الأحد، 5 ديسمبر 2021

عن قصصنا الجديدة : قراءة في كتاب : " نساء يبحرن شمالا" *.

 


كيف هي حال أيامك ؟ هل هي صافية مشرقة ، أم يشوبها ما يكدر هذا الصفاء ، ويحجب بعض هذا الإشراق أو كله ؟ أم أن الأمر عندك لا يتعلق بالظروف وإنما يتعلق برؤيتك لها ؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل وصلت إلى حكمتك الخاصة للتعامل مع كدورات الأيام أم أن لومك لنفسك يتجدد كلما حادت عن نهج الامتنان ؟

هذه الأسئلة وكل ما يتصل بها من تأملات ، وإحباطات ، وذكريات ، وآمال ، ومحاولات ناضجة أو دون ذلك هي  العالم الذي ترافقنا في آفاقه د. ماري بيفير[1] في كتابها : " نساء يبحرن شمالا"[2].

لقد كتب على غلاف الكتاب أنه يناقش القضايا الثقافية والتنموية التي تواجهها النساء مع تقدمهن في العمر، وقد وضعته في هذا الإطار التعليقات والقراءات التي كُتبت عنه–فيما اطلعت عليه-إذ أنه قدّم لنا مادة وصفية مركزة للموضوعات التي تتعلق بحياة المسنات لكن ما قدمه من قضايا لا يمكننا رؤيتها بشكل مستقل عن عمقها الإنساني والفلسفي العام.

فالكتاب يتناول أطيافا متعددة من المعاناة الإنسانية، ويساعدنا على بلورة رؤيتنا المتعلقة بألمنا الخاص، وتطوير مهاراتنا في التكيف والرضا والازدهار. 

ولكأن كل القصص التي تناولت حياة النساء المسنات كانت تنبهنا إلى أننا نطلع على الجانب الأقسى من معاناة الإنسان، فنتماهى مع تلك المعاناة ، ونقرأ خلاصة حكيمة وهادئة ومتعاطفة للتعامل مع الألم الإنساني ، وارتباكات تغير الأدوار الاجتماعية، و عواصف المشكلات المتعلقة بعلاقتنا بأنفسنا والآخرين .

وسواء  كان قارىء هذا الكتاب قد بلغ مرحلة الشيخوخة، أو كان عمره دون ذلك، فإن الكتاب يحمل في طياته ما يساعد على (توسيع مخيلتنا الأخلاقية )[3]لتشمل المزيد من وجهات النظر بما يساعدنا على قبول أنفسنا، وقبول الآخرين، وتبصيرنا بأهمية الموازنة بين روافد حياتنا لنحافظ على علاقات إنسانية أصيلة .

 يضىء الكتاب لكل من لم يبلغ مرحلة الشيخوخة تفاصيل مهمة تعينه على فهم معان ثرية تهبها حكمة التجارب لمن تقدّم بهم العمر، وتجعله أكثر إدراكا لما يحس به أحباؤه من كبار السن، وما يواجهونه من تحديات قد يحتاج المرء إلى استشراف مستقبله من خلالها إذا كان مقدّرا له أن يمتد به العمر .

وقد قسمت المؤلفة الكتاب إلى أربعة أقسام: تحديات الرحلة، ومهارات السفر، والمسافرون على متن القارب، وأضواء الشمال .

وكل قسم من هذه الأقسام يتناول زاوية من زوايا النضج الإنساني ، وتشكل أفكار الكتاب بمجموعها وحدة متكاملة ، يعضد بعضها بعضا عبر حكايات لشخصيات حقيقية ، ينقل لنا الكتاب أحوال ماضيها وحاضرها ، فينتقل بنا من التنظير  إلى المعايشة التي تهبنا بصيرة أكثر عمقا.

وسأحاول أن أقدم تناولا للكتاب ينفذ إلى عمق ما يوصله من رسائل تعين على قسوة الأيام وتتجاوز موضوعه الخاص إلى رحابة دلالاته المتعلقة بالتجربة الإنسانية المشتركة.

المرونة .. رحلة تعلم :

                تركز الكاتبة على أن المرونة هي نتاج تعاطفنا مع معاناتنا ومشاهدتنا للمعاناة، فالألم يدفعنا لنكون أكثر لطفا ، كما يزيدنا صلابة ،والمرونة مهارة يمكننا إتقانها بالطريقة نفسها التي نتعلم بها الطهي أو قيادة السيارة ,

                نعم ، النمو ليس حتميا ، وقد يبقى المرء حبيسا لتصوراته القاصرة ، تقول المؤلفة :                 " جميعنا التقينا بامرأة دائمة الشكوى، لا تتحدث سوى عن نفسها ، أو تنتقد الآخرين غير واعية لذاتها ، وأحيانا نكون نحن من هذا النوع . فجميعنا نتذمر، ونصاب بالإحباط ، ونقوم بخيارات تلقائية ، فنخسر معاركنا مع شهواتنا ودوافعنا . ولكن ، لم يفت الأوان بعد لكي نغير سلوكنا نحو الأفضل . " وهي مع ذلك تذكرنا أن النمو رحلة مستمرة ، لا ينبغي أن نطالب أنفسنا فيها بالكمال : " فالعالم لا ينقسم  إلى نوعين من النساء نوع ينمو وآخر لا . فكل واحدة منا تنتمي إلى المجموعتين كل يوم تقريبا من أيام حياتنا. ثمة أوقات نكون فيها مرنات وقادرات على التكيف، وأوقات أخرى نكون فيها حساسات ومتشائمات . سيرافقنا الألم ، والحزن، والغضب دائما. ولكن مع الإرادة والنية، والمجموعة الصحيحة من المهارات ، يمكننا أن نكون أكثر سعادة على المدى الطويل."[4]

 

                تحدثنا الكاتبة عن أهمية صياغة الدليل الخاص بنا لنحيا حياة مستقرة ، لا بد لنا أن نحدد ما يجعلنا نشعر بالارتياح، وتلك الأمور التي نضطر لفعلها لأجل مجاملة الآخرين، أو خوفا من اضطراب علاقتنا بهم ، ولو كان ذلك سيؤثر سلبا على قدرتنا على إعطاء أنفسنا حقها من السلام والسكينة .

كما تحدثنا عن أهمية التواصل المستمر مع من نجد في التواصل معهم دفئا واطمئنانا من الأهل والأصدقاء ، وتتحدث عن أن الظروف المكانية والزمانية باتت في عصرنا أكثر تحديا بحيث أن تنظيم مثل هذا التواصل يحتاج إلى أن يجتهد المرء للتخطيط له وإلا فإن الأيام ستمر ، وسيكون البعد  هو الأصل لا القرب والأمان العاطفي الذي تهبه لنا العلاقات الجيدة .  تقول المؤلفة : " تجد بعض النساء أنفسهن وحيدات في وقت لاحق من حياتهن لأنهن لم يقدرن العلاقات بما فيه الكفاية لتنميتها والحفاظ عليها ."

                تتحدث الكاتبة أيضا عن أهمية  التغذية الذاتية بأن نخلق لأنفسنا دوما أوقاتا لفعل كل ما يشعرنا بالجدوى والمعنى ، وأن لا نستسلم لرياح تقلباتنا النفسية، وعدم وجود منافذ جاهزة ومناسبة لينتظم عطاؤنا من خلالها .

وتنبهنا الكاتبة إلى أن تغير ظروف الحياة مع التقدم في السن المرتبطة بأوجاعنا الجسدية، واختلاف أدوارنا الاجتماعية ، وفقداننا لأحبائنا من أهل أو صداقات ، وتبدّل وجه الحياة قليلا أو كثيرا ، كل ذلك سيجعل للعزلة نصيبا أكبر من حياتنا ، وهذه العزلة ستكون صديقة جيدة لنا إن أحسنّا استقبالها بمهاراتنا الجديدة للتكيف والتي طورناها عبر السنوات ، وتعلمنا من خلالها كيف نحسن صحبة أنفسنا  عبر قضاء وقت غني معها ، غني بملاءمته لاحتياجنا النفسي والذي قد يكون محض اعتراف بمشاعرنا المريرة أو الغاضبة، والسماح لها بأن تحظى بتقديرنا ، دون أن نحاول إعادة تدوير مسميات الأشياء وتجميلها ، فنسمي " الألم " ألما  لكننا نكون مدركين بعمق أنه كلما أخذ منا أكثر ازدادت قدرتنا على التعاطف والتقدير ومساعدة الآخرين لأننا سنكون أقرب إلى فهم آلامهم وعدم الحكم عليهم.

تقديم الرعاية .. تجربة المتناقضات .

                كلنا يشعر بأن مهمة مقدمي الرعاية لأقربائهم من المرضى وكبار السن هي مهمة شاقة وتستحق التقدير والاحترام ، لكننا ربما نحتاج إلى مزيد تأمل في الكلفة النفسية التي يتحملها هؤلاء في سبيل أداء مهمتهم بطريقة كريمة .

                أن تكون الرعاية هي مهمتك التي تستغرق وقتك وتحرمك نظاما متوازنا لمواعيد نومك، والخلوة بنفسك ، وتطويرها ، والعناية بها وبعلاقاتك الاجتماعية ، فإن من شأن هذا الأمر أن يكون ثقيلا على النفس بقدر ما يحقق لها الرضا والشعور بالمعنى، فهي مهمة تجمع بين المتناقضات  ، ويحتاج أصحابها إلى أن يتعلموا الموازنة بين رعاية أنفسهم ورعاية الآخرين لأن التعاطف الزائد يؤول إلى أن ينهك المرء نفسه فلا يستطيع القيام بمهمته ولو معنويا فيضر نفسه ويضر من نذر نفسه لرعايته .

                تتحدث المؤلفة عن أهمية أن يدرك مقدمو الرعاية حاجتهم إلى إنصاف أنفسهم، والثناء عليها، و تجديد النية المرتبطة بعملهم، وأن لا يفرطوا في حقهم في وقت للاستجمام مهما كان يسيرا، وأن يتحدثوا عن مشاعر الغضب والتعب والمرارة أمام قريب أو صديق عاقل، فالتعبير عن المشاعر القوية يساعد على تخفيفها .  

ولا أستطيع تجاوز هذا المعنى دون الإشارة إلى ما ذكره الإمام النسفي في تفسير قوله تعالى: (ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا .)الإسراء : 25 : " ربكم أعلم بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين ومن النشاط والكرامة في خدمتهما( إن تكونوا صالحين) قاصدين الصلاح والبر ثم فرطت منكم في حال الغضب وعند حرج الصدر هنة تؤدي إلى أذاهما ثم أبتم إلى الله واستغفرتم منها ( فإنه كان للأوابين غفورا ) الأواب الذي إذا أذنب بادر إلى التوبة . " .

                إن دعمنا لأهلنا وأصدقائنا من مقدمي الرعاية واجب لا ينبغي لنا التفريط فيه ، والتفاصيل الصغيرة  التي نساندهم بها تعينهم وتقويهم : الاستماع والتعاطف، المكالمة اليومية الودودة ، إحضار هدايا صغيرة  يحبونها ، الحرص على دعوتهن إلى الاجتماعات وإن كان الغالب عدم قدرتهن على تلبية الدعوة، الحديث عن حكايات تشبه حكاياتهن، والثناء على عملهن الطيب.

 

رواية قصة أفضل:

                                في طريقنا الطويل نحو آخر محطات قطار العمر ، وإذا كنا موفقين في التعلم من معاناتنا، وتجدد هويتنا عبر مراحلنا العمرية، وآلامنا الجسدية والنفسية والاجتماعية ، فإننا سنصبح حينها أكثر مهارة في سرد القصص المشجعة : " على سبيل المثال عندما تتصرف إحدى الصديقات بفظاظة معنا قد نقول في أنفسنا : لا شك أن يومها كان سيئا  . " فقدرتنا على التعاطف تمكننا من الرويّة في النظر إلى الأمور.

                القدرة على التعاطف تجعلنا أيضا قادرات على إعادة النظر في قصصنا الخاصة التي كنا ننظر إلى الجانب المظلم منها ، فنتعلم كيف ننظر إلى الجوانب المشرقة في سلوكنا في أشد أيامنا عتمة ، ونجد حينها أن لدينا قصة أخرى تحقق لنا قدرا طيبا من الرضى والامتنان – لله أولا – ونحن نرويها لأنفسنا .

تقول المؤلفة : " بصفتي معالجة نفسية ، حاولت مساعدة مريضاتي على صنع قصص أفضل , طرحت عليهن أسئلة مثل : متى كنت شجاعة أو أقوى مما ظننتِ ؟ ... عندما تنظرين إلى الخلف ، إلى الوضع الرهيب الذي مررتِ به ،  هل تذكرين ما استطعتِ فعله ، وشعرتِ بالفخر حياله ؟  وكانت تأتيني إجابات من مثل : .... "بغض النظر عن الضياع الذي شعرت به خلال رحلتي إلى أمريكا ، حاولت أن أكون لطيفة مع الناس الذين التقيت بهم في طريقي ."

نعم ، يمر كثيرون منا بمواقف قاسية ، وإخفاقات ، وعواصف قد تفقدنا أماننا النفسي، فإذا ما تجاوزناها بسلام ، ونجونا، فإننا سنجد ثمرة ذلك قدرة كريمة على الامتنان والتعاطف ، الامتنان لأبسط الأمور ، أو ما كنا نعده من أبسط الأمور ، ونصير أكثر قدرة على استيعاب اختلافاتنا مع الآخرين ، لكن ما نغفل عنه هو أننا بحاجة إلى أن نستثمر ذلك في تأمل جديد لقصتنا ومواقفنا وما سميناه في يوم ما سذاجة أو تقصيرا ، ونتوقف عن لوم أنفسنا، ونحتضنها،  ونعينها على وعي جديد تستحقه بعد كل الآلام التي نالت منها.

                 استطاعت المؤلفة د. ماري بيفير أن تجمع في ذكاء بين التوعية بالثراء الإنساني التي تهبه تجربة التقدم في العمر ومتطلبات تلك المرحلة حقوقيا وثقافيا وحضاريا وبين مقاربة  المعاناة الإنسانية في جميع محطات العمر ، فجعلت كتابها مستراحا نافعا للإنسان أيا كان عمره وأيا كانت إحباطاته وعثراته وآلامه .

                لقد استمتعت بقراءة 300 صفحة من القطع الكبير بترجمة سلسة للكتاب قدمتها الأستاذة زينة إدريس، والتي أتحفتنا من قبل بترجمة ممتازة لكتاب: " طعام صلاة حب " لإليزابيث جيلبرت، وقد تبنت الترجمة الدار العربية للعلوم ناشرون، لتكون إضافة للمكتبة العربية  تستحق الاحترام  والشكر .

                                                                   *نشر في مجلة الجوبة الثقافية. العدد 72. صيف 1442هـ. أغسطس / 2021 م .

 



[1] تقول في مقدمة الكتاب: " أنا أكتب بوصفي عالمة أنثروبولوجيا ثقافية، وعالمة نفس سريرية متخصصة في علم النفس التنموي والصدمات النفسية. " .

 

[2] العنوان بالإنجليزية: Women rowing north. والتعبير بالإبحار نحو الشمال كناية عن التقدّم والازدهار.

 

[3] كررت المؤلفة هذا المعنى في أكثر من موضع في كتابها.

[4] النقل هنا بتصرف يسير .

ليست هناك تعليقات: