السبت، 24 فبراير 2024

بوصلة طفلك. لأن التهذيب وحده لا يكفي

 

كانت ابنتي آمنة في السادسة من عمرها عندما قالت لي: " ماما صديقتي تقول إن الموسيقى حرام ، فقلت لها: مستحيل تكون الموسيقى حرام، الموسيقى جميلة فكيف تكون حراما، أيضا نحن نسمع الموسيقى أنا وماما ولم تقل لي ماما أبدا إن الموسيقى حرام" .

ابتسمت، فلم أكن أتوقع أن تثير آمنة هذا الموضوع في هذه السن المبكرة . قلت: قبل أن أجيبك يا آمنة على سؤالك لا بد أن أحكي لك قصّة حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت لها حديث: " لا يصلّين أحد العصر إلا في بني قريظة"[1] وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقر الفريقين على اجتهادهما.

قلت لآمنة هذه القصّة هي المنطلق الذي تفهمين منه أمرا مهمّا وهو أن العلماء كثيرا ما اختلفوا في فهم الآيات والأحاديث مثل اختلاف الصحابة في هذه القصّة، وقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحترم اختلاف العلماء.

والآن بالنسبة للموسيقى، الموسيقى يا آمنة وليس الكلمات، فقد اختلف العلماء في فهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم في حكم الموسيقى، فأكثر العلماء قالوا إن الموسيقى حرام، وهناك علماء قالوا إن الموسيقى ليست حراما.

طلبت من آمنة أن تعيد عليّ ما فهمته من كلامي، وأعادته بشكل جيّد ثم قالت : لكن يا ماما كيف تكون الموسيقى الجميلة حراما[2]؟ قلت لها:  الموسيقى التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعزف في مكان يجتمع فيه الناس على الخمر، والأفعال السيئة، فكانت هذه الأمور  السيئة جزءا من مجلس الغناء، ففهم أكثر العلماء أنها محرّمة لأنها تنتمي إلى الأمور السيئة إجمالا . لكن بعض العلماء فرّقوا بين الأمور السيئة وبين الموسيقى ووجدوا مثلك أن الموسيقى جميلة وقالوا  لماذا نقول إنها حرام إذا كانت لا ترافقها أمور سيئة ؟

لقد كان هذا الحوار بيني وبين آمنة هو أول ما نبهني إلى فكرة أن التربية لا تتعلق فقط بإرشاد أولادنا إلى التفاصيل المتعلقة بالتهذيب، وإنما بالمرجعيّة التي تشكّل موقفنا من التفاصيل.

أطفالنا ورحلة المعنى

            أذكر جيّدا أني عشت طفولتي وأوائل مراهقتي في الثمانينات دون أن أصطدم بأية أسئلة تتعلق بموقفي من هواياتي، أو من المسائل الأخلاقية المركبة كالصدق والكذب والتسامح ، كانت الأمور سلسة لا تعقيد فيها لكن يبدو أن الأمر ليس كذلك بالنسبة لطفلتي التي بدأت الأسئلة معها مبكّرا في السادسة.

            إذن يبدو أن أطفالنا يخوضون رحلة المعنى بصورة أكثر تعقيدا مما عشناه. كان " المعنى" في طفولتي يتصل بصورة بسيطة بفكرة أن الله يحب الخير ويكره الشر، وأننا نفعل الخير ليرضي الله عنّا ونبتعد عن الشر لأن الله لا يحبه.

            جيل ابنتي يتداول حديثا عن الحلال والحرام في تفاصيل لم نكن نتطرق إليها في الثمانينات. آمنة الآن في الحادية عشرة من عمرها ، تهوى الرسم ، وجاءت لتسألني هل حقا رسم الأشخاص حرام لأن صديقة لها قالت إن رسم " المانجا " حرام. عدت مع آمنة  إلى حديث بني قريظة ، هذا الحديث العظيم الذي يصوغ بشكل مبسّط موقف المسلم حيال الاختلاف الفقهي، ووجدت أن فهمه حاضر في وجدانها، وشرحت لها اختلاف العلماء في المسألة ؛ فكان أن اطمأنّت إلى هوايتها.

ما بعد الحلال

            مرّت خمس سنوات على حديثي مع آمنة عن الموسيقى، وعادت البارحة إليّ تسألني من جديد عن الموسيقى.

            قالت لي آمنة ألم تقولي لي يا ماما أن أكثر العلماء " من زمان" يقولون إن الموسيقى حرام، قولي لي من فضلك مرة أخرى لماذا قالوا ذلك ؟ شرحت لها من جديد وجهة الاختلاف بين العلماء في حكم الموسيقى، ثم وجدت أن الوقت صار مناسبا لتفصيل أعمق، فقلت لها: ليست العبرة – يا آمنة-  بالعدد ، عدد العلماء الذين فهموا فهما معيّنا، وإنما العبرة بالتمكّن العلمي، سواء اجتمع على الرأي عشرة أو قال به واحد فقط مادام مؤهلا. والمهم هو أن يختار المسلم من دائرة الإسلام الواسعة ما يكون مناسبا لشخصيته، وطبيعته ، واحتياجاته الوجدانية، بحيث يعيش في سلام واتساق بحيث لا يمارس أشياء تصطدم مع قناعاته ومرجعيته. قد يختار الإنسان في مسألة ما الرأي القائل بالتحريم لأنه يرى أنه أقرب لنفسيته والجزء الخاص برؤيته الذاتية للأمور، وضربت لها مثلا بما حكته لي صديقة من أنها كانت تصافح الرجال بناء على الفتوى التي أجازت ذلك، وأنها كانت تتبنى في حياتها مبدأ أن تفعل كل ما قال عالم معتبر بأنه حلال، وتجعل بوصلتها في التصرّف الأخذ بالأقوال التي تسمح ولا تمنع، ثم إنه تبيّن لها بعد أن نضجت تجربتها في الحياة أن الأمر أعمق من فكرة أن تأخذ بالمسموح ، وأنها تحتاج حقا إلى أن تتعرّف على موقفها الخاص من كل الأمور التي اختلف فيها العلماء والتي تتصل بتفاصيل شؤونها النفسية والاجتماعية والعملية وكل شؤون حياتها. قلت لآمنة : صديقتي الآن لا تصافح الرجال؛ لأنها فهمت أن هناك مساحة ذاتية تركها لنا الدين عبر فقه الاختلاف، مساحة نكتشف فيها رؤيتنا الخاصة ونمارسها وحينها قد نختار القول بالمنع لا الإباحة بناء على رؤيتنا الخاصة .

