الثلاثاء، 22 أغسطس 2023

الابتزاز العاطفي (1)

 ماريا تحكي :

" لقد كان قادرا على الفوز في أي نقاش غالبا ، لأنه كان يفلح في أن يجعلني أشعر بالذنب ، والتقصير، والتفريط بقيم لا يليق بمثلي أن يفرط فيها . والأمر تحول مع الأيام في داخلي إلى إحساس  متصل مربك بعدم الثقة في نفسي ، وهذا ما يجعلني متوترة دائما. إنه يكرر عبارات تتعلق بمراعاة الواجبات الأخلاقية تجعلني فعليا أغرق في تأمل التزامي بها لأتشكك في كل ما كنت أعترض عليه، أو أطالب به " .

هذا ما حكته ( ماريا) في جلسة العلاج النفسي كما ورد في كتاب : (الابتزاز العاطفي ) للدكتورة سوزان فورورد . من ترجمة مكتبة جرير .

تقول ماريا :إنني إنسانة قوية، ومستقلة، ومتحققة  فكيف استطاع زوجي جاي أن ينال من سكينة روحي، وصفاء حكمي على الأمور.

ثقتك به تجعله يتحكم بانفعالاتك :
          ما حكت عنه ماريا هو حالة نموذجية من حالات الابتزاز العاطفي الذي هو :" أحد الأشكال الفعالة للتلاعب والذي فيه يهددنا الأشخاص المقربون منا – سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- ليعاقبونا إذا لم نفعل ما يريدونه ... فالمبتزون عاطفيا يعرفون مدى تقديرنا لعلاقتنا بهم، ويعرفون نقاط ضعفنا... وبغض النظر عن مقدار اهتمامهم بنا، فعندما يشعرون بأنهم لن يحصلوا على ما يريدون ، يستخدمون معرفتهم الحميمية لتشكيل التهديدات التي تعطيهم النتيجة التي يريدونها وهي امتثالنا لرغباتهم ... فمثلا إذا كنت تعتز بكونك كريما ومهتما بالآخرين ، فربما يصفك المبتز بأنك أناني أو غير مراع للآخرين إذا لم تستجب لرغباته .... وإذا صدقت المبتز ، فقد تقع في نمط السماح له بالتحكم في قراراتك وسلوكك . " ( الابتزاز العاطفي: ص 5).

لماذا ينجح الابتزاز العاطفي مع الأذكياء والثابتين انفعاليا:  

          تقول الدكتورة سوزان:"  لماذا يكون بعض الناس – مهما كان ذكاؤهم وثباتهم الانفعالي – عرضة للابتزاز العاطفي ، في حين يستطيع آخرون التصدي له ؟ تكمن الإجابة في مثيرات الاستجابة العاطفية بداخلنا ... كل مثير استجابة يشبه خلية طاقة يتم شحنها بالمشكلات النفسية التي لم يتم التعامل معها –السخط المختزن ، والشعور بالذنب، والمخاوف ، ومواضع الضعف . هذه هي نقاط ضعفنا التي شكلها مزاجنا ونفسيتنا إلى جانب تجاربنا منذ أن كنا أطفالا... تتسبب هذه المشاعر والذكريات في صدور ردود فعل منافية للفكر أو المنطق ، تستغل العاطفة النقية التي كانت مختزنة وتكتسب قوة لفترة طويلة . قد لا نتذكر دائما الأحداث التي قادت إلى تكوين مثيرات الاستجابة هذه ، وعندما يتعلق الأمر بالتعقيدات المرتبطة بسبب قيامنا بالأشياء التي نقوم بها، فإن السبب والنتيجة يمكن أن يكونا مراوغين . لكن إذا تساءلت يوما أين تذهب المشاعر والخبرات " المكبوتة" فإن مثيرات الاستجابة بداخلك هي مكان ملائم للبحث فيه . "     ( الابتزاز العاطفي: ص 129، 130) .

لا تطلب أخلاق الملائكة:

ماريا تربت في بيئة تعلي من القيم الدينية والأخلاقية إعلاء يطالب أفرادها بالسعي نحو الكمال، ذلك السعي الذي يجعل قيما كالإيثار ، والتسامح، والالتزام بالواجبات حاضرة في محيطها فكرا وممارسة .
          لم تكن ماريا تواجه مشكلات تقريبا في بيئة تقدر هكذا قيم ، تقديرا ينبع من الحرص على تحقيق العدل كما التحقق بالفضل . كان التقصير في الفضائل يواجه باللوم، والنبذ ، في محيط  يتسم بأخلاق ( أولاد الأصول).
          هذه التربية الأخلاقية المتشبثة بالكمالات تشبثا يساوي بينها وبين الواجبات تفتقر إلى النضج الإنساني ، ومن ثم فإن ماريا كانت فريسة سهلة لابتزاز يستخدم فيه زوجها ما يعزز موقفه من التعاليم الدينية ، والالتزامات الأخلاقية ، ليؤكد مدى الامتنان الذي يجب أن تشعر به لكل ما فعله من أجلها من أمور جيدة . ( الابتزاز العاطفي : ص 68 ).


الخروج عن السيطرة :
          غالبا ما تكون أفكارنا عن الواجبات والالتزامات أفكارا منطقية ، وهي تشكل أساسا أخلاقيا ومعنويا لحياتنا ، وهو أساس ضروري، ولكن أحيانا تفشل محاولاتنا في تحقيق التوازن بين الاضطلاع بمسؤوليتنا تجاه أنفسنا وبين تحقيق ما نشعر بأننا ندين للآخرين به . فنحن نخل بهذا التوازن لأجل الشعور بالواجب .
يخلق الابتزاز العاطفي الكثير من الضباب في أعماقنا، إنه يمس ضعفنا الداخلي ، المتعلق بحرصنا على القيم الفاضلة، وأن نكون محبوبين ، ومقبولين، ومرغوبين،ويسود السلام والدفء علاقاتنا. كل هذه الأمور تصبح هدفا للمساومة دون أن نرى ذلك بسبب الضباب الكثيف الذي ينثره المبتز بمعاملته الجيدة لنا في حال لم نختلف معه. وهو يستخدم هذه المعاملة الجيدة كسلاح معنوي يشكك به من نزاهتنا معه.



