الجمعة، 8 يناير 2016

مقالاتي القديمة 6 : الزواج السري .. إشكالات المنهج والواقع .

                    


اطلعت على ملف الزواج السري على "إسلام أون لاين.نت"، وذكرني ذلك باستشارة قديمة وردت إليّ من إحدى الأخوات عن مدى صحة تقليد مذهب الإمام مالك في عدم الإشهاد على عقد الزواج، والدخول وفقا للعقد، وكان جوابي لها بعد مراجعة مذهب المالكية، أن المالكية يشترطون إشهار الدخول، وأن العقد بلا إشهاد لا يبيح الدخول وفقا لمذهب الإمام مالك.


رسالة هذه الأخت جعلتني أقف مع مشكلة النقل دون تثبت عن المذاهب الفقهية من بعض الناس، فيقعوا في المحظور، لكن هذا ليس الإشكال الوحيد في هذا الأمر، الإشكال هنا في تقديري مرتبط بالمنهج الذي نقرأ به تعدد الصور المختلف فيها في الزواج، وكذا في تطبيقات هذا المنهج، ومدى تحقيقها لمقاصد الشرع، واتساقها مع قواعده في التعاطي مع الواقع.


صور (الزواج) السري، وهنا أؤكد على كلمة (الزواج)؛ لأني أعني بها ما صح اعتباره عند أهل الفقه، هذه الصور لها مساحة من النظر الفقهي، اختلف في حلها أو صحتها فقهاء السنة والشيعة، هناك طرحان متوازيان في هذه القضية تطوف حولهما مجموعة من التساؤلات تحتاج إلى تحرير من أهل التحقيق الشرعي والاجتماعي والنفسي.


الطرح الأول

الطرح الأول يمايز بين الصور التي وردت للزواج غير التقليدي، ويجعل القول بإباحتها مرتبطا بنظر الفقيه، والذي بدوره لا بد له من استشارة متخصصين اجتماعيين ونفسيين، وهذا الطرح له وجاهته الشرعية والاجتماعية والنفسية؛ إذ إنه يضع نصب عينيه حماية العلاقات الاجتماعية من الفوضى، وصيانة الأفراد من أن تعصف بهم رياح الأهواء، فيصبح التحلل من المسئوليات التي تستلزمها العلاقات الأسرية سببا في دمار الفرد والأسرة.
يقول د.بيرم كرسو في كتابه "سكينة الروح": "يبدو الكون لنا في أغلب الأحيان كبيرا جدا. نحن نتوق لملاذ آمن، لانتماء محدد الأبعاد. هذا الإحساس بالانتماء إلى شيء محدد يحمينا من الشعور باللامتناهي في داخلنا، وهو الإحساس الذي يحمله كل منا بصمت، والذي نشعر به أحيانا بصورة هاوية لا قرار لها. عندما ننتمي إلى مجموعة ما، فإنها تتحول إلى شاطئ الأمان الذي نرسو فيه ليحمينا من التهديد الغامض الذي يمثله اللامتناهي الكامن في داخلنا، وفي العالم الخارجي من حولنا... في كتاب  Escape From Freedom، يعتبر إيريك فروم الهروب من الحرية بمثابة العلاج للقلق الوجودي ولـ(سعينا بحثا عن المجموعة)

نجد في هذا النص (النفسيتقريرا لضريبة الخروج عن النسق المجتمعي المقبول، وليس هذا هو البعد الوحيد الذي ينظر إليه عند مناقشة من يفكرون في الإقبال على خيارات متفردة قد يجدون لها سندا شرعيا، لكن هناك بعد آخر يتعلق بمنظومة القيم الأسرية التي تجعل الحقوق المتبادلة في المراعاة والتقدير والمشاركة في صناعة الحياة، كل هذه المنظومة تستحق من الفرد الوقوف عندها، والتفكير مليا قبل تجاوزها.


حاجة الفرد وحاجة المجتمع هل هما متناقضتان أم متكاملتان؟

 القول بالتناقض يعزل روافد مهمة  في سكينة الفرد واستقراره وتناغمه مع ذاته ومجتمعه، هذه الروافد هي الفضائل الأخلاقية؛ فضائل التصبر والتعفف والهمة وكف النفس عما يخرم المروءة، والحذر من السقوط في هاوية التنازلات غير المحسوبة. وهذه الفضائل بمجموعها مطلوبة، وخلو الحياة منها قد يفسد علاقة الإنسان مع نفسه ومع ذوي الحقوق عليه.


لكن تبقى الإشكالات المتعلقة بهذا الطرح من حيث عدم قطعيته، وبالتالي يبقى خرق بعض الأفراد له بناء على قناعاتهم بتعدد الخيارات الشرعية من جهة، وحقهم في تشكيل حياتهم بما يرونه مناسبا ما دام له سند شرعيا قال به بعض أهل العلم.


وكذا التوقف في أهلية كثير من المتصدرين للفقه والفتوى لتناول مثل هذه الحالات، بحيث يكون جعل الأمر بأيديهم سببا في هدر حقوق الأفراد لحساب الاعتبارات المجتمعية.


الطرح الثاني


والطرح الثاني الموازي هو جعل الأمر حقا خالصا للفرد يقدّر فيه حاجته، ويزن المصالح والمفاسد بحسب ما يراه، ولعل الرؤية الفقهية الحاكمة لهذا الطرح هي تقرير المسئولية الفردية كاملة، وجعلها مقدمة على الاعتبارات المجتمعية، ولكن يرد عليها سؤالان:


أحدهما: ما محل الفضائل المندوبة وتحقيق المجتمع بكمالاتها في هذا الطرح؟ وما معنى دعوة القرآن إلى الصبر والتعفف إذا كان الأمر متاحا لهذا الحد؟ أم أن سياق الدعوة القرآنية إلى الصبر والتعفف هو سياق مرتبط بحال حرص الطرفين أو أحدهما على الالتزام بالاعتبارات المجتمعية؟


والسؤال الثاني: هل هذا الطرح ليكون مسددا يحتاج إلى خدمته عبر خلق تعديل ثوري -إن صح التعبير- في القناعات المجتمعية حول كون العلاقة الزوجية هي شأن خاص يقرره الزوجان، وليس لمن حولهما سوى المباركة على اختيارهما؟ وما مدى واقعية ذلك في ظل مقصد الحفاظ على التماسك الأسري، نظرا لطبيعة الأدوار الاجتماعية، وما تستلزمه من تنازلات، وحلول وسط؟


وهل اختيار مثل هذا المنحى ملائما في ظل وجدان جمعي يرفض الاعتراف بما سوى الزواج بصورته المكتملة مجتمعيا، مما سيكون له تأثيره على القناعات الحقيقية باحترام كل طرف لنفسه وللطرف الآخر حال ممارسة الزواج السري؟


وبعد؟


كيف يمكن حسم كل الإشكالات السابقة في طرح جديد موازن، يراعي أن التراث الفقهي صار مشاعا بين الناس، كما يراعي مقاصد الشريعة في تحقيق مصالح الناس، ويقدم صيغة تناسب كافة الاحتياجات الفردية والمجتمعية، ناظرا إلى اختلاف طبيعة الفرد والمجتمع في هذا العصر عما سبقه؟

لست أملك الحل، وسطوري هذه دعوة إلى النهضة إليه.. والله المستعان.
                                       

نشرت في أون إسلام : 5/ مايو/2008


ليست هناك تعليقات: