندرية. ولكن ذلك لا يسوّغ أن نتعسّف التأويلات لإهدار قيمة ما أسهم به هذا العلم في النضج المعرفي الإنساني.

            استمعت لطبيب نفسي فاضل يقابل بين علم النفس الغربي وعلم النفس الإسلامي في مسألة التأكيد على الحق الفردي، ويقول إن علم النفس الإسلامي يركز على حسن الخلق لا على توكيد الذات.  والإشكال هنا هو فصل توكيد الذات –بمعنى العدالة في صيانة حقوق النفس- عن حسن الخلق مع كون حسن الخلق لا يتحقق إلا بتوكيد الذات. والشرع الشريف في تأكيده على أخلاق المسامحة جعل طريق ذلك تحقيق العدالة، فلا يعان ظالم على ظلمه، ولا باغ على بغيه. وقد ذكر الإمام زروق الفقيه الأصولي المالكي في كتابه: قواعد التصوف عن الإمام إبراهيم النخعي: "كانوا يكرهون أن يُستذلوا، فإذا قدروا عفوا." قال الإمام زروق:" وهو عين الواجب، ومقتضى عز المؤمن وقيامه بحق الشرع والطبع الكريم."

            ولكأن أسلمة العلوم باتت مظهرا لنفسية الصراع التي انبثق منها الخطاب الديني سنوات طويلة ولكأن الأصل في التعامل مع الآخر –غير المسلم – ثقافة وحضارة هو العداء لا السلم والرحمة، وكيف يكون الإسلام رحمة للعالمين إن لم يكن الأصل هو البر بكل ما تعنيه هذه الكلمة من الاحترام، والمودة، والنفسية المحبّة التي ترتجي الخير، وتقبل على المشتركات الأخلاقية والإنسانية، وتحتفي بثمرات العقول والخبرة المتجددة، وتنتفع بما لا يصطدم مع ثوابت دينها.

مصالح مرسلة:  

            النموذج المعرفي الذي يتبناه المسلم والذي يتصل بإيمانه بالله عز وجل هو أساس مهم مُعِين في سكينة النفس، لكن المسلم يحتاج مع هذا النموذج المعرفي إلى ما يعينه على جعله فاعلا في سلامه الداخلي، ومن هنا جاءت الآيات الكريمة المؤكدة على أهمية العلاقات الإنسانية التي تعضد الإنسان وتعينه على صعوبات الحياة. فالمسلم الذي يتعرّض للظلم يحتاج إلى أن يعان على رفع الظلم، لئلا يعصف به القهر والغضب، والله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم، فلا تكون استعانته بأخيه على ما تهدأ به نفسه من بوح في أدنى الأحوال إلا وسيلة من وسائل إعانته على تخفيف وطأة الأذى الذي وقع عليه.

            كيف يكون البوح عاملا مساعدا يحقق الذي حث عليه الدين من نصرة المظلوم، ورفع الحرج عن ذكره من ظلمه بالسوء، هذا مما تعلّمنا إياه الطرق الإجرائية التي جاء بها علم النفس الغربي والتي لا تصطدم بقطعيات الشرع، ونحن نستفيد من هذه الطرق الإجرائية ضمن التصورات العليا الخاصة بنا كمسلمين.

            طريقك إلى ربك يكون بتنظيم علاقتك بنفسك، فأن يعد الأخذ بالمسائل الإجرائية في علم النفس مثلا صدا عن مركزية الإله فهذا كلام يفتقر للفقه.

            يحدثنا الإمام الغزالي في الإحياء عن أن طريق تنوير القلب بالذكر هو تطهير القلب من أمراض الأخلاق كالحسد، والحقد، والكبر، والعجب ونحو ذلك. وعلم النفس قد يكون سببا لتفكيك تراكمات مشاعرك، وتنوير قلبك.

            هذه الإجراءات النفسية هي مسالك ينظر فيها فإن لم تخالف النموذج المعرفي الذي جاء به الدين؛ فهي مستوعبة فيه ضمن سعة باب المصالح المرسلة وهي المصلحة التي                 لا تخالف نصّا شرعيا، ولم يدل عليها دليل شرعي خاص. فكل مصلحة لم يدل دليل شرعي خاص على اعتبارها، ولم تخالف نصا شرعيا، فهي مصلحة يصح للمجتهد اعتبارها.

            يقدّم الدين قواعد عامة، وبعض التفاصيل الإجرائية لكنه لا يصادر على الخبرة البشرية المزدهرة بل يحتفي بها ويتجدد ويشرق.

            جاء الدين لتحقيق مصالح العباد على كمالها، واحتفى بالعقل ليكون صلاح الدنيا سبيلا إلى صلاح الآخرة، وقدّم لنا قواعد عامة تحفظ هذه المصالح وتنميها. هذه القواعد بمثابة الأرض طيبة التربة التي تزدهر وتخضر بنتاج عقول البشر وخبراتهم وليست سياجا يحدها ويقيّدها القيد الذي يحرمها من التجدد.

