السبت، 27 ديسمبر 2008

يكاد أن يكون أجمل ما قرأت في ارتباطنا بمعاني الهجرة

والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه
بقلم/ الحبيب علي الجفري ِ
الجمعة 26 ديسمبر-كانون الأول 2008 10:44 ص
مارب برس – خاص ِ
في بداية كل عام هجري جديد نحتاج إلى نوع تأمل وتدبر لحكمة توالي الأيام والليالي والشهور، فنحن أمة تضبط أيامها وكل تاريخها بهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد كان من الممكن أن يضبط تاريخها بمولد الحبيب صلى الله عليه وسلم ابتداء أو بانتقاله إلى الرفيق الأعلى انتهاء، أو أن يكون تاريخنا ابتداء من البعثة المحمدية أو من فتح مكة، وكلها أحداث عظيمة ولها أثر كبير في تاريخنا، إلا أن الله تعالى ألهم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يجعل مسألة التأريخ تلك مرتبطة بالهجرة، ليرتبط الأمر كذلك في قلوبنا نحن بمعاني ودلالات جمة لمفهوم الهجرة
إذ قد اعتدنا في التعامل مع الكلمات والمفاهيم أن نقتصر على المعنى الأول المتبادر إلى الذهن بادي الرأي، فلا يكاد مفهوم الهجرة – على سبيل المثال – يغادر دلالته المكانية، ويظل مرهوناً بأنه يعني الانتقال من مكان إلى آخر
لكن تأمل كيف تسكن المفاهيم في مواضعها الحقة وتتخذ دلالتها الحقيقية في خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام للناس في حجة الوداع :" " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ "( شعب الإيمان، باب أن يحب الرجل لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه 13/455 برقم 10611).
وفي رواية الإمام البخاري :" وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ ( البخاري كتاب الإيمان / باب المسلم من سلم المؤمنون من لسانه ويده 1/11 برقم 10، كتاب الرقاق/ باب الانتهاء عن المعاصي 8/101 برقم 6484)، فمن معانى الهجرة التي نتأملها في هذا المقال هو هجر ما نهى الله عنه، ليستشعر كل واحد منا مع تعاقب الأيام والأعوام، ومع بداية كل سنة هجرية عليه، بأنه مخاطب بأن يهجر الخطايا والذنوب، وأن يهجر ما نهى الله عز وجل عنه.
وإذا كان المهاجر يترك مكانه إلى مكان آخر، فما معنى الهجرة المقصود هنا ؟ وإلى أين يهاجر الإنسان؟ إنه في الحقيقة يهاجر من داخله إلى داخله، من إطاعة نفسه ورغباتها إلى طلب القرب من الله عز وجل، ومن الذنوب والخطايا إلى التوبة والمغفرة، فهو في كل حالة من حالاته ينتقل من مرتبة إلى مرتبة، حتى لتصبح حياته كلها هجرة وطلباً وسيراً إلى الله تعالى.
فارتباط تاريخنا بمعنى الهجرة ينبهنا إلى معنى مهم، وهو أن تاريخنا كأمة إنما يصنعه الذين صدقوا مع الله تعالى في هجر ما نهي الله عنه ، إنما يصنعه الذين عاشوا معنى الهجرة من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة ثم ارتقوا بها في أعلى مراتب النفس البشرية إلى النفس الملهمة فالمطمئنة فالراضية فالمرضية ، فالذين كتبوا تاريخ هذه الأمة بهمتهم وجهادهم ونصرتهم إنما كانت أحوالهم كلها هجرة عما نهى الله عنه، مثلما لا تجد مجدداً في أي ميدان من ميادين إحياء الأمة إلا وقد كان معنى الهجرة هذا متقداً في قلبه حياً في باطنه مؤثراً به في حال واقعه .
كذلك من الأمور التي تحتاج منا إلى نوع تأمل وإمعان نظر أن الشهور القمرية التي نؤرخ بها للأمة ليست قاطعة الثبوت سواء في الابتداء أوالانتهاء، فلا نستطيع أن نحسبها ونقررها من بداية السنة، فنقول من الآن -على سبيل المثال- أن بداية شهر رمضان للعام المقبل هو يوم كذا شهر كذا من التقويم الميلادي، فالأشهر القمرية تتطلب منا الترقب والرؤية في بدايتها وانتهائها؛ وهي رؤية تشارك فيها الأمة بكل أفرادها وفئاتها، ذلك لأنها أمة حية، أمة مهمتها أن تبقى على صلة بالكون الذي تعيش فيه ، وأن تشعر أن للزمان قيمة في مروره عليها، وأن لها في بداية و نهاية كل شهر اهتمام وانشغال مرتبط بمهمتها في الخلافة والعمران.
ففي ذلك إحياء لمعنى قيمة الوقت عند الأمة وأن الأمة لا تنفصل عن الكون الذي تحيا فيه، لأن أمتنا علمت أن صلاتها بالوجود وبالكون هي صلات عمارة وعمران لأننا خلفاء الله تعالى في أرضه، ولم يخلق الله عز وجل الكون عبثاً ولا يكون لنا أن نجعله بيننا عبثاً بالتدمير والتخريب، فتمسكنا بتاريخنا واستشعارنا لقيمة مرور الأيام والشهور يعني أن لنا في هذه الأرض رسالة سامية ومهمة خالدة ، بدايتها الحقة الحفاظ عليها والتعامل معها بمنطق التسخيرلا بمنطق العلو والاستغلال .
ومن الأمور التي يمكن ملاحظتها في بداية العام الهجري الجديد أن وسيلة اعتبار دخول الشهر عندنا إنما تكون عن طريق أفراد ثقة عدول من الأمة يشهدون برؤيتهم للهلال، فأصبحت صلاتنا بالكون بالتالي صلة تتعلق بأهل الثقة الذين يؤخذ برجاحة عقلهم وبورعهم وأخلاقهم ، فهم الذين يضبطون لنا تاريخنا وأيامنا وليالينا، وبدون الثقة العدول لا ينضبط لنا يوم ولا ليلة، والأمة التي يقل فيها عدولها تضطرب علاقاتها بالكون وتهتز صلاتها بأيامها ولياليها.
فهذا من المعاني التي ننتفع به من رؤيتنا لمفهوم الهجرة، وهذا تنبيه للأمة بأن تاريخها يبنى على أيدي وجود العدول فيها، ثم تأتي مسألة ثانية في نفس المعنى وهي أن هؤلاء الثقة العدول لن يبنوا تاريخاً للأمة إلا إذا تنبهوا، فالعدول في سلوكهم الشخصي والفردي لكنهم يعيشون غفلة عن مهمتهم تجاه أمتهم لا يمكن أن يبنوا تاريخاً لها، فالعدل الذي يبني تاريخ الأمة ينبغي أن يكون يقظاً متنبهاً لمعاني الزمان والمكان.
ثم إذا تأملنا السنة الهجرية عبر شهورها فسنجد أن القاسم المشترك بين أحداث السنة من أولها إلى آخرها هو فعل الخير على أساس الفرح بالله، ولكم أن تستعرضوا السنة من المحرم شهر الله الحرام ، وما فيه من يوم عاشوراء أو يوم النصرين : الانتصار على مستوى الواقع ممثلاً في نصر الله تعالى سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين الصادقين على فرعون .
والانتصار على مستوى النفس ممثلاً في ثبات سيدنا الإمام الحسين سبط رسول الله صلي الله عليه وسلم على الحق بقطع النظر عن قوة وجبروت ما واجهه من زيف وباطل وإغراءات، ليعلم الأمة على كر السنوات والقرون أن الثابت على الحق هو صاحب الحق، ولهذا ابتدأت أول مواسم سنتنا بشهر محرم، وفي شهر محرم معنى النصرة، وأن النصرة لها ارتباط بمعنى الهجرة ، أن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه لندرك أن ما نرومه من نصر من الله تعالى إنما يرتبط بضبط النفس وهجرة ما نهى الله عنه.
ولكم أن تتفكروا في كيفية ارتباط سائر الشهور بفعل الخير على أساس الفرح بالله تعالى، وانظروا كيف ارتبطت سنتنا كلها بمعان وبأحداث حتى نعيش حياة نستشعر بها دلالات مرور الأيام والليالي, فإذا دخل شهر ذو الحجة وجاءت الأيام العشر وانتهت السنة, جاءت فيها المواسم بكثرة مركزة ليتنبه الإنسان إلى عمارة خاتمته, لأنه إذا اعتنى الإنسان بخاتمة سنته, واعتنى بخاتمة شهره, واعتنى بخاتمة أسبوعه, واعتنى بخاتمة يومه، فهذا الاعتناء بالخواتيم يورث الإنسان بركة أن يعتني الله عز وجل بخاتمة عمره.
فلا تأتي ساعة الانتقال لدار الآخرة إلا وقد تحدد للمؤمن معنى الهجرة في باطنه, والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ويتهيأ لأعظم مراحل سفره في حياته وهي مرحلة الورود على الله جل جلاله, فلا تأتي ساعة الوفاة إلا وهذا القلب قد اطمأن لأنه اعتاد أن تكون له خواتيم يقظة وانتباه، ويموت المرء على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه.
إذا استشعر المؤمن هذه المعاني فهو المؤمن الذي سيبني أمته, وهو المؤمن الذي سيصطفيه الله تعالى للفرج عن هذه الأمة المحمدية, ونحن على أبواب فرج قريب لهذه الأمة, يوشك أن تروا بأنفسكم هذا الأمر, لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ، والذين سيصطفيهم الله لهذا الفرج المقبل على الأمة هم الذين يعيشون تصديق يقين قلوبهم بما أخبر الله به ونبيه أعظم من تيقنهم بما تخبر به أعينهم ومسامعهم وألسنتهم.
وهذا أمر ينبغي أن نتنبه له, فإن الذين سيصطفيهم الله للفرج القريب المقبل على الأمة هم الذين يعيشون أمثال هذه المعاني, الذين تمر عليهم الأيام والليالي وهم يهاجرون ما نهى الله عنه في أنفسهم و في زوجاتهم و في ذريتهم و في أبنائه و في معاملتهم مع الذين يحيطون بهم, وقد قال صلى الله عليه وسلم : " "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ "( مسند أحمد 8 / 155 برقم 16957).
فإن عشت على هذا المعنى وقلبك مطمئن إلى هذا الأمر وسعيت في هذا الأمر فسيدخل الإسلام كل بيت بعزك أنت, وإن أغفلت هذا الأمر وعشت لدنياك ونسيت آخرتك وأغفلت أنك مسلم صاحب مهمة في نشر هذا الدين, بأخلاقك و باستقامتك و بهمتك فسينتشر أيضاً هذا الدين لكن بذُلِّك أنت، فانظر من بداية هذه السنة على أي حال ستمر عليك.اللهم بارك لنا في عامنا هذا وارزقنا فيه من حسن الإقبال عليك ، وأكرمنا بكمال القبول لديك وبالثبات على ما تحبه وترضاه