ضباب الابتزاز العاطفي وعمليات التفكير :
عالم الابتزاز العاطفي هو عالم مربك، فقد يحدث الابتزاز العاطفي في سياق علاقة  يسودها كثير من الأمور الجيدة والإيجابية ، ونجد أننا ندع ذكريات التجارب الإيجابية تطغى على الشعور الملح الذي ينتابنا بأننا لسنا على ما يرام . فالابتزاز العاطفي يتسلل إلينا ، زاحفا بهدوء ليتخطى حدود التصرف المقبول إلى تصرفات تكون مشوبة ثم مشبعة بكل ما يقوض سعادتنا . فعندما نتعايش مع الابتزاز العاطفي ، فإنه يزيد من شعورنا بالكآبة ، وتزداد حدته حتى يعرّض أهم علاقاتنا، وشعورنا بالاحترام لأنفسنا بالخطر . ( الابتزاز العاطفي : ص 11، ص 17، ص 18) .
إن الضباب الكثيف -من المتاجرة باللوم، والشعور بالذنب- الذي ينثره المبتز عاطفيا يضللنا ، ويحرّف نظرتنا للأمور ، ويشوه تاريخنا الشخصي، ويشوّش على فهمنا لما يحدث حولنا . والضباب يتجاهل عمليات تفكيرنا ، ويستهدف استجاباتنا العاطفية مباشرة.


إشعال الأنوار :
            لكي نبدد الضباب الذي يشوش عمليات التفكير لدينا ، لا بد من إشعال الأنوار، وأول خطوة في ذلك هي البصيرة، وفهم ما نمر به من ضغوط قاسية. ومن الضروري أن نعلم أن الفهم وحده لا يكفي، فمزيد من الضباب الذي يتكاثف مع الأيام ، لا بد له من تغيير لسلوكنا ، إذ أن فهم  سبب قيامنا بردود الأفعال الخاطئة لن يجعلنا نتوقف عن إتيانها ، والتذمر ومناشدة الطرف الآخر لن يحققا ذلك أيضا .
     لقد كانت هذه السطور المقتبسة بتصرف من كتاب : ( الابتزاز العاطفي ) هي بمثابة محاولة للتعريف بالخطورة النفسية للوقوع في شرك علاقة معقدة مع مبتز سواء كانت العلاقة  علاقة قرابة، أو زوجية، أو صداقة، أو عمل . ولعلي في مقالة قادمة أختار من هذا الكتاب القيّم ما يعيين على تغيير سلوكنا ، والتعامل الحكيم مع المبتز وصولا إلى إصلاح العلاقة ، ووضعها في المسار الصحيح كهدف أساس .

الأحد، 2 أبريل 2023

فخ التدين *

 


                                                                                 

           

 في فقه التديّن

            قبل بضعة أشهر حضرت محاضرتين تتناولان تهذيب النفس من منظور علم التزكية الإسلامي، ومن منظور علم النفس المعاصر.

             في المحاضرة الأولى أكّد المحاضِر على أن كتب علم التزكية تحفظ نفس المسلم من الشتات، وأنه يُستغنى بها عن غيرها.

            ثم جاء المحاضر الثاني ليؤكد في محاضرته على الحاجة إلى الاستغناء بعلم نفس إسلامي عن علم النفس الغربي إذا أردنا الحفاظ على عقيدتنا وديننا.

            كان المحاضران الكريمان يتحدثان بعاطفة دينية لمس صدقُها قلبي، لكن صورة صديقتي سارة كانت حاضرة أمامي، وقبل ذلك فإن فقه الشريعة لا يقبل ما تبنّاه المحاضران الكريمان من فهم يحجّر سعة الشرع وتجدده وعالميته.

            استأذنت سارة أن أشارككم تجربتها فأذنت. كانت سارة من بيت علم أصيل، وشكّلت دروس الفقه والتزكية جزءا من تكوينها النفسي، وكانت أساسا في بنائها القيمي. عاشت سارة تجربة إنسانية تحب أن تصفها بالتجربة (المشوّشة)، لم تكن قادرة على تحديد ما الذي يعصف بوجدانها؛ فهي تمارس عباداتها، وتحافظ على أورادها، وتجعل عبادة الشكر عدّتها في مواجهة صعوبات التجربة الإنسانية التي تمر بها.

            قالت سارة: عشت سنوات وأنا أزاحم بالشكر شعوري المشوّش بالأذى، وأحاول أن أتسامى عن أخلاق المحاسبة وأتخذ المسامحة نهجا وطريقا، لكن غضبا ما كان يتنامى بداخلي، مع مشاعر مرتبكة تتعلق بأني أشعر أني بت أفقد ثقتي في نفسي يوما بعد يوم، وتواصلي مع الآخرين كان سببا في عذاب داخلي عندما أخلو بنفسي وأجلدها لأني لم أحسن الكلام أو التصرّف. ومع ذلك كنت لا أفهم ما الذي أمر به، وكنت أظن أني أحتاج إلى أن آخذ نفسي بمزيد حزم لأنقذها من الوحشة الداخلية التي كنت أشعر بها تنهشني وتصدّني عن أن أرتقي بنفسي. كان هذا الظن يعذبني إلى أن جاءت لحظة التنوير. كنت في مكتبة جرير ووقع في يدي كتاب:" الابتزاز العاطفي " لسوزان فورورد. اصطحبته إلى المنزل ليفتح لي عالما جديدا من عوالم الفهم. ووجدت أن الكتاب ولكأن المؤلفة كتبته لي خاصة، كل التفاصيل تقريبا أعيشها، وكانت معاناتي هي من آثار الابتزاز العاطفي الذي أتعرّض له بشكل مستمر منذ سنوات. كان الكتاب يتضمن أساليب إجرائية لمواجهة الابتزاز العاطفي، وكان الوعي وتفعيله واقعا منقذا أساسيا لي من شتات روحي الذي كاد أن يهلكها.

            لم يكن ينقص سارة التديّن، لكنها كانت تمر بابتلاء صدّها عن أن تفهم وجعها وأن تتعامل معه بوعي يجعلها تضع الأمور في مواضعها، فلا تكون عبادة الشكر وجها من وجوه الإنكار النفسي للأذى، ولا تكون المسامحة سببا في ذل نفسها وتسلط الظلم عليها. وهذه المفاهيم التي تعلمتها سارة من كتاب من كتب المساعدة الذاتية التي تنبثق من علم النفس الغربي أنقذتها بعد أن وظفتها ضمن رؤيتها الدينية الراسخة التي تشكلت من تعليمها الفقهي والتزكوي.

            ذكرتُ في مداخلة عقّبت بها على كلام المحاضرين الكريمين أن علم النفس يساعد المتديّن ليكون أكثر تديّنا؛ لأن من عرف نفسه عرف ربه، وأن المهم هو أن تكون مرجعتينا القيمية الخاصة بنا كمسلمين حاضرة عند انتفاعنا بالنتاج المعرفي المنبثق من مرجعيات أخرى.    

            تصوغ العاطفة الصادقة المنبثقة عن التديّن وجهة بعض الذين يتناولون مسألة تهذيب النفس؛ لكنّ التديّن لا تكفي فيه العاطفة بل يجب أن يتّبع صاحبه النهج النبوي وإلا كان متّبعا لهواه، مائلا عن الحق، ووقع في فخ تديّنه الذي يفتقر إلى البصيرة. قال تعالى: (قُلْ هذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (. سورة يوسف: 108. 

            قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ هذا الدينَ يسرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبهُ، فسدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا ويسِّروا واستعينُوا بالغَدوةِ والروحةِ وشيءٍ من الدُّلجةِ."

            يحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن نوع من التديّن ضلّ أصحابه الطريق لمّا شدّدوا على أنفسهم مالا تطيقه ولم يسددوا ولم يقاربوا.

            وفخ التديّن الذي سنتناوله في هذه المقالة هو فخ متعلق بالتصورات التي تشكّل علاقة الدين بالتخصصات الإنسانية، وهو القسم الأكبر من المقالة، كما ستتناول المقالة فخ التديّن المتعلق بالمصادرة على حرية العقل، وسأختتم المقالة بالكلام على فخ التدين المتعلق بالدفاع عن صورة الدين دفاعا على غير هدى.

            وقدّمت لهذه المسائل بالكلام على أثر العامل النفسي في تنوع اجتهادات الفقهاء، واستيعاب طبائع الناس. 

 

بين السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

            يحدثنا الإمام الغزالي في كتابه (المستصفى) عن الفرق بين الطبيعة النفسية للصحابيين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأثر هذا الاختلاف في الأحكام الفقهية التي يرجحها كل منهما. ويضرب لنا مثلا على ذلك اختلافهما في طريقة تقسيم أموال الدولة على المستحقين؛ فأبو بكر –رضي الله عنه - يرى التسوية بين الناس في قسمة الأموال دون تفريق بينهم بحسب الفضل الديني؛ إذ قال: الدنيا بلاغ، وإنما عملوا لله عز وجل وأجورهم على الله. وعمر –رضي الله عنه – يرى أن قسمة الأموال تكون بحسب الفضل الديني أو السابقة في الدين -كما عبّر الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية- فلم يسوّ – مثلا- بين من قاتل في معركة بدر وبين من لم ينل هذا الشرف. وقال: كيف نساوي بين الفاضل والمفضول؟، ورأى عمر – رضي الله عنه – أن عدم التسوية فيه ترغيب في طلب الفضائل.

            قال الإمام الغزالي: والمعنى الذي ذكره أبو بكر فهمه عمر رضي الله عنهما، لكن الفاروق –رضي الله عنه – وجد أن القول بعدم التسوية في العطاء أقوى من القول بالتسوية، وهذا الترجيح الفقهي هو الذي غلب على ظنه بعد أن بذل غاية جهده في دراسة هذه المسألة.

             والمعنى الذي ذكره عمر فهمه أبو بكر –رضي الله عنهما- لكن الصدّيق – رضي الله عنه- وجد أن القول بالتسوية في العطاء أقوى من القول بعدم التسوية[1]؛ وهذا الترجيح الفقهي هو الذي غلب على ظنه بعد أن بذل غاية جهده في دراسة هذه المسألة؛ (وذلك لاختلاف أحوالهما، فمن خلق خلقة أبي بكر في غلبة التأله وتجريد النظر في الآخرة غلب على ظنه لا محالة ما ظنه أبو بكر، ولم ينقدح في نفسه إلا ذلك، ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته في الالتفات إلى السياسة ورعاية مصالح الخلق وضبطهم وتحريك دواعيهم للخير، فلا بد أن تميل نفسه إلى ما مال إليه عمر مع إحاطة كل واحد منهما بدليل صاحبه، ولكن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون).

            يتحدث الإمام الغزالي هنا عن أن ترجيح المجتهد لرأي فقهي ما تتدخل فيه طبيعته النفسية، وتجاربه الشخصية، واختياراته الحياتية، أو كما عبّر – رحمه الله تعالى-: (اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون). والتعبير بالظنون هو تعبير ينتمي لمصطلحات علم أصول الفقه، والمراد به هو اختلاف ترجيحات الفقهاء باختلاف فهمهم للدليل الشرعي الظني أي الذي يدل على أكثر من معنى كل معنى منها يمكن اعتباره.

            إن اختلاف الحكم الفقهي تبعا لاختلاف نفسية الفقيه المجتهد هو في عمق المنهجية التي جاء بها الدين في مساحات الفقه الظنية[2]؛ أي المساحات التي تتعلق بالأدلة الشرعية التي يفهم منها المجتهدون أكثر من معنى يمكن اعتباره ثم يبذلون جهدهم في ترجيح أحد تلك المعاني وفقا لقواعد الترجيح المستفادة من المدرسة العلمية التي وضع أسسها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأخذها عنه علماء الصحابة ثم تلاميذهم والذين من بعدهم الذين كوّنوا المدراس العلمية الفقهية المكتملة منهجيا و المستفادة من هذه المدرسة العظيمة.

            ذلك أن الأحكام الفقهية جاءت لتحقق مصالح الناس، ولتغيث ضروراتهم، ولتلبي حاجاتهم، ولتجعل حياتهم على وصف الاعتدال الحسن الذي تستقر به النفوس وتتجدد. شرح ذلك بالتفصيل علماء أصول الفقه في القسم الذي يتناولون فيه موضوع الاجتهاد الفقهي.

            ويؤكد علماء الشريعة على أن الدراسة المتتبعة للأحكام الفقهية التي قررها الشرع توصِل إلى نتيجة لا شك فيها؛ وهي أن الشرع جاء ليحقق مصالح الناس بما تستقيم به أمور معاشهم، وتستقر به حياتهم وتزدهر، وبما ينفعهم في عمارة دنياهم وآخرتهم.  وتحقيق مصالح الناس       لا يتحقق إلا إذا كانت التشريعات لا تصطدم مع تنوع طبائعهم النفسية، ومن هنا كان العامل النفسي داخلا في عمق تعدد الاختيارات الفقهية، ليتعبّد المسلم ربّه بما لا يشق عليه نفسيا، ويوقعه في الحرج.

            يؤسس لنا الدين القواعد التي ننطلق منها لتحديد موقفنا من القدر، وتحديد القيم التي تحكم علاقتنا بأنفسنا، وعلاقتنا بالناس، وعلاقتنا بالمخلوقات الحية وغير الحيّة، والبيئة، والكون. وهذه القواعد تسمّى بالتصورات العليا، أو النموذج المعرفي. ويستمد كل إنسان وكل مجتمع نموذجه المعرفي من الدين الذي يؤمن به أو الفلسفة الإنسانية التي يتبناها.

            ونموذجنا المعرفي الذي أسسه الإسلام هو مَدَد لسعة الاختيارات الإنسانية للمسلم عبر الفقه الظني بما يوفره من تعددية في المسائل الاجتهادية، مثل اختلاف اجتهادات الفقهاء في المسائل التفصيلية في الاقتصاد والأحوال الشخصية، وفي تنزيل القطعيات في واقع الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم. يذكر الإمام ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية مثالا على التعامل مع المحرّم القطعي في واقع لم يتوفر فيه شرط التحريم وهو عدم وجود ضرورة تترتب عليها مفسدة هي في ميزان الشرع أقوى من مفسدة ارتكاب المحرّم. والمثال الذي ذكره الإمام ابن عاشور يتعلق بضرورة مجتمعية وليست فردية فحسب وسمّاها:" الضرورة العامة المؤقتة " وبيّنها بقوله: " وذلك أن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها تستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي مثل سلامة الأمة، وإبقاء قوتها أو نحو ذلك.".

            ويأتي الإشكال عندما تختزل بعض التصورات العليا في فهم مشوّش للقواعد أو الأحكام الفقهية في مجال علاقة الإنسان بنفسه أو علاقته بالآخرين. فيقال مثلا إن حث الإسلام على بر الوالدين يوجب على الأبناء طاعتهم في المسائل الاجتهادية أي المختلف فيها شرعا هكذا بإطلاق ولو كان في ذلك إهدار حق الابن في اختيار نمط الحياة الذي يناسب طبيعته النفسية، وإهدار حق الابن في ألا يؤدي به البر إلى حرج يبلغ مبلغ الضرورة أو ما يقاربها مما يعطّل عليه تواصله مع الحياة.

            نعم، بر الوالدين واجب قطعي، لكن وجوب البر مما يشترط فيه ألا يكون الوالدان متعنتان فيما يطالبان ابنهما به فيضيّقان عليه ما وسّعه الشرع تحكّما وإكراها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "لَيْسَ لأَحَدِ الأَبَوَيْنِ أَنْ يُلْزِمَ الْوَلَدَ بِنِكَاحِ مَنْ لا يُرِيدُ ، وَأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ لا يَكُونُ عَاقًّا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِأَكْلِ مَا يَنْفِرُ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَكْلِ مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ كَانَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ وَأَوْلَى ؛ فَإِنَّ أَكْلَ الْمَكْرُوهِ مَرَارَةً سَاعَةً ، وَعِشْرَةَ الْمَكْرُوهِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى طُولٍ يُؤْذِي صَاحِبَهُ كَذَلِكَ.".

            الإمام ابن تيمية يتحدّث عن أن الوالدين ليس لهما أن يلزما الابن بأكل ما ينفر عنه من حلال الطعام، فكيف يُقبل شرعا أو عقلا أن يتسلط الوالدان على حق ابنهما في اختيار طريقه في الحياة؟ ولعل ما في هذا المثال من بيان ما يغني عما سواه.

            وفي صفحة دار الإفتاء الأردنية كلام حسن في هذه المسألة. ومما ورد فيه: " عقوق الوالدين المحرم هو مخالفة أمرهما بما يؤدي إلى أذيتهما، ولم يكن لأمرهما مصلحة ظاهرة لهما، ولا أثرا بالغا عليهما، وإنما نشأ عن رغبة نفسية، أو هوى قلبي."[3]

            وعندما يلجأ الوالدان مع الابن إلى المختص النفسي المتديّن تديّنا يفتقر إلى البصيرة والفقه فإنه يوبّخ الابن على عقوقه لوالديه، ويؤيد الوالدين في قسرهما الابن على ما لا يرتضيه من نمط الحياة الذي لا يخالف سعة الشرع لأنهما يتبنيان ترجيحات فقهية معيّنة، ولا يفرّقان بين المسائل المتفق عليها اتفاقا قطعيا وبين المسائل الاجتهادية. وأنا هنا أتحدث عن واقعة شهدتها بنفسي مع صديقة فجّر المختص النفسي الصراع بينها وبين والديها -والمتعلّق بمسائل فقهية اجتهادية - وزاده اشتعالا بسبب فهمه القاصر للدين.

