الثلاثاء، 14 يناير 2020

أزمة منتصف العمر الرائعة




منتصف العمر :تأمل رائق :

لأني في الأربعينات من عمري فإن كتابا يتناول : " أزمة منتصف العمر" لا بد أن يجعلني أتوقف عنده. أعجبني ابتداء غلاف الكتاب ، لكنني خشيت أن تكون الترجمة رديئة ، وارتفع هذا الاحتمال مع تصفحي للكتاب ، وقراءتي الصفحة الأولى من المقدمة الجميلة والحكيمة التي كتبها أ. د يحي الرخاوي الطبيب النفسي الشهير  . قرأت للدكتور قبلا، وشاهدته يتحدث ، وهو جميل الروح ، أصيل الفكر، هذا ما تركه لدي من انطباع من قديم . وكان ذلك  عندي كافيا لشراء الكتاب الذي كتبته الكاتبة الأمريكية : ايدا لوشان . وترجمته الأستاذة : سهير صبري . ونشرته دار: صفحة سبعة للنشر والتوزيع . وتعجبت كما أعجبني أن دار النشر سعودية واختارت أ.د يحيى الرخاوي لكتابة المقدمة.
وفي هذه السطور سأتخير من الكتاب ما وجدت أنه جدير بأن أشاركه معكم . والكتاب كما ذكر الدكتور الرخاوي هو عمل أدبي في المقام الأول ، وبالتالي فهو عندي أكثر قدرة على النفاذ إلى أعماق القارىء ، ونشوء نوع من الصداقة ، والألفة ، بينهما ، وكذلك مساعدة القارىء على التأمل الرائق في أفكار الكتاب .
وهنا لا بد لي أن أقول : إن هذا الكتاب يلامس مسائل إنسانية حقيقية ، قد يعيشها بعضنا لا كلنا، لكن ليس لمن أكرمه الله بسكينة الروح أن يستنكر حديثا عن اضطراماتها ، ولعل قراءته عن ما يواجهه أقرانه يجعله أكثر نضجا ، وإدراكا للمعاناة الإنسانية .

الأزمة الثانية للهوية :

تقول الكاتبة أننا في منتصف العمر نواجه أزمة هوية ترتبط بالتساؤل هل عشنا حياتنا كما يجب؟ لقد تسرب الوقت، فكيف سنسير فيما تبقى منها بكل ما يرتبط بذلك من تغيرات تتصل بالتقدم في العمر ، و ضعف القدرة الجسدية ؟ . " وفي معظم الأحيان نمر بتلك المشاعر التي نألفها في فترة المراهقة : الشعور بأن الحياة بلا معنى .. . وفي الواقع فإن ما يجب أن نتذكره هو الوجه الآخر من المراهقة ، الوجه الثابت القوي : الشعور بالثورة والدهشة ، الشغف، والسعادة لكشف القوى الكامنة فينا، والابتهاج بالحياة . "
إن منتصف العمر هو فرصتنا الثانية لاستكمال أزمة الهوية التي بدأت في المراهقة، وهي فرصتنا الحقيقية لفهم أنفسنا بشكل أعمق، والتحقق بذواتنا .
الألم والنضج :
الآلام والخيبات التي نواجهها في منتصف العمر ، يكون وقعها أعظم في النفس لأنها تجيء ونحن مستقبلين للفصل الأخير من حياتنا ، وقد قطعنا شوطا كبيرا من الآمال في أن نجني  ثمرة الخير الذي قدمناه . لكن البعض منا يدرك متأخرا أن الخير الذي يقدمه ينبغي أن يكون دافعه الأصيل هو التحقق بما يجب التحقق به من أخلاق فاضلة دون أن يتوقع بشكل قاطع أن يجد ثمرة ذلك عرفانا أو نجاحا أو نعيما من الناس أو الحياة.
          نعم ، أن تتبنى قيما جيدة ، وتجعلها منهاجا لحياتك ، لا يعني ذلك أن تكافئك الحياة قطعا ، فقد يخيب أملك في ذلك : تتعثر صحتك ، أو يخذلك الأحبة من أهل أو أصدقاء أو شريك حياة . وهذا المعنى قد تتأخر في إدراكه حتى منتصف العمر ، ليهديك ذلك ألما يجعلك أكثر حكمة.
أقول : وهو ألم يعلمك كيف توازن بين حقوق نفسك وحقوق الآخرين ، لئلا ينقلب الإحسان ضررا لأنك لم تنزله منزلته بحكمة .
تنقل الكاتبة عن جبران خليل جبران في كتاب " النبي" : " إن الألم الذي تشعر به إنما هو تحطيم للقشرة التي تغلف إدراكك ." .
          وفي هذا السياق تنبه الكاتبة إلى أننا يجب أن نحترم مشاعر الألم التي يمر بها أطفالنا ، ولا نحاول صرفهم عنها، لأن ذلك يجعلهم قادرين على التعامل مع آلامهم باتزان . وتنقل عن إبراهيم ماسلو في كتابه : " نحو سيكولوجية الوجود " : " إذا كان الحزن والألم ضروريين للنمو فيجب ألا نحمي الآخرين منهما كما لو أنهما دائما سوء ، فأحيانا يكون الحزن والألم نعمة مرغوبة ... إن عدم ترك الآخرين يعيشون آلامهم، وحمايتهم منها، قد تتحول إلى شكل من أشكال الوصاية تظهر بدورها عدم احترام الطبيعة الجوهرية للشخصية، وتوحدها، وتطورها المستقبلي."

