الخميس، 8 ديسمبر 2011

الحجاب .. أسئلة الثابت والمتغير 4

عودة إلى الحجاب.. لكن تكرما عزيزي القارئ لا بد لك من قراءة الأجزاء الثلاثة السابقة فهي أساس تأصيلي لهذا الجزء ..

الحجاب : مقدّمة مقاصديّة :

قال الله تعالى : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) . ( النور: 31)

لقد اختلف العلماء في بيان المراد من قوله تعالى : ( إلا ما ظهر منها ) إلى أقوال كثيرة ، وكان لا بد لي من غربلة هذه الأقوال، بحيث أقتصر أصالة على ما تصح نسبته منها إلى صاحبه ، ويكون صاحبه من أهل الاجتهاد الذين يصح الأخذ بأقوالهم . وقد وجدت أن الطريق الأسلم في ذلك هو دراسة ما تقرر في المذاهب الأربعة التي نقحت وهذبت وحررت بما يجعل الباحث يطمئن إلى صحة نسبة الأقوال إلى أصحابها في كل مدرسة مذهبية.

لكن قبل الخوض في التفاصيل المحددة لما يجوز للمرأة إظهاره أو عدم إظهاره أمام الأجانب، لا بد لنا أن نفهم تشريع " الستر" في ضوء المقاصد الكلية ، لتشرق عقولنا وقلوبنا بنور الفهم ، الذي يجعلنا أقرب إلى الله عقلا وقلبا.

لقد أمر الله الرجال أولا بغض البصر ، وحفظ الفرج ، وذكّرهم بأنه تعالى خبير بما يصنعون : قال تعالى : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون) ( النور: 30) .

ثم أمر الله تعالى النساء في ذات السياق بذات الأمر غض البصر، وحفظ الفرج ، وزاد على ذلك الأمر بستر بعض الزينة: قال تعالى :( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن) ( النور: 31).

وقال تعالى أيضا في نفس الآية : ( ... ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) .( النور: 31) .

إذن الحض على ستر المرأة بعض زينتها هو جزء من منظومة أخلاقية تتبنى العفاف نفسيا وسلوكيا ، عفاف في النظرة ، وعفاف في التعامل مع الشهوة ، يؤمر به الرجال والنساء معا ، ثم يخص القرآن المرأة بالأمر بمزيد إجراءات عملية بأن أوجب عليها مزيد ستر عن ذلك الذي أوجبه على الرجال ، وهذا الإيجاب حرص القرآن على أن لا تفهمه المرأة مفرغا من مقصده ولذلك قال تعالى : ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) فالستر الذي أمر به القرآن هو سلوك نفسي وعملي معا يحافظ على " العفة " في التعامل مع الجنس الآخر . وذكر الإمام القرطبي في تفسيره أن قوله تعالى : ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) وإن كان ظاهره أنه موجه إلى النساء إلا أن المعنى عام يؤمر به الرجال والنساء معا : قال : " من فعل ذلك منهن فرحا بحليهن فهو مكروه ومن فعل ذلك تبرجا وتعرضا للرجال فهو حرام مذموم وكذلك من ضرب بنعله من الرجال إن فعل ذلك تعجبا حرم فإن العجب كبيرة وإن فعل ذلك تبرجا لم يجز " .

ونفهم أيضا من الآية الكريمة ثم من كلام الإمام القرطبي فهما آخر وهو أن التبرّج المذموم يرتبط أصالة بمقصد الإنسان، ثم سلوكه المتسق مع مقصده، ومهما كان لباسه سابغا فإنه بمقصده وسلوكه يكون متبرّجا تبرّجا مذموما .

كما أن القرآن في سورة الأحزاب – وقد نزلت قبل سورة النور- ينبه على أن أمر المرأة بالستر هو لأجل أن توصل عبر لباسها رسالة أخلاقية تحدد سلوك الرجل معها ، ولا زلت أتعجب من دقة التعبير القرآني : ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) ( الأحزاب : 59).

إذن أمر المرأة بستر بعض زينتها هو أقرب من عدم الستر في إيصال الرسالة الأخلاقية التي أراد الإسلام للمرأة تبنيها.