نفسية الصراع

            حبك لدينك، ومحاولة استصحابه في تخصصك الإنساني، قد يكون فسادا من حيث     لا تشعر، لأن الدين أرحب من التصورات الضيقة التي صدّرت باسمه، ولأنك لا تمتلك أدوات تمكنك من النظر في المسائل الجزئية.

            هناك فرق بين أن تنطلق في رؤيتك الكلية لعلم إنساني ما من قطعيات دينك، وبين أن تؤدلج هذا العلم وفقا لاختيارات فقهية معينة.

            أساس الإشكال هو أن هؤلاء المؤدلجين لا يفرقون من كليات الشريعة القطعية وبين تنزيلاتها الظنية، ولا يفرقون بين قطعيات الفقه وظنياته، ولا يفرقون بين الرأي في الشرع – أي الاجتهاد فيه والذي هو محل اختلاف بين العلماء ومورد سعة ويسر- وبين رأي الشرع – وهي الأحكام القطعية أو القواعد القطعية التي لا مجال للاجتهاد فيه والتي تمثّل التصورات العليا أو النموذج المعرفي الخاص الذي جاء به الإسلام -.

            الإسلام فيه مساحة واسعة لنمو العقل البشري، وتنوع اجتهاداته، وهو لا يصادر على الخبرة العلمية والإنسانية الإجرائية، كل ذلك ينتمي إلى (براح) المباحات بل يصبح المباح واجبا أو مندوبا إذا تعلق بتحقيق أو تمام واجب أو مندوب.

            نعم، علم النفس الغربي هو علم ينطلق من تصورات فلسفية فيها ما يصادم النموذج المعرفي الذي يقدمه الإسلام. وعلم النفس الغربي ليس بريئا من الأدلجة التي تلقي بثقلها في قضاياه الفرعية لا سيما القضايا الجندرية. ولكن ذلك لا يسوّغ أن نتعسّف التأويلات لإهدار قيمة ما أسهم به هذا العلم في النضج المعرفي الإنساني.

            استمعت لطبيب نفسي فاضل يقابل بين علم النفس الغربي وعلم النفس الإسلامي في مسألة التأكيد على الحق الفردي، ويقول إن علم النفس الإسلامي يركز على حسن الخلق لا على توكيد الذات.  والإشكال هنا هو فصل توكيد الذات –بمعنى العدالة في صيانة حقوق النفس- عن حسن الخلق مع كون حسن الخلق لا يتحقق إلا بتوكيد الذات. والشرع الشريف في تأكيده على أخلاق المسامحة جعل طريق ذلك تحقيق العدالة، فلا يعان ظالم على ظلمه، ولا باغ على بغيه. وقد ذكر الإمام زروق الفقيه الأصولي المالكي في كتابه: قواعد التصوف عن الإمام إبراهيم النخعي: "كانوا يكرهون أن يُستذلوا، فإذا قدروا عفوا." قال الإمام زروق:" وهو عين الواجب، ومقتضى عز المؤمن وقيامه بحق الشرع والطبع الكريم."

            ولكأن أسلمة العلوم باتت مظهرا لنفسية الصراع التي انبثق منها الخطاب الديني سنوات طويلة ولكأن الأصل في التعامل مع الآخر –غير المسلم – ثقافة وحضارة هو العداء لا السلم والرحمة، وكيف يكون الإسلام رحمة للعالمين إن لم يكن الأصل هو البر بكل ما تعنيه هذه الكلمة من الاحترام، والمودة، والنفسية المحبّة التي ترتجي الخير، وتقبل على المشتركات الأخلاقية والإنسانية، وتحتفي بثمرات العقول والخبرة المتجددة، وتنتفع بما لا يصطدم مع ثوابت دينها.

مصالح مرسلة:  

            النموذج المعرفي الذي يتبناه المسلم والذي يتصل بإيمانه بالله عز وجل هو أساس مهم مُعِين في سكينة النفس، لكن المسلم يحتاج مع هذا النموذج المعرفي إلى ما يعينه على جعله فاعلا في سلامه الداخلي، ومن هنا جاءت الآيات الكريمة المؤكدة على أهمية العلاقات الإنسانية التي تعضد الإنسان وتعينه على صعوبات الحياة. فالمسلم الذي يتعرّض للظلم يحتاج إلى أن يعان على رفع الظلم، لئلا يعصف به القهر والغضب، والله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم، فلا تكون استعانته بأخيه على ما تهدأ به نفسه من بوح في أدنى الأحوال إلا وسيلة من وسائل إعانته على تخفيف وطأة الأذى الذي وقع عليه.

            كيف يكون البوح عاملا مساعدا يحقق الذي حث عليه الدين من نصرة المظلوم، ورفع الحرج عن ذكره من ظلمه بالسوء، هذا مما تعلّمنا إياه الطرق الإجرائية التي جاء بها علم النفس الغربي والتي لا تصطدم بقطعيات الشرع، ونحن نستفيد من هذه الطرق الإجرائية ضمن التصورات العليا الخاصة بنا كمسلمين.

            طريقك إلى ربك يكون بتنظيم علاقتك بنفسك، فأن يعد الأخذ بالمسائل الإجرائية في علم النفس مثلا صدا عن مركزية الإله فهذا كلام يفتقر للفقه.

            يحدثنا الإمام الغزالي في الإحياء عن أن طريق تنوير القلب بالذكر هو تطهير القلب من أمراض الأخلاق كالحسد، والحقد، والكبر، والعجب ونحو ذلك. وعلم النفس قد يكون سببا لتفكيك تراكمات مشاعرك، وتنوير قلبك.

            هذه الإجراءات النفسية هي مسالك ينظر فيها فإن لم تخالف النموذج المعرفي الذي جاء به الدين؛ فهي مستوعبة فيه ضمن سعة باب المصالح المرسلة وهي المصلحة التي                 لا تخالف نصّا شرعيا، ولم يدل عليها دليل شرعي خاص. فكل مصلحة لم يدل دليل شرعي خاص على اعتبارها، ولم تخالف نصا شرعيا، فهي مصلحة يصح للمجتهد اعتبارها.

            يقدّم الدين قواعد عامة، وبعض التفاصيل الإجرائية لكنه لا يصادر على الخبرة البشرية المزدهرة بل يحتفي بها ويتجدد ويشرق.

            جاء الدين لتحقيق مصالح العباد على كمالها، واحتفى بالعقل ليكون صلاح الدنيا سبيلا إلى صلاح الآخرة، وقدّم لنا قواعد عامة تحفظ هذه المصالح وتنميها. هذه القواعد بمثابة الأرض طيبة التربة التي تزدهر وتخضر بنتاج عقول البشر وخبراتهم وليست سياجا يحدها ويقيّدها القيد الذي يحرمها من التجدد.

عقل ناقد  

            تنمية العقل الناقد، واحترام الحق في الاختيار الحر للقناعات ضرورة لترسيخ الدين، والصد عن ذلك اضطراب، وفتنة.

            وهذا من فقه المآلات- أي فقه النظر في تحقق مقاصد التشريع -؛ ذلك أن قسر العقول على الأفكار لا ترتضيه النفوس الأبية التي تعلي قيمة الاختيار، هذه القيمة التي أعلاها الشرع والتي غفل عنها بعض المتديّنين؛ فالإيمان اختيار، والطاعة اختيار، ولو لم يكن الأمر كذلك لما جعلت الآخرة جزاء وعاقبة.

            استمتعت قبل أيام إلى أحد الدعاة وهو يتحدث عن مخاطر الرواية، وأنها قد تضل القلب والعقل لما للأدب من سطوة شعورية. كنت أظن حقا أن الخطاب الذي يحث على أن نسلّم عقولنا لمن يفكر بالنيابة عنّا قد اندثر، لكن الأمر لا يبدو كذلك.  نعم، السطوة الشعورية والعقلية والأخلاقية للأدب حقيقة، لكن هل الحل هو أن ننيب من يختار لنا ما نقرؤه وما لا نقرؤه؟ وهل هناك وسيلة أجدى من المنع في تحفيز العقول الحرة على اقتحام سياج ما منعت منه؟!

            نعم، أفهم أن يكون الأمر في إطار تربوي، نشرح لأبنائنا الصغار أن كتبا معينة لا تناسب عقولهم، ليس لأننا نريد أن نمنعهم منها، ولكن لأن عقولهم ليست مستعدة لها بعد، كما لو قرأ أحدنا كتابا بلغة لا يفهمها فإن عقله لا يكون مستعدا لفهم معانيه، ونبيّن لأطفالنا أن القراءة المتعجلة لكتب لا تناسب أعمارهم ستحجبهم عن الجمال الذي ينتظرهم عند قراءتها في العمر المناسب.

            هذا النقاش بين الوالدين والطفل سيكون مثمرا إذا كان الوالدان قد مهّدا له بعلاقة تسودها الثقة والحوار والاحترام. وهو منع مفهوم لأن عقل الطفل غير ناضج أما أن نعامل الناس على أن عقولهم قاصرة، فهذا يدل على أننا لم ننضج بعد، لا في فهمنا للدين ولا في خبرتنا الإنسانية، وهذه هي رؤيتنا القاصرة لا رؤية الدين.

قداسة المنهج

            (البراح) الذي تحدثت عنه تحفظه قداسة المنهج، اقرأ محاولات بحثية مهمة لتجديد الخطاب الديني في مسائل تربوية وأسرية، وتقدّم تلك المحاولات البحثية نتائج تتسق مع نضج الخبرة البشرية في المسائل الإنسانية، لكنها محاولات تفتقر إلى سداد المنهج الذي هو دين نتعبّد الله به؛ فنحن نتعبّد الله بالطريق الذي نستنبط منه الأحكام، والحيدة عن ذلك زيغ ومن ذلك أن يُجعل النص في مقابلة مقاصد الشريعة مقابلة تناقض لا تكامل.

            والحق أن يُفهم النص في ضوء المقاصد الشرعية، وتنضبط المقاصد بالنصوص في تكامل منطلقه النص الشرعي.

            ومن فساد المنهج أن يعامل علم مصطلح الحديث كعلم قطعي لا ظني اجتهادي، فيخوض فيه الباحث خوضا يغفل اجتهادات أهل هذا العلم، ويتقحم أسواره دون مراجعة أهل التمكن فيه، ويعامل الحديث الضعيف معاملة الحديث الموضوع، وبسيف المقاصد يُضرب فقه الحديث دراية في مقتل.

التديّن والبصيرة

            التديّن الحق هو الذي يجعلك تتورع عن تناول مساحات لست من أهلها، وعنايتك بجعل الدين حاضرا في حياتك وحياة الناس ينبغي أن تقودك إلى أهل التمكن في الفقه تستعين بفقههم ويستنيرون بتخصصك، لا أن تقوم مقامهم ظنا منك أن ثقافتك الدينية العامة تغنيك.


* نشرت المقالة في موقع حجرة ورقة مقص : في 11 رمضان 1444هـ الموافق 2 /إبريل/ 2023م


 https://t.co/UXLYuc6JI6

                                                                            

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] النقل عن الإمام الغزالي في المستصفى بالمعنى، وما كان نص كلام الإمام الغزالي وضعته بين قوسين.

[2] الأدلة الشرعية تنقسم إلى قسمين: أدلة قطعية، وهي التي ثبتت ثبوتا تاما. وأدلة ظنية: وهي ما تطرق إليها الاحتمال، فتشترط شروط مفصلة في الاستفادة منها. ينظر شرح القطع والظن في الأحكام الفقهية في مقالتي بعنوان: في فقه السعةhttp://mudawala.blogspot.com/2020/10/blog-post_19.html.

[3] ينظر نص الفتوى في هذا الرابط: https://aliftaa.jo/QuestionPrint.aspx?QuestionId=859

الاثنين، 2 يناير 2023

قراءة في كتاب ( عن التعب ) لبيتر هاندكه

 نشرت لي اليوم في مجلة الجوبة الثقافية العدد 77 قراءة في كتاب : " عن التعب " لبيتر هاندكه . أرجو أن تحبوا الوقت الذي ستقضونه برفقتها. 

هل أنت بخير؟

        لم أقرأ كتابا جعلني أشعر في رفقته بأنه يطمئن عليّ بشكل شخصي مثل هذا الكتاب، لقد نجح المؤلف: "بيتر هاندكه"[1] في أن يؤنسني بهذا الشعور عبر حديثه الهادئ المشرق.

        كان بيتر هاندكه يحكي عن تعبه الخاص ولكأنه يحكي عن تعب إنساني مشترك، ولقد شعرت بدفء حكاياته، ذلك الدفء الذي نشعر به في صحبة صديق مقرّب نتوحد معه في مشاعرنا، وتغدو قصصنا ذات معنى واحد وإن اختلفت تفاصيلها.

الطيبة والتعب:

        يتحدث بيتر هاندكه عن التعب بوصفة امتيازا لا يهنأ به إلا الطيبون الذين يساندون بعضهم بعضا وهم يخوضون مشاق الحياة لتكون لحظات التوقف المؤقتة زادا روحيا لكل تجليات الألفة والنقاء.

يحكي لنا هاندكه عن التعب الجسدي المشترك الذي جمع أهل قريته –رجالا ونساء وأطفالا-  في مطلع الخمسينات في مواسم الحصاد: " ... ترتعش الركب، فنتهاوى ونترنح، ولكن لم يخل ذلك أبدا من المرح. تجد أيادينا وسيقاننا مخدوشة، وفتات القش يملأ رؤوسنا، ويستقر بين أصابع أيادينا وأقدامنا، أما فتحات أنوفنا – رجالا ونساء وأطفالا- فلم تكن رمادية اللون، بل سوداء يملؤها التراب. هكذا جلسنا بالخارج، تحت شمس الأصيل، نستمتع بنكهة ذلك التعب المشترك... فقد جمعتنا ووحّدتنا سحابة من التعب الأثيري إلى أن تصل الشحنة التالية.". النقل بتصرف.

يقدّس هاندكه هذا التعب الذي " نتحد به وننقى بسببه "، ويجعله هبة عظيمة يحرم منها الفاسدون الذين يأكلون حقوق الناس ظلما، يقول: " ولكن المجرم الذي ينجو بفعلته، لا يجد صعوبة في الخلود إلى النوم في أي وضع ... فهو لا يعرف شيئا عن التعب، فما بالك التعب الذي يوحّد الأفراد؟ ولا شيء في العالم بأسره يمكن أن يجعله يشعر بذلك، إلا إذا تلقى العقوبة التي يستحقها، ولعله يتوق إليها في الخفاء".

وقل ما قاله هاندكه عن الحرمان من لذة التعب، والبذل النقي، والإيثار في كل علاقة إنسانية يختار أحد أطرافها أن يكون شحيحا فلا يؤدي حقا، ولا يصدق في القيام بواجب، وتكون مصلحته الخالصة مدار تصرفاته وإن أضر وآذى غيره.

 إن الذي لا يكلف نفسه تعبا لأجل صون الحقوق محروم من تذوق لذة الشعور بالانتماء، والصلة التي تهب القلب مسرّة التعاطف التي يخص الله بها الطيبين.

الطفولة والتعب:

        افتتح هاندكه سيرته مع التعب بقصة حدثت له في طفولته، فيحكي لنا أنه حضر مع عائلته ذات ليلة قدّاس منتصف الليل في الكنيسة، يقول هانكه إنه شعر حينها بتعب جسدي، لكن هذا التعب لم يكن خالصا بل تخللته مشاعر مرهقة وثقيلة؛ لأنه كان خائفا من أن تكتشف عائلته تعبه فيغادرون اجتماعهم الذي يعظمونه ويحبونه لتعلقه بدينهم، ولأنه ملتقى الأصدقاء والجيران.

وقد حدث ما كان يخشاه هذا الطفل الطيب، وتنبهت عائلته لتعبه، وغادرت الكنيسة، لكن الأمر كان أسوأ مما توقع الطفل؛ لأن عائلته أخذت تلومه على تعبه الذي أفسد عليهم اجتماعهم ولكأنه كان مسؤولا عن خذلان جسده له، فكان لومهم سببا في تضخم شعوره بالذنب، وجثم على قلبه شعور زائد بخذلان عائلته له بعدم إحساسهم بأنه كان يهتم لأمرهم.

قال هانكه: " تسللت مشاعر الذنب إلى إحساسي بالتعب حتى حوّلته إلى ألم شديد. تألمت لأني خذلت عائلتي... تألمت وكأن رأسي مربوط بشريط فولاذي، أو كأن الدم قد انسحب من شرايين قلبي وحتى الآن – أي بعد مرور عدة عقود – ما زلت أشعر بالذنب عندما يراودني الإحساس بالتعب. لكن الغريب في هذه القصة هو أن عائلتي انهالت عليّ بعبارات التوبيخ دون أن يلتفت أي منهم إلى نوبة التعب التي أصابتني.".

تعجُّب هاندكه من موقف عائلته لم يجب عنه الزمن الممتد. يروي هاندكه القصة بعد سنوات طويلة ويصف موقفهم بالغرابة، ولعل موقفهم أربك وجدانه، فكيف يسلبونه بلومهم الأمان وهو يعدّهم ركنه الشديد؟ لقد عجز هانكه -مع هذا التشوش- أن يتبيّن افتقارهم إلى النضج العاطفي.

يقول لنا هانكه - عبر قصته هذه –إن الأطفال لديهم نضجهم الخاص، وأعني بالنضج هنا الإحساس بالمسؤولية تجاه مشاعر الآخرين وحقوقهم. دعونا نتخيّل أن عائلة هاندكه تعاملت بمراعاة مع تعبه لكنها لم تدرك إحساسه بالذنب ولم يتحدث هو عنه، ودعونا نتخيل أيضا أن تعب هاندكه الجسدي كان ملازما له، وسببا في حرمان العائلة من نشاطات تهمها، كيف سيتعامل الطفل مع الشعور بالذنب الذي لم يلاحظه أحد، وما أثر هذا الشعور على اطمئنانه النفسي؟ 

الحب والتعب:

         بعد حديث هاندكه عن التعب الجسدي وآثاره الوجدانية تناول نوعا آخر من التعب، تعب منشؤه النفس لا الجسد؛ إنه تعب الأحبة بعد أن يألفوا المشاعر التي داهمت قلوبهم، كما تألف العين – بعد حين -  النور الذي يباغتها في الظلام.

        يقول هاندكه إن الحب بعد أن تهدأ سَورة البدايات، وتذهب سكرته، قد لا يكون كافيا وحده، وحينها يتنبه الطرفان إلى أنهما يجب أن يناقشا بجدية تفاصيل تتعلق باختلاف طباعهما، وقيمهما، وثقافتهما، وطموحاتهما، وتصورهما عن الحياة المشتركة.

        قد يقتحمهما الإحساس بثقل التعامل مع تعقيدات هذه التفاصيل، وقد يصد –بسببها– أحدهما عن الآخر، لكنهما قد يكتشفان لاحقا مساحات للتقارب، ويرفد الحب العقل بما يمكّنه من صون العلاقة وتنميتها.

        يقول هاندكه: " أريد أن أحكي عن أنواع أخرى من التعب، مثل ذلك التي تتسبب به المرأة، فهو أشبه بالظواهر الفيزيائية، وكأنه نوع من الانشقاق، لا يصيبني وحدي، بل يصيب المرأة أيضا بنفس القدر... ترى الحبيبين يقفان مع بعضهما، أو يجلسان معا، ليفترقا فجأة، بين عشية وضحاها، بلا رجعة... صرنا بعيدين عن بعضنا، صار كل منا غارقا في مشاعر متزايدة من التعب، لكنها مشاعر لا توحدنا، فتعبي أنا هنا، وتعبك أنتِ هناك. يمكن أن نطلق على هذا النوع من التعب اسما آخر، مثل "الفتور" أو "الغربة " لكن كلمة " التعب " تحمل في طياتها معنى " الحمل الثقيل".

        لم أقدر أبدا أن أقول لها: " أنا تعبت منك " ولم تقدر هي كذلك على البوح بتعبها على الرغم من أننا لو كنا أطلقنا تلك الصرخة المشتركة لتحررنا من جحيمنا الفردي. لقد تلبسنا شيطان التعب حتى سيطرت علينا مشاعر الخوف، ولم تنج علاقتنا إلا بعد أن تخلصنا من الخوف. ". النقل باختصار وتصرّف.

        في كلام هاندكه عن الحب والتعب نجده يتنقل بين الحديث عن الأمر بشكل مجرّد وبين تجسيده في حكاية وقعت في سياق معيّن، ولكأنه كان مترددا في أن يبوح بقصته الخاصة، فاختار الجمع بين العام والخاص، وكان أسلوبه فيه تهذيب، وصدق، وتأمل لطيف.

الكتابة والتعب:

        تتصل الكتابة بالتعب، يرافقها وترافقه، تعب حال الكتابة، وتعب بعد الانتهاء منها، إنه تعب ينهك الجسد، لكنه قد يرتقي بالروح، فتصبح أكثر نقاء وإخلاصا لقيمها، ويفتح لها نوافذ جديدة في صلتها بالناس والحياة.  وقد يكدّر تعب الكتابة الروح بالغرور والاستعلاء على من لم ينعم بلذة المعرفة، والغوص في بحرها، واستخراج كنوزه عبر الكتابة.

يقول هاندكه: " احترفت الكتابة، وواظبت عليها زمنا، وعندما أخرج إلى الشارع كنت أشعر وكأنني فقدت صلتي بكل من حولي، وكان انعزالي هذا يفرز بداخلي إحساسا عذبا، لم يكن المجتمع غير متاح لي، بل كنت غير متاح للمجتمع، ولكل من حولي. لقد تحوّلت إلى كتلة من الغرور. صرت شخصا باردا يحتقر الآخرين، ويقلل من شأن المهن الأخرى (التقليدية)، التي لا يمكن أن ترقى إلى مستوى: "التعب الملكي" الذي يتسلل إليّ أثناء تأدية عملي. فبعد الانتهاء من الكتابة، حرصت على أن أظل "ممنوعا من اللمس " وكأني متوّج على عرشي." النقل باختصار وتصرّف.

لم ينقذ هاندكه من لعنة الغرور التي أصابته إلا وقوعه في تجربة قاسية -لم يتحدث عن تفاصيلها-أعادت له إنسانيته، وتوازنه العاطفي، وتواصله المعتدل مع الناس.

بعدها استلهم هاندكه من تعب الكتابة نوعا مختلفا من التواصل مع الناس. يقول هاندكه: " فمع ذلك التعب الذي تصاحبه البصيرة، يحكي العالم قصته دون كلمات، في طيات السكون التام. يقصّها عليّ، ويقصّها على هذا الشيخ الذي يجلس هنا بجواري، ويقصّها على تلك المرأة الجميلة التي تمر من هناك. تتشكل تلك القصص من تلقاء نفسها أمام عيني. " . النقل باختصار وتصرّف.

تجليات التعب :

        ارتحل بنا هاندكه -من خلال سيرته الشخصية -عبر تجليات التعب على أخلاق الإنسان، وقيمه الوجودية، وعلاقاته الأسرية والاجتماعية، ونضجه فكريا ووجدانيا. وقد كانت رحلة ثرية أدبيا وإنسانيا في كتاب لطيف الحجم يبلغ عدد صفحاته ست وخمسين صفحة. وقد قدّمت في هذا المقال قراءة في بعض محطات هذه الرحلة.

 ترجمت الكتاب: د. رضوى إمام، وقد أعجبتني سلاسة لغة الترجمة لولا صعوبات تتعلق بكون بعض فقرات النص مكثفة المعنى، ولعل المترجمة لو بسطت تلك المعاني لتجلّى المقصود منها تجليا تاما.

 ألف هاندكه الكتاب في عام 1989م، وقد نشرت الكتاب مترجما إلى العربية دار صفصافة للنشر في القاهرة  في عام 2020م.

 

 

 

 

       

       

 

 

 



[1] كاتب ومترجم نمساوي، حاصل على جائزة نوبل للآداب للعام 2019.