عقل ناقد  

            تنمية العقل الناقد، واحترام الحق في الاختيار الحر للقناعات ضرورة لترسيخ الدين، والصد عن ذلك اضطراب، وفتنة.

            وهذا من فقه المآلات- أي فقه النظر في تحقق مقاصد التشريع -؛ ذلك أن قسر العقول على الأفكار لا ترتضيه النفوس الأبية التي تعلي قيمة الاختيار، هذه القيمة التي أعلاها الشرع والتي غفل عنها بعض المتديّنين؛ فالإيمان اختيار، والطاعة اختيار، ولو لم يكن الأمر كذلك لما جعلت الآخرة جزاء وعاقبة.

            استمتعت قبل أيام إلى أحد الدعاة وهو يتحدث عن مخاطر الرواية، وأنها قد تضل القلب والعقل لما للأدب من سطوة شعورية. كنت أظن حقا أن الخطاب الذي يحث على أن نسلّم عقولنا لمن يفكر بالنيابة عنّا قد اندثر، لكن الأمر لا يبدو كذلك.  نعم، السطوة الشعورية والعقلية والأخلاقية للأدب حقيقة، لكن هل الحل هو أن ننيب من يختار لنا ما نقرؤه وما لا نقرؤه؟ وهل هناك وسيلة أجدى من المنع في تحفيز العقول الحرة على اقتحام سياج ما منعت منه؟!

            نعم، أفهم أن يكون الأمر في إطار تربوي، نشرح لأبنائنا الصغار أن كتبا معينة لا تناسب عقولهم، ليس لأننا نريد أن نمنعهم منها، ولكن لأن عقولهم ليست مستعدة لها بعد، كما لو قرأ أحدنا كتابا بلغة لا يفهمها فإن عقله لا يكون مستعدا لفهم معانيه، ونبيّن لأطفالنا أن القراءة المتعجلة لكتب لا تناسب أعمارهم ستحجبهم عن الجمال الذي ينتظرهم عند قراءتها في العمر المناسب.

            هذا النقاش بين الوالدين والطفل سيكون مثمرا إذا كان الوالدان قد مهّدا له بعلاقة تسودها الثقة والحوار والاحترام. وهو منع مفهوم لأن عقل الطفل غير ناضج أما أن نعامل الناس على أن عقولهم قاصرة، فهذا يدل على أننا لم ننضج بعد، لا في فهمنا للدين ولا في خبرتنا الإنسانية، وهذه هي رؤيتنا القاصرة لا رؤية الدين.

قداسة المنهج

            (البراح) الذي تحدثت عنه تحفظه قداسة المنهج، اقرأ محاولات بحثية مهمة لتجديد الخطاب الديني في مسائل تربوية وأسرية، وتقدّم تلك المحاولات البحثية نتائج تتسق مع نضج الخبرة البشرية في المسائل الإنسانية، لكنها محاولات تفتقر إلى سداد المنهج الذي هو دين نتعبّد الله به؛ فنحن نتعبّد الله بالطريق الذي نستنبط منه الأحكام، والحيدة عن ذلك زيغ ومن ذلك أن يُجعل النص في مقابلة مقاصد الشريعة مقابلة تناقض لا تكامل.

            والحق أن يُفهم النص في ضوء المقاصد الشرعية، وتنضبط المقاصد بالنصوص في تكامل منطلقه النص الشرعي.

            ومن فساد المنهج أن يعامل علم مصطلح الحديث كعلم قطعي لا ظني اجتهادي، فيخوض فيه الباحث خوضا يغفل اجتهادات أهل هذا العلم، ويتقحم أسواره دون مراجعة أهل التمكن فيه، ويعامل الحديث الضعيف معاملة الحديث الموضوع، وبسيف المقاصد يُضرب فقه الحديث دراية في مقتل.

التديّن والبصيرة

            التديّن الحق هو الذي يجعلك تتورع عن تناول مساحات لست من أهلها، وعنايتك بجعل الدين حاضرا في حياتك وحياة الناس ينبغي أن تقودك إلى أهل التمكن في الفقه تستعين بفقههم ويستنيرون بتخصصك، لا أن تقوم مقامهم ظنا منك أن ثقافتك الدينية العامة تغنيك.


* نشرت المقالة في موقع حجرة ورقة مقص : في 11 رمضان 1444هـ الموافق 2 /إبريل/ 2023م


 https://t.co/UXLYuc6JI6

                                                                            

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] النقل عن الإمام الغزالي في المستصفى بالمعنى، وما كان نص كلام الإمام الغزالي وضعته بين قوسين.

[2] الأدلة الشرعية تنقسم إلى قسمين: أدلة قطعية، وهي التي ثبتت ثبوتا تاما. وأدلة ظنية: وهي ما تطرق إليها الاحتمال، فتشترط شروط مفصلة في الاستفادة منها. ينظر شرح القطع والظن في الأحكام الفقهية في مقالتي بعنوان: في فقه السعةhttp://mudawala.blogspot.com/2020/10/blog-post_19.html.

[3] ينظر نص الفتوى في هذا الرابط: https://aliftaa.jo/QuestionPrint.aspx?QuestionId=859