الاثنين، 26 فبراير 2007

الغناء الصنعاني .. طب النفوس

بعيدا عن الفقه (ليس تماما) أدرج هذه المقالة التي نشرت لي في مجلة القافلة السعودية ، وما أدرجه هو المقالة الأصلية ، وقد نشرت في القافلة مع حذف فقرات منها وقد لونت المحذوف بلون غامق
جان لامبير .. الباحث الفرنسي عاشق صنعاء في " سوق الملح " – بكسر الميم وتسكين اللام - الشهير ببيع التوابل ، أحد أشهر الأسواق القديمة في صنعاء ، قد تصادف الباحث الفرنسي : د. جان لامبير يعزف على عوده الصنعاني " الطربي " ذي الأوتار الأربعة :" صادت فؤادي " أو " رسولي قم " أو سواهما من الكلمات التراثية الأصيلة ، ولكأنه يبغي أن يقدم شاهدا زائدا على الشاهد العمراني يعيد للأذهان التسمية القديمة لهذه السوق " الملح " بضم الميم وفتح اللام ، أي سوق كل مليح ، كما ورد في كتاب الإكليل للمؤرخ محمد بن الحسن الهمداني. في أواخر الثمانينات قدم الباحث الفرنسي الدكتور جان لامبير إلى صنعاء ، للتحضير لأطروحته لنيل درجة الدكتوراه في الموسيقى اليمنية ، فكان ارتباطه العشقي بالغناء الصنعاني في خطين متوازيين ، خط عام يركزعلى البحث والتوثيق ، وخط خاص في التدرب على الأداء ، وقد أفلح في الثاني بعد جهد ومثابرة ، وكان هدفه كما يقول هو تحصيل السكينة ، عندما تكتنفه آلام الحياة ، وتناله قسوتها. وهو في خطه الخاص هذا لا يدعي احترافا بل يمارس ارتباطه الوجداني بهذا الفن ، وقد يشرك فيه آخرون في سوق صنعاء أو في الاجتماع الشهري الذي يعقده صديقه الفنان اليمني يحى النونو داعيا فيه عشاق الفن والأدب اليمنيين منهم والأجانب التقنية والتراث سنوات من البحث والتوثيق لعيون الموشحات والأغنيات والإنشاد الديني ، أثمرت حديثا إنشاء المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية ، فتولي الباحث الدكتور لامبير رئاسته منذ العام 2003م ليحرص على أن تسهم في التوثيق التقنية العالية من أسطوانات وألبومات وأشرطة فيديو وأقراص مدمجة ( CD) مستضيفا جمعا من المغنيين الصنعانيين في باريس لهذا الغرض. فضلا عن الكتب والمطبوعات ويتعاون المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية في اليمن مع معهد الموسيقى اليمني بدعم من منظمة اليونسكو الدولية ليجمع الجهود الفردية عبر السنين الفائتة ، ويضيف إليها لتكوين قاعدة بحثية تقنية لتمكين الباحثين والفنانين والمهتمين من اليمن وخارجها من الرجوع إلى هذه الفن اليمني شعرا ولحنا بيسر وسهولة وهذا المشروع في رؤية لامبير ليس مهما لليمن فحسب بل للعالم لأن اليمن غني بالتراث في مختلف الفنون من الألوان الغنائية المتعددة أو الفولكلور الشعبي المتنوع .ومن ثم كان لامبير مهتما بنشر التراث الغنائي اليمني في أوربا والعالم . وفي السياق ذاته يأتي إعلان المنظمة الدولية للتربية والتعليم والثقافة " اليونسكو " رسميا تسمية الأغنية الصنعانية ضمن التراث الإنساني الشفهي العالمي وغير الملموس . ليأتي هذا الإعلان في إطار المحافظة على التراث غير المادي عبر العالم أجمع ، وحمايته من التهديدات التي يواجهها في ظل أساليب العيش المعاصرة ، ومسيرة العولمة . كما يقول كويشيرو ماتسورا مدير عام اليونسكو الطربي .. أوتار يمنية