ولكن هنا لا بد لنا من ملاحظة أمر مهم ، وهو أن القرآن لم يجعل الستر وحده هو شعار العفة ، فالتعميم الذي يطلقه بعض الناس من أن عدم الستر يدل على عدم العفة يرده ظاهر النص القرآني : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) ( الأحزاب: 59) فالقرآن يجعل إدناء الجلباب هو الوسيلة الأقرب – وليست الوسيلة الوحيدة - إلى تمييز العفيفة ومن ثم احترام عفتها وعدم التعرّض لها . بل إن القرآن في سورة النور بعد ذلك نبّه –كما تقدّم-على أن الستر قد يفرّغ من مضمونه الأخلاقي ودلالته على العفة إذا صحبه سلوك ينافيها : ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) . ( النور: 31) .

وهنا ترد أسئلة : إذا كان الستر وسيلة تظهر من خلالها المرأة الموقف الأخلاقي الذي تتبناه من عفة داخلية ، فهل هذه الوسيلة ملزمة ؟ وهل تحقق المقصد من دونها يعفي المرأة من الالتزام بهذه الوسيلة ؟

والجواب -من خلال دراستي لكلام أهل العلم- : نعم هذه الوسيلة ملزمة بشرطين :

الشرط الأول :

أن لا يكون الالتزام بالوسيلة سببا في انتفاء المقصد الذي شرعت من أجله . فإذا كان الستر وسيلة إلى الإيذاء والتحرش كما في بعض المجتمعات الأروبية المتطرفة فهنا لا معنى للالتزام بهذه الوسيلة إلا بالقدر الأدنى الذي يحافظ على الهوية ولا يناقض المقصد .

الشرط الثاني :

أن يكون الالتزام بالوسيلة يتواءم مع مقاصد كلية تفوقها رتبة . وهذا الشرط ينضوي تحت عظمة التعبير القرآني : ( إلا ما ظهر منها ) . وبيان ذلك : أن ممارسة الحياة إنتاجا وعملا وفعلا للخير هو حق وواجب إنساني وشرعي يشترك فيه الرجال والنساء معا، ولا يمنع المرأة من هذا الحق المسؤولية المادية تجاهها من قبل الزوج مثلا فهذه المسؤولية هي في سياق خاص لا يحجر على المرأة حقها في ممارسة الحياة داخل أو خارج المنزل وفقا للمنظومة الأخلاقية التي يؤمر بها الرجال والنساء جميعا عفافا واستقامة . وفي ظل هذا الفهم من أن حق المرأة في المشاركة المجتمعية هو " حق أساسي" فإن هذه المشاركة ينبغي أن لا يرتبط بها ما يجعلها عسرة ، شاقة .

فالستر هو " وسيلة " يراد منها أن تكون "رسالة أخلاقية" لا "قيدا" يحول بين المرأة وبين ممارسة حياتها بيسر ومن ثم جاء التعبير القرآني: ( إلا ما ظهر منها) أي دعت العادة والحاجة إلى إظهاره بما يحقق الرسالة الأخلاقية ولا يضاد مقصد الشريعة في رفع الحرج لا سيما أن الستر هو في أدنى مراتب الكليات، والمقاصد التي جاء الشرع بتحقيقها- كما في الموافقات وغيره-، ومقصد رفع الحرج يفوقه رتبة.

فالستر مطلب تحسيني، وهو من التحسينات الواجبة ، ورفع الحرج مطلب حاجي يعد في المرتبة الثانية من مراتب المقاصد الكلية . وتكتمل الصورة إذا ما ذكرنا ما قرره العلماء – كما في الموافقات وشرح الكوكب المنير- من أن غض البصر مكمل للضروري ، فإلزام المرأة بالستر إذن هو من حيث حض الشرع عليه ، وعنايته به ، يأتي في مرتبة ثالثة بعد مسؤولية الرجل في غض البصر عنها ، الذي يمثل التعامل بعفة معها .

لدينا إذن ثلاثة مسائل مرتبطة ببعضها ، وهي في مراتب كلية متفاوتة من حيث تحقيق مقاصد الشريعة :

1.الأمر بغض البصر كمكمل للضروري .

2.ورفع الحرج كمطلب حاجي.

3. الستر كمطلب تحسيني .

فإذا ما أردنا أن نواءم بين هذه المقاصد فلا ينبغي أن يجور المقصد الثالث على المقصدين الأوليين بل يكون متأخرا عنهما ومن ثم لا تؤمر المرأة بستر يحول بينها وبين الممارسة الحياتية الميسرة ولا تؤمر المرأة بستر تتحمل فيه مسؤولية الرجل عن غض بصره والتعامل بعفاف مع شريكاته في المجتمع ، والتهاون في ذلك يضعف حس الرجل تجاه مسؤوليته الأخلاقية ، ويخل بالبناء الأخلاقي الذي جاء به الإسلام .

ولا يمكن –عندي- فهم كلام العلماء في موضوع الستر، وما يجوز للمرأة كشفه أمام الأجانب إلا في ضوء هذه المقدّمة المقاصدية ، وتغييبها هو تغييب لروح النصوص الشرعية دليلا أو تأويلا.

الحجاب: تجليات المقصد فقهيا:

الواقع أن المذاهب الثلاثة المذهب المالكي ، والمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي ، لا إشكال في دراستها من حيث الأقوال السائدة في مجتمعنا المعاصر، فالأقوال التي قررها أصحاب هذه المدارس الثلاثة لا تخرج عن جواز إظهار الوجه والكفين والقدمين أو المنع من ذلك .

الإشكال هو في تعدد الأقوال في المذهب الحنفي ، ووجه الإشكال هو المفاجأة التي يواجهها الباحث المبتدئ عندما يجد أن السائد فقهيا واجتماعيا ليس هو كل الفقه ، وأن في المسألة فقه جديد ضاع بين تشدد المتشددين وتساهل المتساهلين، ويحتاج إلى دراسات اجتماعية عن ثقافة الستر في المجتمعات الإسلامية عبر العصور وارتباطها بطبيعة المجتمع ثقافيا وبيئيا وطبيعة الدور الاجتماعي للمرأة ..

هذا الفقه يتمثل في ثلاثة أقوال نجدها في المذهب الحنفي ليست هي معتمد المذهب، وهي تتفاوت في قوتها وفقا لقواعد المذهب الحنفي في الترجيح ، لكن كلها يصلح للأخذ بها إذا أفتى بها عالم معتبر، ولا يصح أن تأخذ المرأة بها مباشرة دون تدارس المصلحة والمفسدة مع عالم معتبر .

القول الأقوى من هذه الأقوال هو ما ذهب إليه الإمام أبو يوسف من أن الذراع – وهو كما في لسان العرب: ما بين طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى – ليست عورة . قال الإمام ابن عابدين : " وعن أبي يوسف يباح النظر إلى ساعدها ومرفقها للحاجة إلى إبدائهما إذا أجرت نفسها للطبخ والخبز . وجواز النظر ليس خاصا بوقت الاشتغال بهذه الأشياء بالإجارة .

وتنصيص الإمام ابن عابدين هذا يدفع ما قد يتبادر من أن القول بجواز كشف الذراع عند أبي يوسف مختصا بحال معينة بل الأمر عنده على إطلاقه .

والقول بأن الذراع ليس عورة هو قول صحيح في المذهب الحنفي وإن كان خلاف المعتمد لأن القاعدة عندهم أن مقابل الأصح صحيح وقد نقل هذا القول الإمام السرخسي في المبسوط وكان من شرط كتابه أن يكتفي في كل باب بما هو معتمد فيه. وقد اختار الإمام الموصلي -وهو من أئمة الحنفية المعتبرين في التدريس والفتوى – القول بأن الذراع ليس عورة وقال في كتابه الاختيار: وستره أفضل.

وهذا القول يعضده ما روي عن السيدة عائشة من أن السوار من الزينة الظاهرة كما في مصنّف الإمام ابن أبي شيبة قال : عن عائشة : القُلب والفتخة . ومعنى القُلب: السوار.

والحنفية ينصون على أن السوار زينة الذراع قال الإمام النسفي الحنفي في تفسير قوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن ) الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب والمعنى: ولا يظهرن مواضع الزينة إذ إظهار عين الزينة وهي الحلي ونحوها مباح فالمراد بها مواضعها أو إظهارها وهي في مواضعها لإظهار مواضعها لا لإظهار أعيانها ، ومواضعها الرأس والأذن والعنق والصدر والعضدان والذراع والساق، فهي للإكليل والقرط والقلادة والوشاح والدملج والسوار والخلخال." اهـ.

قال الإمام الزمخشري في الكشّاف :" فإن قلت : ما المراد بمواقع الزينة ، ذلك العضو كله أم المقلد الذي تلابسه الزينة منه ؟ قلت : الصحيح أنه العضو كله كما فسّرت مواقع الزينة الخفية ، وكذلك الزينة الظاهرة الوجه موقع الكحل.." .

وقال الإمام الموصلي في الاختيار: " ولو انكشف ذراعها جازت صلاتها لأنها من الزينة الظاهرة وهو السوار وتحتاج إلى كشفه في الخدمة كالطبخ والستر أفضل." . اهـ.

أقول : من قال إن الحاجة تدعو إلى كشف الذراع ومن ثمّ عدّ الذراع من الزينة الظاهرة فهو ينطلق في تأصيله لقوله هذا من قاعدة أن الحاجة إذا عمّت نزلت منزلة الضرورة الخاصة ومن ثم يباح بسببها ما أصله المنع .

فالرخصة التي تنشأ عن الحاجة العامة إما أن تكون رخصة مؤقتة وإما أن تكون من باب العزائم ويطلق عليها رخصة من قبيل المجاز لكونها أبيحت خلافا للأصل وهو المنع كما في إباحة الإجارة .

ومن قال إن الذراع يباح كشفه للحاجة فهو يعدّ هذه الحاجة حاجة أصلية من قبيل العزائم لا من قبيل الرخص كما هو واضح من نص حاشية الإمام ابن عابدين الحنفي ونصه:(... وعن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ساعدها ومرفقها للحاجة إلى إبدائهما إذا أجرت نفسها للطبخ أو الخبز... والمتبادر من هذه العبارة أن جواز النظر ليس خاصا بوقت الاشتغال بهذه الأشياء بالإجارة بخلاف العبارة الأولى ( وهي قول المتن: قيل : والقدم والذراع إذا أجرت نفسها للخبز) . وعبارة الزيلعي أوفى بالمراد وهي: وعن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ذراعها أيضا لأنه يبدو منها عادة اهـ فافهم ) اهـ كلام الإمام ابن عابدين .

فتنصيص الإمام ابن عابدين هذا يدفع ما قد يتبادر من أن القول بجواز كشف الذراع عند الإمام أبي يوسف مختصا بحال معينة ، بل الأمر عنده على إطلاقه.

إن الحاجة التي تبيح كشف الذراع عند أبي يوسف هي من قبيل الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة في الإباحة ، فتصير الإباحة التي تتصل بها إباحة أصلية ، فلأجل ذلك يقال باعتبار الحاجة هنا ولا يقتصر الحكم المرتبط بها على من تحتاج إلى إبداء ذراعها بل يعم جميع النساء كما في إباحة الإجارة لأنها حاجة أصلية عامة تؤول إلى الضرورة في اجتهاد أصحاب هذا القول.

وهذا التفصيل الذي قدّمته يبرز بوضوح ما قررته في المقدّمة المقاصدية لتشريع الستر من كونها تتواءم مع تحقيق مقاصد كلية تفوق الستر رتبة وهي مقصد العفة المتمثل في جعل غض البصر من مكملات الضروري بما يحمّل الرجل مسؤوليته الأخلاقية تجاه شريكته في المجتمع ، ومقصد رفع الحرج لمزاولة الإنسان ذكرا أو أنثى حياته بما لا يخل بحقه في حياة لا يكتنفها العسر ولا تكبلها المشقة .

وهذا كله مع كوني لا أقرر ترجيحا لهذا القول ، وإنما المقام هنا مقام المباحثة العلمية التي هي الوسيلة الأمثل لوضع هذه المسألة ( مسألة الستر) في سياقها الصحيح أخلاقيا وثقافيا بعيدا عن التضخيم والتهويل بما يقضي على أولويات شرعية تتقدّمها.

القول الثاني :

الشعر المسترسل ليس عورة . والمراد بالشعر المسترسل هو ما نزل إلى الأسفل من الأذنين . وهذا القول صححه من هو أهل للتصحيح- وهو الإمام في الأصول والفروع الصدر الشهيد : عمر بن عبد العزيز بن عمر – وورد مقابله بلفظ الصحيح. وهو قول تدنو مرتبته وفقا لقواعد المذهب الحنفي عن القول بأن الذراع عورة، وهو قول مقابل لصحيح المذهب من أن الشعر جميعه عورة . ولا بد من التنبيه هنا على أن ما هو مقرر في المذهب الحنفي من أن مقابل الصحيح فاسد هو في قول لم يصحح وهذا لا يجري في مسألتنا هذه. وقد نقل هذا القول الإمام ابن القطان في كتاب : النظر في أحكام النظر بحاسة البصر ، ونسبه إلى الإمام أبي حنيفة ، ولم يرجحه.

ووجهة هذا القول أن الأمر جاء بتغطية الرأس بالخمار والذي يفهم من قوله تعالى : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن) ، والشعر المسترسل عند أصحاب هذا القول ليس من الرأس فلا تجب تغطيته ويرتبط بهذا القول بناء فقهي يتعامل مع الشعر المسترسل تعاملا يرتبط برفع الحرج كما في كونه لا يجب غسله في الغسل الواجب.

القول الثالث :

هو أن الساق ليست عورة ، وهذا القول ورد في كتاب الفتاوى الهندية وهو كتاب معتبر للفتوى في المذهب الحنفي، لكن لم يُذكر صاحب هذا القول . وقد تقرر أن ما ورد في كتاب الفتاوى الهندية من أقوال هي أقوال تصلح للفتوى بها .

لم أجد بيانا لمستند هذا القول عند الحنفية لكن ما فهمته من روح كلامهم أن اعتماده مستند إلى حاجة ظاهرة، ولعل ذلك مرتبط بطبيعة البيئة في مجتمع الفقيه الذي أفتى بهذه الفتوى. هذا مع كون الإمام الشوكاني نقل في تفسيره عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والمسور بن مخرمة أن الخضاب إلى نصف الساق من الزينة الظاهرة ، وقد كان من شرط الإمام الشوكاني في تفسيره تحقيق النقولات الواردة فيه. فإذا جرينا على قاعدة الحنفية من أن جواز إظهار زينة عضو ما تدل على جواز إظهار العضو كاملا لا ما لا بس الزينة منه فيكون ما ذهب إليه من قال إن الساق ليس عورة تعضد ذلك عنده برواية سيدنا ابن عباس. ولعل قوله تعالى ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) يدل عندهم على أن زينة الساق وهي الخلخال الأصل فيها الإظهار لذلك قال تعالى : ( يخفين ) .

وهذا كله عندي مرجوح ضعيف لا راجح لكنه يصب في الفهم المقاصدي الذي ترجح عندي وهو أن ما يجب على المرأة ستره وما يحمله دلالات أخلاقية هو ما لا يتعارض مع حقها في ممارسة حياتية غير عسرة عسرا يؤول بها إلى " انقطاعها عن تصرفاتها " كما عبّر إمام الحرمين في نهاية المطلب حين قال إن ضابط الحاجة العامة التي يصح اعتبارها مع النص هي الحاجة التي إذا لم تراع لخيف انقطاع الناس عن تصرفاتهم ، وفي ضوء هذا الفهم يأتي اختلاف تقدير الفقهاء لمستوى الحاجة ، وطبيعة المشقة التي تحدد طبيعة الستر الواجب الذي هو دلالة على موقف أخلاقي يتبنى العفة ثقافة وسلوكا.

وفي الجزء القادم سأتكلم بحوله تعالى عن ثقافة الستر والاجتهاد الفقهي الذي ينحو إلى وجوب تغطية المرأة جسدها كاملا ، كما سأتناول بالتحليل الأصولي والفقهي ما نقله الإمام ابن عاشور في تفسيره- بصيغة التضعيف ولم يرجحه- من أن الشعر ليس عورة . والله الموفق والمستعان.

الاثنين، 21 نوفمبر 2011

بين يدي الثبات والتغير : الحكم الفقهي الظني.

الحكم الفقهي الظني

1. إذا اختلف العلماء المؤهلون أو بعبارة أخرى إذا اختلف المجتهدون في دلالة دليل ما فإن هذا يدلنا على أن دلالة الدليل ليست قطعية إذ لو كانت قطعية لما اختلف المجتهدون فيها .

2. هذه الطريقة للتعرف على منزلة الدليل من حيث دلالته هل هي دلالة قطعية أو ظنية هي التي تتسق مع أمرين أحدهما احتمالية اللغة والثاني أمر القرآن الكريم بسؤال أهل الذكر .

3. ليس معنى كون الدليل محتملا لأكثر من معنى – من حيث الدلالة- أن يكون هذا الدليل متاحا لكل أحد ليتبنى ما يراه مناسبا له من معنى محتمل . لأن التعامل مع الدليل الشرعي هو عمل يحتاج إلى التأهيل اللغوي والشرعي ، ولا عبرة بحكم احتمل الدليل الظني الدلالة عليه ما لم يرجحه من هو أهل للاجتهاد والترجيح . فأهلية الاجتهاد- كما قال الإمام القرافي في نفائس الأصول- تجعل الناظر في الدليل متكيفا بأخلاق الشريعة ، ينبو عقله وطبعه عما يخالفها. وكما قال الإمام العز بن عبد السلام في القواعد الكبرى : " ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها ، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها نص ولا إجماع ولا قياس خاص ، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك . ومثَل ذلك أن من عاشر إنسانا من الفضلاء الحكماء العقلاء، وفهم ما يؤثره في كل ورد وصدر، ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة، لم يعرف قوله فيها ، فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عاداته أنه يؤثر تلك المصلحة ، ويكره تلك المفسدة". ومما لا يخفى أن الترجيح يرتبط بتحقيق المقاصد والمصالح التي جاء الشرع باعتبارها.

4. ينبغي أن نفرّق بين قطع المجتهد بترجيح إحدى دلالات الدليل وبين القطع بدلالة الدليل .فالقطع بترجيح إحدى دلالات الدليل هو قطع نسبي ، وهو ملزم لصاحبه ، وليس ملزما لمجتهد آخر قطع بترجيح دلالة أخرى من دلالات الدليل . أما القطع بدلالة الدليل فهذا مجاله الحكم الفقهي القطعي الذي لا يختلف العلماء في تقريره . ولا يصح أن يخلط بين القطع النسبي والقطع المطلق . وبالتالي لا يصح أن يتم التعامل مع الحكم الفقهي الظني كتعاملنا مع الحكم الفقهي القطعي .

5. مسؤولية غير المجتهد تجاه انتفاء القطع ، وتعدد الترجيحات في المسألة الواحدة أن يراجع مفتيا مؤهلا يفتيه في المسألة بما يناسب حاله، وأن يكون أمينا في بيان حاله للمفتي ليحصل التعاون بينهما على إقامة شرع الله عز وجل دون حرج أو عنت على وصف التقوى.

6. مسؤولية المفتي أن يبين للمستفتي جميع الأقوال في المسألة الواحدة ويتدارس معه مآلات الأقوال من حيث الحال الخاص للمستفتي مصلحة ومفسدة .

بين يدي الثبات والتغير: الحكم الفقهي القطعي .

الحكم الفقهي القطعي:

1. هو الحكم الذي دل عليه دليل قطعي من حيث نسبته إلى مصدره ومن حيث دلالته .

2. مثاله : تحريم أكل الميتة المستفاد من قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة ) . هذا حكم فقهي قطعي لأن دليله نسبته إلى مصدره قطعية أي ثابتة لا يتطرق إليها الاحتمال ، كما أن المعنى الذي يدل عليه الدليل هو معنى واحد ثابت لا يقبل الاحتمال وهو تحريم أكل الميتة.

3. الثبات المرتبط بالحكم الفقهي القطعي هو ثبات من زاوية معينة وهي زاوية تقرير الحكم كقانون أو كقاعدة ، فتحريم أكل الميتة هذا قانون شرعي ثابت . لكن الحكم الفقهي القطعي لا يكون ثابتا من زاوية أخرى وهي زاوية ارتباطه بواقع الإنسان المتغير بمعنى أن الحكم القطعي شرعه الله لفائدة الإنسان ، وبالتالي فإن الحكم الفقهي القطعي لا يتعالى على ضرورات الإنسان لكنه يستوعبها فهو يظل ثابتا ما دام مرتبطا بالأحوال الاعتيادية فإذا جاءت أحوال استثنائية مهما كانت هذه الأحوال فردية أو عامة ، في مدى زمني قصير أو طويل فإن الحكم الفقهي القطعي يعترف بها ولا يتجاهلها ويفسح لها الطريق رافعا الشقاء عن حياة الإنسان .

4. يجب أيضا أن نتنبه إلى أن الحكم الفقهي القطعي من زاوية قطعيته وثباته ينتمي إلى مظلة كبرى إن صح التعبير وهي مظلة القواعد الكلية التي تشكل مقاصد الشريعة فيصح أن نقول أن تحريم أكل الميتة مقصد كما أن مراعاة الضرورات مقصد . وحيث إن الشريعة لا تضاد فيها فإنه لا بد أن نوائم بين المقاصد القطعية ولا نقع في ضرب المحكمات بعضها ببعض ومن ثم إذا كان تحريم الميتة يتعارض مع ضرورة الحياة فتقدّم ضرورة الحياة في هذه الصورة ، ويحل أكل الميتة استثناء مراعاة لقاعدة قطعية أخرى وهي مراعاة الضرورات.

5. وبعبارة جامعة نقول إن الحكم الفقهي القطعي ثابت لا يتغير بتغير الزمان بل باختلاف الصورة الحادثة . هذا تعبير مقتبس من كلام الإمام الزركشي في البحر المحيط . ويمكن أن نعبّر بتعبير آخر اقتبسته من كلام الإمام الشاطبي وهو أن الحكم الفقهي القطعي ثابت من حيث الاقتضاء الأصلي للدليل وهو الاقتضاء المجرد عن العوارض التي ترتبط بالواقع إذ أن التنزيل على الواقع يجب أن يوازن بين الأحكام الفقهية القطعية -التي تنتمي إلى القواعد القطعية الكلية – وبين بقية القواعد القطعية الكلية مثل : لا ضرر ولا ضرار، والضرورات تبيح المحظورات، والأعمال بمقاصدها بما يحقق المصالح المعتبرة شرعا.

6. الأحكام الفقهية شرعها الله لتحقيق مصالح العباد . ومصالح العباد قد تكون مصالح ضرورية لا استقامة لحياتهم بدونها وقد تكون مصالح حاجية لو لم تراعى لوقعوا في حرج شديد وقد تكون مصالح تحسينية مراعاتها تجعل الحياة مكتملة الاستقرار .

7. الأحكام الفقهية القطعية قد تكون ضرورية كما في تحريم قتل النفس ، أو قد تكون حاجية كما في تشريع حد القذف ، أو قد تكون تحسينية كما في وجوب ستر العورة .

8. هذا التقسيم فيما أفهم يفيدنا في ترتيب الأولويات المرتبطة بالأحكام الفقهية القطعية في الواقع الحياتي . كما أنه يرتبط بقضية وزن الذنب فالإخلال بالتحسيني ليس في رتبة الإخلال بالضروري.

9. لكن هذا التقسيم ليس محله الموازنة بين المصالح الطارئة والأحكام الفقهية القطعية . ففي هذه الحالة نحن نتعامل مع الرؤية الكلية التي قررها الدين لصلاح حياة العباد وحينها ترتقي الأحكام الفقهية الحاجية والتحسينية لتصبح ضرورية والمصالح الطارئة عليها إن لم تكن في رتبتها فلا يصح اعتبارها .

10. من المهم التأكيد عليه أن تقدير الضرورات هو أمر اجتهادي يختلف باختلاف نظرة المجتهد كما أنه عملية تفاعلية يشترك فيها المجتهد والفرد أو المجتمع بمؤسساته المختلفة .

11. الضرورات قد تكون كذلك باعتبار مآلاتها . فقد يكون الأمر ضروريا باعتبار تراكمي ومن ثم فهذه الضرورة المآلية ترقى إلى الموازنة بينها وبين الحكم الفقهي القطعي.

12. إذا كانت الضرورة مرتبطة بالمجتمع فيتغير الحكم الفقهي القطعي في حق ذلك المجتمع -وهو تغير باعتبار الاقتضاء التبعي للدليل لا الاقتضاء الأصلي للدليل- ولا اعتبار للأحوال الفردية وكذلك لا اعتبار لطول الزمان وإنما العبرة بانقضاء الضرورة . تراجع هذه المسألة في كتاب الغياثي للإمام الجويني، و كتاب القواعد الكبرى للإمام العز بن عبد السلام، وكتاب صناعة الفتوى وفقه الأقليات للعلّامة عبد الله بن بيه.