 الإسلام واسع يا آمنة، وما حرّمه الله علينا تحريما واضحا لا اختلاف فيه إنما يتعلق بأمور قليلة بالنسبة لمساحة الاختيارات المتاحة، ولم يحرّم الله علينا إلا ما يترتب على فعله مفسدة لحياتنا وجودتها، وغالبا تتبيّن لنا الرؤية التي من أجلها حرّم الله علينا فعلا ما.

 


أطفالنا والواقع

            طرحت قبل عام تقريبا فكرة السعة في الاختيار بين اجتهادات العلماء، وجاءتني اعتراضات كثيرة بناء على ما اعتمده الخطاب الديني لسنوات من القول ب" منع الأخذ بالأسهل"، وهو القول السائد في كتب الأصول والفقه ، وكنت أجيب بأن هذه المسألة فيها رأيان ليس أحدهما بأولى من الآخر، وأن ما اعتمدته هو ما ذهب إليه عدد من علماء الأصول والفقه من الحنفية والشافعية، وقد فصّلت ذلك في كتابي: " الثبات والتغيّر في الحكم الفقهي " وتناولته في مقالتين عن فقه السعة نشرتهما في مدونتي. ثمّ إنه طرأ لي اليوم فهم جديد، وهو أن القول         ب "منع الأخذ بالأسهل " ينتمي إلي سياق عام لا يهمل فقه الواقع، فإذا وجدنا أن القول بجواز الأخذ بالأسهل بضوابطه[3] هو الذي يحقق المصلحة الشرعية وفقا للسياق الحضاري المعاصر الذي يناسبه تعدّد الخيارات فينبغي أن يكون المآل -منهجيّا- إلى اعتماده.

            ما أؤمن به تربويا أننا كلّما أعطينا لأطفالنا سعة أكبر في الاختيار والسيطرة في إدارة اختياراتهم -بل وواجباتهم- بعد أن نزوّدهم بالبوصلة التي تشكّل مرجعيتهم فإننا بذلك ندعم سلامهم الداخلي ، وتواصلهم الآمن غير المرتبك مع الحياة .

 

البوصلة العقلية ليست ترفا

            لا شك أن التعامل الحكيم مع الطفل الذي يشبع احتياجاته النفسية الأساسية وهي الحب والاحترام والمساندة والرفقة يحمي الطفل من تخبطات السلوك لكن التربية العقلية التي ترافق ذلك ليست ترفا؛ لأن تلبية الاحتياجات النفسية الأساسية لن يجيب على حيرة الطفل حيال هواياته أو اختلافات زملائه في مسائل الحلال والحرام والأهم من ذلك حيرته الذاتية حيال حاجته إلى اتساق قناعاته مع ممارساته .

            المقالة إشارة إلى أهمية أن يفهم أطفالنا أن تصرّفاتهم ينبغي أن تستند إلى مرجعية كليّة؛ بحيث إننا نساعدهم على إدراك موقفهم من الأشياء التي يمارسونها. وفي سبيل ذلك سنشرح لهم الأفكار الكبرى التي تحكم التفاصيل المتعلقة بتعاملهم مع أقرانهم، ومع الكبار والصغار، وتحكم كذلك موقفهم من المختلفين عنهم في القناعات أو المظهر أو السلوك ، وتحكم موقفهم حيال ما يتعلمونه أو يطّلعون عليه من أفكار أو ثقافات.

            الأصل في تفاعلنا مع الحياة أن نكون في حال اتساق وانسجام بين ديننا وقيمنا وبين اختياراتنا المتعلقة بنمط هواياتنا وعلاقاتنا الإنسانية، والاستثناء هو حال الصراع. الأصل هو الاستقرار، والمجاهدة في إطار هذا الاستقرار لا الصراع المتعلق بمرجعيتنا، وقيمنا الوجودية.

            إملاء الأفكار لا يجدي، كما أن التربية العقلية لا تثمر إن لم يرافقها أمران؛ أحدهما: تربية وجدانية متوازنة وشاملة للاحتياجات النفسية الأساسية، والثاني: تربية أخلاقية تبدأ من أخلاق القلب وتمتد إلى أخلاق السلوك.

                                                                                   

حرر في:  ليلة النصف من شعبان 1445هـ

              14/ 2/ 2024م

 

                       

 

           



[1] رواه مسلم .

[2] سؤال آمنة هنا له مستويان من الجواب؛ أحدهما: المستوى الفقهي وهو الذي أجبتها به، وهو المستوى الأقرب، والمستوى الثاني وهو الأبعد، يتعلق بمسألة التقبيح والتحسين، ولم أتطرّق إليه معها لصعوبته.

[3] الأخذ بالأسهل ضوابطه : أن يقول به عالم معتبر، وأن لا يؤدي إلى التلفيق، وأن لا يترتب عليه مفسدة معتبرة.