يرى لامبير أن للغناء الصنعاني أبجديته الخاصة التي ينفرد بها ، ومن أهمها مميزات تقنية إيقاعية وجمالية إضافة إلى تميز شعره الوجداني الرقيق فضلا عن العود اليمني الذي يطلق عليه محليا " الطربي " أو " القنبوس " . ويتكون من أربعة أوتار وبطن ، وذراع مغطاة بجلد الماعز ، وهو مرصع بالنحاس ، وتوجد في أعلى ذراع العود مرآة كي يطمئن الفنان إلى هندامه . ويتحدث لامبير عن تأثره بالفنان اليمني الراحل قاسم الأخفش ، وهو أكثر من اشتهر بالعزف على " الطربي " ، وبات لامبير لا يعزف الألحان إلا بشبيه عوده .ويتحدث عن تميز اللون الصنعاني وأنه لا ينافسه من الألوان اليمنية الأخرى سوى اللون اللحجي ، نسبة إلى لحج مدينة قرب عدن جنوب اليمن . وقد كان هذا الشغف بالغناء الصنعاني هو طريق لامبير لعلاقات إنسانية يتحدث عنها باعتزاز ، وتحليلات اجتماعية ضمنها كتابه " طب النفوس " يتحدث لامبير عن علاقته الإنسانية الوطيدة بالفنان اليمني يحى النونو ، الذي تعرف إليه أثناء بحثه عن العود "الطربي" ، ليدرك بعد ذلك أن معرفته به أهم بكثير من شراء العود كما يقول لامبير فالنونو صاحب تعليقات قيمة على الغناء الصنعاني لكبار الفنانين كصالح العنتري وعلي باشراحيل ، وهي تسجل ملاحظات دقيقة على كل نبرة صوت أو هزة عود ، ولكأنه يلقي محاضرة في السوربون طب النفوس بين الموسيقى والاجتماع
جاء كتاب لامبير : " طب النفوس : فن الغناء الصنعاني "ضمن إصدارت الهيئة اليمنية للكتاب ، وترجمه إلى العربية المؤرخ اليمني الدكتور علي محمد زيد ليتحدث عن واقع الحركة الفنية في المجتمع اليمني ، ويكاد يكون هذا الحديث هو الموضوع الرئيس في الكتاب رغم ثرائه بالمعلومات حول الأغنية الصنعانية ، والتوثيق لبعض فنياتها ، وحكاية تجربته معها واختيار عنوان الكتاب لم يكن منفصلا عن ثقافة المجتمع الذي يتحدث عنه الكتاب ، ففي صنعاء يطلق على الجلسة الموسيقية اليومية بعد الظهيرة : طب النفوس أو دواء الروح ، إذ يتسم مقيل الظهيرة بالشجن والغناء العاطفي الرقيق ، فالهدف المعلن كما يقول لامبير هو : رعاية موج النفس ، وتدفق الروح ، لذلك يمكن المراهنة على أن الموسيقى عبر هذه العلاقة تساعد الإنسان على معرفة مكانه في العالم ، وتمنح لوجوده معنى ويذهب لامبير إلى أن هذا المعنى يشوبه بعض الالتباس في الحس اليمني ، إذ هناك نوع اصطدام بين امتياز الموسيقى من جهة والشك الذي تقابل به من جهة أخرى ، فالنظرة إلى الفنان ازدواجية إذ لم يكن يسمح للموسيقي في صنعاء أن يؤم الناس في صلاة الجماعة. فهو يرى في التعامل مع الغناء كطب للروح والمغنيين كأفراد غير مكتملي الأهلية لممارسة بعض الشعائر تناقضا وفقا لثقافته الغربية. وهذا التناقض مرجعه إلى سطوة اجتماعية لثقافة دينية تجرّم الغناء .هذا ما سجله لامبير في " طب النفوس " وغاب عنه أن هذه الثقافة ليست أحادية الأطياف وأنها تحوي اجتهادات متنوعة كما يجرّم غالبها الموسيقى والغناء فإن بعضها يبيح ذلك لكن تأثيره يكاد يقتصر على رفع الحرج النفسي والاجتماعي عن المتذوقين والمستمعين دون المؤدين فيبقى هؤلاء في ظلال ارتباك النظرة الاجتماعية لحل فعلهم ، ومن ثم لتقدير أشخاصهم بل لتقديرهم لأنفسهم أحيانا
نَفَس حضاري هذا الالتقاط لسياقات اجتماعية متداخلة، و إبداعات تراثية أصيلة ، التقاطا دافعه العشق والرغبة في الثراء المعرفي ليس بغريب لمن هو منتم لحضارة تسعى للتفوق ، وليس ذلك خاصا بَنفَس الحضارة الغربية ، فالحضارة الإسلامية في أوجها كانت تحمل ذات النفس النهم لاكتشاف الجمال . و ذلك ليس مفقودا لدينا اليوم لكنه خافت ، وتجربة كتجربة لامبير تسهم في التأسيس لاستعادة ثقتنا وإحساسنا بالجمال الذي لدينا ، والأصالة التي نحن أثرياء بها .لتكون دافعا لنهضة حقيقية تبدأ من دواخلنا نشرت بمجلة القافلة عدد نوفمبر – ديسمبر 2006م . العدد 6 مجلد 55

ليست هناك تعليقات: