الاثنين، 12 سبتمبر 2011

الثابت والمتغير .. حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل .. مذهب الشافعية (4) *

المطلب الثالث: مذهب الشافعية في حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل

الكلام على مذهب الشافعية في هذه المسألة ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: تقرير ما ورد في كتب المذهب من أحكام:

يقرر الشافعية أن من مقتضى عقد الزوجية هو تمكين الزوج من الاستمتاع في جميع الوقت إلا ما كان واجبا على الزوجة قبل النكاح فلا حق للزوج في زمانه[1]، ويستثنى من حق الزوج في وقت زوجته أمران:

أحدهما: الواجبات الشرعية كأوقات الصلوات المفروضة، ووقت الصيام المفروض[2].

الثاني: الواجبات التي تجب على الزوجة تجاه آخرين ، كما لو التزمت بعقد عمل سابق على عقد النكاح، فوقت العمل ليس حقا للزوج ، وليس للزوج منعها من عمل التزمت به قبل النكاح[3].

واختلفوا: هل تسقط نفقتها إذا كانت تعمل أم لا تسقط نفقتها على وجهين:

أحدهما: أن نفقتها تسقط و به قال الإمام الماوردي، واقتصر عليه الإمام النووي في روضة الطالبين[4].

والثاني: لا تسقط نفقتها وصرّح به الإمام الشيرازي في المهذب.

فإن انتهى عقد عملها ، صار وقت العمل من حق الزوج [5].

وقد نصوا على أن للزوج أن يمنعها من عمل داخل المنزل إذا كان هذا العمل سيحول بينه وبين الاستمتاع بها ، من حيث كونه سيستحي أن يأخذها من بين من تعمل معهن ليقضي وطره[6].

وبناء على ما تقدم فإن حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل هو حق يكاد يكون مطلقا إلا لعذر، وقد نصوا على الأعذار المعتبرة عندهم، وهي أعذار في منزلة الضرورة أو الحاجة التي تقترب منها ، وهي ستة أعذار:

أحدها: خروجها لأداء فريضة الحج فليس له منعها من هذا الخروج في مقابل الأصح[7]. والأصح أن للزوج منع زوجته من الخروج لحج الفريضة [8].قالوا: لأن حق الزوج على الفور والحج على التراخي فقدّم ما كان على الفور[9].

الثاني: خروجها لتعلم علم ديني هو فرض عين عليها، ولم يغنها زوجها أو محرمها عن الخروج، قالوا: إنها لو أرادت الحضور لمجلس علم لتستفيد أحكاما تنتفع بها من غير احتياج لها حالا، أو الحضور لسماع الوعظ فلا بكون عذرا.

الثالث: خروجها إلى القاضي لتطلب حقا لها.

الرابع: خروجها إذا خافت على نفسها أو مالها من فاسق أو سارق.

الخامس: خروجها إذا هددها الزوج بأن يضربها ضربا لا حق له فيه.

السادس: أن يرغمها ظالم على الخروج من المنزل[10].

أما زيارة الزوجة لوالديها أو محارمها فضلا عن غيرهم فلا بد فيه من إذن الزوج أو اعتبار العرف الدال على رضا أمثاله إلا إذا علمت أنه لا يأذن لها بالخروج فلا تخرج[11].

وقالوا إن الزوج يستحب له أن لا يمنع زوجته من الخروج لعيادة أبويها إذا مرضا لأن ذلك ربما أدى إلى العداوة بينهما[12].

والقسم الثاني: قراءة تأصيلية في مذهب الإمام الشافعي في المسألة:

يبدو مذهب الشافعية أكثر المذاهب توسيعا لسلطة الزوج سوى الاستثناءات الضيقة التي نصّوا عليها، ولم يتضمن هذا المذهب – فيما بحثت- ولو أقوالا أو اجتهادات تقابل المعتمد في المذهب وتضيق من سلطة الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل إلا أني وجدت كلاما لإمام الحرمين في البرهان يفهم منه ملمح مهم يلقي الضوء على قراءة تأصيلية لمذهب الشافعية تؤكد على رعاية هذا المذهب للبعد المقاصدي.

ناقش إمام الحرمين في البرهان ما سماه " مغمضات من قضايا الأصول"، كقول الشافعية إن المعاشرة الجسدية هي حق للزوج ولا حق للزوجة فيها إلا على سبيل الندب، ثم ذكر أن هذه الأحكام جاءت للمعظمين للشريعة ، الملتزمين بأحكامها. ونص ما قاله إمام الحرمين هو: "... فقالوا: الأصول إذا تمهدت على قواعدها ، واسترسلت على حكم العرف المطرد فيها، فلا التفات إلى ما يشذ ويندر وضربوا لذلك أمثلة مبنية على مغمضات من قضايا الأصول.