ورق قلبي .. ففهمت

كنت أقرأ منذ قليل في مقدمة مواهب الجليل في الفقه المالكي ॥ فوجدت في قلبي رقة وخشية لم أجدها منذ زمن .. واستنار عقلي بفهم جديد في موضوع بحثي .. ثم تذكرت معنى قديما سمعته .. أن للكتب أنوارا تشرق على قلوب من يجالسها كأنوار أصحابها .. وهذا من سداد نياتهم .. رحم الله الشيخ الحطاب .. وجزاه عني خير الجزاء .. كما أني سمعت من أحد مشايخي أن في كتب المالكية وفقههم ما يجعل القارىء متصلا بمعان ربانية شريفة ..
ما أشعر به الآن قلبا ذكرني باتصال تلفوني مع أحد الصالحين – ولا أزكيه على الله – السيد الفقيه زين بن سميط حفظه الله .. طلبت منه أن يدعو لي ، فما أنهيت كلامي معه حتى شعرت كأن نورا ينشق عنه صدري ليغمرني بسكينة وانشراح عجيبين ..
وقد كنت أقلد قولا لأحد الصحابة في مسألة من مسائل الحجاب ، وأجدني الليلة بعد قراءتي لكلام نفيس منضبط نقله الشيخ الحطاب المالكي عن عدم جواز تقليد مذاهب الصحابة ..أجدني أتوقف في هذا التقليد .. وإن كنت أميل فقها بحسب تحصيلي الفقهي الحالي- ولست من أهل الترجيح قطعا - إلى ترجيح الجواز لا المنع في المسألة المذكورة وهو ما ذهب إليه الشيخ عبد الحليم أبو شقة . ولعلي أكتب عن ذلك في وقت آخر ..

الجمعة، 26 ديسمبر 2008

سفر المرأة بدون محرم حال الأمن وماذا عن رضا المحرم؟

فتوى الشيخ العبيكان حول جواز سفر المرأة بدون محرم حيث أمنت الطريق أثارت لدي تساؤلات حول أثر مثل هذه الفتاوى في بناء نمط جديد في العلاقة بين الجنسين في مجتمعنا ، القول بحل مثل هذا السفر هو خطوة نحو مساحات أوسع تتاح للمراة لكن السؤال الأهم في تقديري ما ارتباط القول بحل سفر المرأة دون محرم بإدراك الطرفين لمساحة تدخل الرجل في حياة المرأة أيا كانت قرابته لها ؟ وهل القول بجواز سفر المراة بدون محرم إذا أمنت الطريق يستلزم رضا المحرم بهذا السفر ؟ وما أثر تغيير الفتوى الشرعية على الفعل المجتمعي ؟هنا السؤال الذي ستكون الإجابة عنه أكثر قوة في تغيير إدراك وسلوك كل طرف مع ذاته ومع الجنس الآخر ॥ أنا هنا لا أقرر شكلا ما لهذه العلاقة أنا فقط أفكر :) ومساءكم وئام
* عذرا لدي مشكلة في تنسيق المادة المكتوبة .. وهذا رابط الكلام حول فتوى العبيكان على موقع إسلام أون لاين http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1230121230283&pagename=Zone-Arabic-Shariah%2FSRALayout

الاثنين، 22 ديسمبر 2008

الشك الشجاع

كان شكا في صلاح الأمور ، ولكنه شك يبحث ويضطرب ، وليس بالشك الذي يستجم ويستكين
هكذا تحدث الأستاذ العقاد في ( عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم ) عن علامات ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وأكد أن العلامات التاريخية هي العلامات التي دلتنا على تهيؤ العالم لاستقبال الرسالة ، علامات لا التباس فيها ، ولا سبيل إلى إنكارها ..
" شك يبحث ويضطرب ، وليس بالشك الذي يستجم ويستكين " كم هزتني هذه العبارة ، وجعلتني أتوقف أمام شكي ، وشك بعض الأقران ، فيما نشأنا عليه من مسلمات عقدية ، وفقهية .
هل كان شكنا هو شك الباحث المضطرب ، أم شك جبان تقاعس عن خوض صعوبات البحث العلمي الجاد؟
شك يكتفي بخطف المعاني الجديدة التي نكتشفها في كتب الفلسفة ، أو الفكر .. خطفها أو السماح لها أن تخطفنا أو تزلزلنا ، فننهزم أمامها لأنها مختلفة ، ومبهرة ، وتقودنا إلى عالم متحرر لم نعرفه قبلا .
ضرورة مرحلة
أ/ أنيس منصور في ( في صالون العقاد كانت لنا أيام ) يحكي لنا عن مرحلة تشبه المرحلة التي أحدثكم عنها : " في ذلك الوقت كنا نقف على الحافة ، الحافة بين الدين والخروج عليه ، وبين الإيمان والخوف منه . أو بين الفلسفة العلمية ، والدين غير المنطقي- كانت هذه هي التعبيرات المألوفة عندنا نحن الشبان الصغار من دارسي الفلسفة . وكنا نحاول أن ننقل للأستاذ ترددنا وتردينا ، ومخاوفنا واجتراءنا على الحق ، وتأكيد الذات وتضخيمها ، وكان الأستاذ – العقاد- يعرف ذلك كله . ويراه طبيعيا ، ويعبر عن ذلك كله أحسن وأجمل عندما يقول : إنني أقول للحياة نعم .. ولكل شيء آخر لا .. وليس من الحياة أن نرفض الحياة . ولا من الحكمة أن نقول : لا دائما ولا أن نقول : نعم دائما ولكن يخطىء كثيرا من يقول: لا .. كثيرا ، ويخطىء قليلا من يقول : نعم ..كثيرا . "
إذن الأستاذ العقاد كان يرى ذلك طبيعيا ، وكان يحميهم بكلامه من التضخيم النفسي السلبي لضرورة المرحلة ، ضرورة مرحلة البحث عن الحق.
لكن يبدو لي أن الأستاذ كان يثق أنهم سيسيرون في طريق الشك سيرا حثيثا ، سير الباحث الذي لا ينخدع بظواهر الأمور ، ولا يستسلم أمام معوقات الحياة النفسية والمادية ، الباحث الذي يقدّر الحقيقة تقديرا يجعله يبحث عنها بحثا محموما ، عند المتخصصين ، ولا يكتفي بأن يغرق في لجة شكوكه أو كسله أو أوهام التحرر الذي جد على أفكاره .
إيمان كالظن وليس ظنا
هذا في جيلهم هم ، فماذا عن جيلنا ؟ لقد ذكرني كلام الأستاذ أنيس منصور عن المرحلة التي مر بها بمراسلات جرت بيني وبين أحد الأصدقاء ..
كان الشك المستكين الخانع يموج في أسئلته عن المطلق والحقيقة ، لم أكن أملك إجابة لكني قلت له : أنت في القاهرة ، حيث العلماء الذين تشد إليهم الرحال ، فكيف لا تقصدهم ؟ لم يجب . وعدت على نفسي باللائمة ، فأنا مثله ، أين أنا من عقيدة تدعمها الحجج ، وتنقض كل ما يخالفها ؟
قلت له : فليكن إيماننا وجدانيا ، فقال : وهل يكفي ذلك ؟
كانت مراسلات لم يكتب لها أن تكتمل .. لكني اليوم وجدت الجواب ، نعم وجدته في برهان الإمام الجويني : نعم يكفي ذلك ، فالقدرة على نقض المذاهب المخالفة في العقيدة هذا عمل المتخصصين . . أما غير المتخصصين فيكفيهم اطمئنانهم إلى صحة ما يعتقدونه، هو إيمان قطعي شبيه بالمظنون ، وليس مظنونا ، هكذا فرق إمام الحرمين الجويني بين إيمان المتخصص ، المتمكن من الحجج ، القادر على تفنيد ما ينقضها ، وبين إيمان غير المتخصص ..
يقول الإمام الجويني في كتابه" البرهان في أصول الفقه " بعد أن تحدث عن أن الترجيح لا يجري فيما سبيله القطع ، وأن الترجيحات تغليبات لطرق الظنون ، فإن المرجح أغلب في الترجيح ، وهو مظنون والمظنون غير جار في مسلك القطع : ( العوام لا يكلفون بلوغ الغايات ، ودرك حقائق العلوم في المعتقدات ، وإنما يكلفون تحصيل عقد متعلق بالمعتقد على ما هو به ، مع التصميم، ثم عقدهم لا يحصل في مطرد العادة هجوما وافتتاحا من غير استناد إلى مسلك من مسالك النظر ، وإن كان غير تام ، وإذا كان كذلك ، فالترجيحات عندهم في قواعد العقائد قد تجري ، فإن عقودهم ليست علوما ، ومأخذها كمأخذ الظنون في حق من يعلم أنه ظان . وهذا الذي ذكرناه لا يناقض ما ذكره الأئمة ، فإنهم زعموا أن الترجيحات السليمة لا وقع لها في مدارك العلوم ، وما ذكروه حق لا نزاع فيه ، وإنما يكتفى من العوام بعقود سليمة ليست علوما فتجري عقائدهم مجرى الظنون في المظنونات ). البرهان/ دار الكتب العلمية -بيروت / كتاب الترجيح/ ص176.
التحلي بالأدب شجاعة أيضا
ومن العقائد إلى الفقه ، حيث يتقاطع ما هو فقهي مع ما هو عقدي ، فعندما تهتز قناعتي في مرحلة ما في تكريم الإسلام للمرأة عقلا ، وأسلم بها إيمانا ووجدانا ، وأعلن ذلك في مجلة الجامعة ، في مقالة عنونت لها ب(الراية البيضاء) .. تحدثت فيها عن أني أرفع الراية البيضاء استسلاما فالإسلام أعطى الرجل تشريف لم يكرم به المرأة ، ثم أقف عاجزة عن الفهم، كيف يستقيم أن ننبذ تراثا عظيما لصالح تفسيرات حديثة للنصوص تدّعي تكريم الإسلام للمرأة .. هكذا ..
وحين لم أستطع أن أفهم كلام شيخي عبد الله باهارون أيامها عن ابتعاد كثير من نصوص التراث عن نور النص ، ومقاصده . وعن اتخاذ النص الفقهي للمجتهد بمثابة نص الشارع ، وتتراكم النصوص البشرية ، في سلسلة يأخذ بعضها من بعض ، لتكون فقها غريبا عن المقاصد القطعية .
كانت تلك المرحلة هي ضرورة من ضرورات البحث ، بدأت بدراسة ما ورد في كتب التراث ، دراسة الطالب الذي يستصحب الأدب مع أهل العلم .. ولا يمنعه هذا الأدب من السؤال ، والدهشة ، والاستنكار ، لينتهي إلى التسليم بلا فهم ..
لكن الطريق لم ينته إلا ليبدأ من جديد ، والآن بعد مضي سبع سنوات من تخرجي من الجامعة ، أجدني أمام المزيد من الأسئلة ، ومزيد من الإيمان الشبيه بالمظنون وهو ليس بالمظنون . لكني على يقين أن الأدب عصمني أيامها عن الحيدة عن طريق الإيمان .. كنت أتساءل هل الأدب هو الذي عصمني أم الجبن ؟
وأجدني أفهم اليوم أن التسرع باتخاذ موقف علمي ما لطالب لم يكمل بحثه هو الجبن الحقيقي ، هو الجبن عن مواجهة ارتباكاتنا النفسية ، والبيئية ، وتجاوزها صبرا ومصابرة ، لنبحث بجد صادق ، وعزم لا يلين .