مراجعات تربوية نسوية :  

          كتبت ايدا لوشان هذا الكتاب وهي في الثامنة والأربعين من عمرها ، ولديها ابنة واحدة تبلغ من العمر عشرون عاما . وقد ناقشت -في الفصل الثالث المعنون ب: " خطأ نسائي " -الأفكار النسوية المرتبطة بعمل المرأة ، وعلاقتها بالرجل كزوج . 
           وقد تأثرت الأفكار التي تبنتها ايدا إلى حد كبير بتجربتها الشخصية. والتأثر بالتجربة الشخصية – في تقديري – إذا رافقه تفكير منهجي منضبط فإنه يثري الأفكار بعمق إنساني أصيل ، وهو جزء مهم من موضوعية الفكرة ، وسلامة منهجية التفكير في القضايا الإنسانية.
          ايدا كما تصف نفسها امرأة متحررة ، نشأت في بيئة تعلي من قيمة عمل المرأة : تقول ايدا : "نشأت في بيئة يقر فيها الأهل بأنه لا بد أن يكون لي دور هام في حياتي لا يقتصر على رعاية البيت والأولاد ... وأثناء مراهقتي ومستهل شبابي كنت شديدة العداء لأن يكون دور المرأة هو المنزل فقط بنفس الدرجة التي أراها لدى الثائرات اليوم ، لقد كنت ومازلت زوجة وأما عاملة طوال حياتي . وعندما أسترجع ذلك الآن أجد الكثير جدا الذي أتمنى تغييره . أشعر بالامتنان العميق لأني عشت في زمن استطعت أن أحقق فيه نفسي كإنسان . ولكني أشعر بالندم على ما لم أحققه . "
          ما الذي تشعر ايدا على الندم لعدم تحقيقه ؟ إنها تحدثنا عن تفاصيل صغيرة مؤثرة ، حرمتها التواصل الحلو مع ذاتها ، ومع ابنتها ، في خضم سعيها للتحقق بذاتها كصاحبة فكر ، وقدرة على التواصل الناجح مع العالم الخارجي بما يرتبط بتحقيق مصالحها المادية ، والعملية، والاجتماعية . لقد وجدت أن هذا السعي المثابر حرمها فهما أعمق للحياة. وتعلمت أن الفكر الذي كانت تفخر بتبنيه هو فكر ينقصه جذوة مهمة ترتبط بتقدير التواصل الإنساني الخاص الذي تمنحه الأمومة.
          تقول ايدا : " كنت عندما أغير "الحفاظات" لابنتي وهي طفلة رضيعة، أخشى على قدراتي الذهنية من الضمور من جراء ذلك ، ولم أسمح لنفسي مطلقا بمشاعر الأمومة البسيطة المرحة ، كنت أستغرق تماما في قراءة أحدث ما كتب عن سيكولوجية الطفل بدلا من أن أتمتع بمراقبة ابنتي ، وأن أشاهد العالم من جديد من خلال عينيها . وبدلا من أن أبني معها قصورا من الرمال ، أو استنشق معها عطر زهرة ، كنت أدون الملاحظات الخاصة بمقالي القادم عن تربية الأطفال . وبدلا من الاستماع إلى تطور حديثها ، والتمتع بما تعلمه لي من روعة الوجود ،وجمال أن تراقب وتنظر وتصغي إلى الحياة من حولك ، كنت أشعر بالضيق لضياع وقتي  ... كم أنا نادمة على لحظات الحب الخالص التي أهدرتها." .
          تعتقد ايدا أن  تحقق المرأة الأم بذاتها لن يكتمل ما لم تتحقق بأمومتها كاملة ، وتقترح لذلك أن تمارس المرأة حياة كاملة مع أطفالها إلى أن توصلهم إلى عتبات الاستقلال ، ثم تتجه لحياة جديدة بمعطيات جديدة .
          الإشكال عندي هو أن قدرة المرأة في مجتمعنا على تحقيق الصيغة " الجميلة " التي تتحدث عنها الكاتبة يحتاج إلى خطط مجتمعية لتمكين الأم من القيام بدورها في الأسرة دون أن يجعلها رهينة لتسلط الزوج المادي والعاطفي . إن الالتزام بالدور الأمومي للمرأة يحتاج إلى مساعدتها على إثراء بقية الأدوار في حياتها بما يصب في استقرارها النفسي , وكفايتها المادية . وبدون ذلك فلتعش الأم دورها الأمومي بشكل منقوص في مقابل عدم اختلال حياتها ككل .

          وهنا لا بد لي أن أشير إلى كتاب د. هبة شريف : ن النسوية فقد ناقشت فيه قضية عمل المرأة نقاشا مثريا، وبسطت فيه الآراء المتنوعة في هذا الموضوع ، مع بيان الإشكالات والاعتراضات التي ترد على وجهات النظر المتباينة .

إجابات شخصية:

          حديث ايدا لوشان عن تجربتها الخاصة المتعلقة بدورها كأم ، وإدراكها وهي في منتصف العمر أن فهمها النسوي لحقوقها لم يكن معتدلا ، جعلني أتأمل  في مسؤوليتنا عن إنضاج الأفكار قبل تبنيها ، لا سيما إن كان الأمر يتعلق بحقوق الناس ، ونمط حياتهم . نحتاج إلى الكثير من التواضع قبل أن نتصدر ، ونحتاج إلى الكثير من الصبر على التعلم.
          تقول  ايدا : لا يمكن لنا أن نقرر الحقوق المرتبطة بحياة النساء إذا لم نكن قادرين على رؤية أن العديد من النساء يجدن بهجة وسعادة في المهمة التقليدية للمرأة . كما أنه من المؤلم  أن تسمع ربات البيوت في منتصف العمر كلاما عن كونهن أهدرن أعمارهن في تربية أطفالهن . إن هؤلاء النسوة من حقهن أن تحترم مواهبهن و أن يجدن منافذ مناسبة في مراكز رعاية الأطفال، والمستشفيات ، ومساعدة المعلمات .
          وتقول أيضا : " إن التقليل من شأن الأمومة ، وتربية الأطفال، ومن قيمة الإحساس الغريزي بالرغبة في الاحتضان الموجود لدى العديد من النساء يبلغ من الشر والظلم والخطورة مثلما يبلغ الرأي القائل بأن النساء لا يصلحن إلا لهذا الدور . ووسط صيحات دعاة التحرير التي تعلو بغضب ، يصعب على أي فرد أن يتمسك بوجهة نظره الشخصية فيما يراه ثريا تماما ."
          وتستفيض ايدا لوشان في مناقشة الأفكار النسوية المتعلقة بعمل المرأة ، ودورها الأسري، وعلاقتها الجنسية بالرجل ، وتخلص إلى القول بأن هذه الأمواج من الأفكار المتلاطمة ، لا بد لها أن تستقر على شاطىء الاعتدال ، واحترام خيار الفرد في أن يجيب عن أسئلة الحقوق بما يلائم طبيعته الشخصية . والحصول على الإجابات الخاصة هي إحدى التحديات المهمة التي تواجهها المرأة في منتصف العمر.

على ضفاف الكتاب :

          لم أتحدث في السطور السابقة إلا عن شذرات من الأفكار الجديرة بالوقوف عندها تفكيرا وتأملا. وبقيت فصول تستحق القراءة الناقدة كالفصل المتعلق بأزمة منتصف العمر عند الرجال والذي أرجو أن يستفز أحد القراء من الرجال لكتابة مراجعة حوله . ومن الفصول المهمة الفصل المتعلق بما تتعرض له العلاقة الزوجية من مشكلات تتصل بأزمة منتصف العمر التي يمر بها الزوجان . ثم بقية فصول الكتاب التي تتناثر فيها قطع من الأفكار الذهبية الثمينة . ولعل أهم ما تميز به طرح الكاتبة هو ما أشار إليه أ. د يحيى الرخاوي في المقدمة من  أنها لم تتخذ من الأفكار موقفا حكميا فوقيا أبدا ، لقد ذكر الدكتور الرخاوي ذلك عندما وصف موقف الكاتبة من أحد أنواع العلاج النفسي ، لكني أجد أن هذا الوصف يصح أن نشمل به جميع ما ذكرته في كتابها من أفكار .