منها: أن النكاح شرع لتحصين الزوجين من فاحشة الزنا وغيره من المقاصد، والحرة محتاجة إلى التحصين بالمستمتع الحلال كالرجل، ثم حق عليها أن تجيب زوجها مهما رام منها استمتاعا، ولا يجب على الرجل إجابتها، وغرض الشارع في تحصينهما على قضية واحدة، ولكن لما خص الرجل بالتزام المؤن والمهر والقيام عليها، اختص بالاستحقاق، ومنه الاستيلاء والملك، فاكتفى الشارع في جانبها باقتضاء جبلة الرجل الإقدام على الاستمتاع. والأمر مبني على أحوال الملتزمين الشريعة والمعظمين لها."[13] اهـ.

يبين لنا إمام الحرمين الجويني في النص السابق أن الغريزة هي التي ستدفع الرجل لتحصين زوجته فلا يحتاج ذلك إلى تشريع يوجب عليه ذلك،ويقول أيضا إن القول بأن الزوجة لا حق لها بمطالبة زوجها بالمعاشرة الجسدية مبني على أحوال الملتزمين بالشريعة والمعظمين لها وهؤلاء – كما يقتضي كلامه- لن يضروا زوجاتهم، ويمنعوهن حقوقهن المندوبة.

ويبدو كلام إمام الحرمين للوهلة الأولى عجيبا جدا لأن المتبادر أن الأحكام الفقهية جاءت كقوانين تصلح بها حياة الناس جميعا ، تعين صالحهم على مزيد من الصلاح، وتستوعب من كان دون ذلك ، وتضبط جموح النفوس بلجام الأحكام التي ترسي العدل والإنصاف ، وقد كنت أتعجب لكلام إمام الحرمين ولا أقبله ، ثم إني وجدت بعد تأمل أن كلام إمام الحرمين هو أقرب لواقع يتسم بالتغير، فحيث تزعزت الأوضاع الاجتماعية، وعم تراجع الأخلاقيات النبيلة بين الناس ، كان فتح مجال النظر والاجتهاد المستضيء بنور النصوص والمقاصد الشرعية لتقرير أحكام تلائم واقع الناس بحسب ما يستجد في حياتهم ، وما يطرأ على أخلاقهم وأحوالهم ، وأجد أن كلام إمام الحرمين يفتح باب فقه الرخصة بمعناها الأصولي، لتتقرر أحكام جديدة في ضوء الوقائع الجديدة ، ليؤول مذهب الشافعية في المسألة إلى مذهب الحنفية، ويصبح فساد الزمان سببا لتغير الأحكام ، وتقييد سلطة الزوج في منع خروج زوجته من المنزل على ما تم الكلام عنه عند تناول مذهب الحنفية والله أعلم.

وقد قيّد النص القرآني سلطة الزوج بعدم الإضرار، قال تعالى: ﭚﭛ (الطلاق:٦) وتقدير الضرر يختلف باختلاف الأزمان والبيئات والأحوال، ولعل تفعيل الاستفادة من العلوم الاجتماعية لخدمة المقاصد الشرعية هو الذي يصلح به عصرنا ، وتتحقق به العدالة التي بها جاءت الشريعة. والله أعلم.

* كافة الحقوق محفوظة


[1] انظر: المهذب مج2/ ص 160.

[2] انظر: النجم الوهاج في شرح المنهاج مج8/ ص 260.

[3] انظر: أسنى المطالب في شرح روض الطالب مج3/ ص 436.

[4] انظر: روضة الطالبين مج9/ ص 62.

[5] انظر: أسنى المطالب في شرح روض الطالب مج3/ ص 436.

[6] انظر: تحفة المحتاج بشرح المنهاج المطبوعة مع حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي مج 10/ ص 598، وينظر أيضا: حاشية إعانة الطالبين مج4/ ص 95.

[7] انظر: مغني المحتاج مج1/ ص 682.

[8] انظر: مغني المحتاج مج1/ ص 682.

[9] انظر: المجموع شرح المهذب مج8/ ص328.

[10] تنظر هذه الأعذار في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج مج7/ ص 206، وحاشية علي الشبراملسي على نهاية المحتاج المطبوعة معه مج7/ ص 206.

[11] انظر: حاشية الجمل على شرح المنهج مج7/ ص 316 ،317، 318.

[12] انظر: البيان مج9/ ص 501.

[13] البرهان مج1-2/ ج2/ ص 75.

ليست هناك تعليقات: