الجمعة، 8 يناير 2016

مقالاتي القديمة 4: الحلال الفكري وارتباكات القيم

سمت حديثه الهدوء الشديد الذي يقترب من الخشوع، كان الدين هو محور حديثه مهما تشعب، فإذا ما تحدث عن الفضيلة تألقت عيناه ورق صوته، واتسعت ابتسامته، ولانت ملامحه".
هكذا وصفت لي صديقتي أحدهم، مضيفة: لكني دوما كنت أشعر بشيء من عدم الصدق في هذا الرجل، قلت لها: أختي تقول "المبالغة في الأدب كقلة الأدب؛ لأن كليهما خلل وزيف، بل ربما تكون قلة الأدب أكثر صدقا".
تابعت صديقتي: عرفته عبر مجموعة حوارية أسبوعية، وتبادلنا كمجموعة، أرقام الهواتف النقالة، وإذا برسالة منه بعد منتصف الليل، يقول فيها إنه في هذا الوقت يصلي صلاة القيام ويدعو لي! وهنا توقفت لفترة قصيرة قبل أن تستطرد قائلة: تعرفين؟ الأمر كله يتلخص في كلمة واحدة (الأصول)، الناس لم تعد تراعي (الأصول).
واقع مرتبك
حديث صديقتي وضعني على أول طريق التأمل في سلوكيات العلاقة بين الجنسين، فالقول بحل العلاقة في (المجال العام)، بلا خلوة ولا فحش من القول، يواجه ارتباكات قيمية كبيرة.. نحن أمام واقع مرتبك فعلا.. مرتبك من حيث إن هذه العلاقات فرضت نفسها في ظل سياقين متباينين: سياق لا يلقي للحكم الشرعي بالا، باعتبار أن الشرع حظر أي علاقة بين الجنسين مطلقا، عدا ما كان منها في إطار المحارم أو الزواج، وبالتالي يجنب الدين هنا؛ لأنه غير واقعي وغير ملائم للحياة المتجددة.
وسياق آخر منفتح على القول الأكثر سماحة في الدين، والأقرب إلى روح الشرع ومقاصده، من حل العلاقة بين الجنسين مطلقا ما دام ليس هناك خلوة ولا فحش، وهذا السياق الارتباكات فيه أنكى؛ لأن أصحابها يلتبس عليهم الحق بالباطل، وتغدو القيم مهدرة لديهم أو مشوشة.
فالدين لم يعد مرتبطا ارتباطا وثيقا بالخلق، مع أن الدين كله خلق، فما يزيد على المرء في الخلق يزيد عليه في الدين، كما يقول ابن القيم رحمه الله.
وهذه الارتباكات نجدها عند من اعتقدوا حل هذه العلاقات فكريا دون تهيئة قيمية ومجتمعية، بل نجد في بعض الخطابات الدينية تشنيعا على التمسك بالعادات، هكذا إجمالا، برغم أن العادات فيها الحسن الذي يؤصل ويربي على مكارم الأخلاق، والذي يؤدي إهداره إلى فساد الدين والمجتمع.
وإذا كان الإسلام يبيح العلاقة المتزنة، التي لا تنطع فيها في المجال العام، فإنه بذات القدر يؤكد على الثبات على هذا القدر وعدم تجاوزه، ويضبط ذلك العرف السليم، الذي يخلق رقابة مجتمعية متزنة.
غياب العرف المجتمعي
لكن أين هذا العرف في مجتمعنا اليوم؟ فالمجتمع تربى غالب أفراده على الحظر، وعلى ذلك يكون انتقال المجتمع إلى الحل هو انتقال فكري لا قيمي.. فأين هي المرجعية المجتمعية (العرفية) لمثل هذه العلاقات؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوة.
كيف نستفيد من سلاسة العلاقات في المجتمع الحجازي القديم؟ من يرفع الغبار من علماء الاجتماع عن قيم مجتمعنا آنذاك لنستعيدها اليوم؟ وكيف يمكن أن نستفيد من التجارب العربية في هذا المجال؟
أحيانا تقدم المسلسلات المصرية نموذجا جيدا للقيم الأصيلة التي تضبط العلاقة بين الجنسين، برغم الخلل الموجود فعليًا في واقع تلك العلاقات في المجتمع المصري.
ارتباكات الواقع الافتراضي
فإذا أضيف إلى الواقع الحقيقي المرتبك قيميًا، واقعا افتراضيا عبر شبكة الإنترنت، كان من البديهي أن نجد الارتباكات هنا أشد ظهورا، فمفهوم الخلوة هنا ارتفع، إذ لا خلوة حقيقية –وهذا ينبغي إعادة النظر في حكمه الشرعي– مع أن الحديث يمكن أن يتم في ساعات متأخرة من الليل أو مبكرة من الصباح، فترتفع الكلفة، لتقترب الألفة بين المتحادثين، وتخرج الأحاديث عن السياقات الجادة إلى الكثير من اللغو.
وفي مثل هذا الجو، قد لا يجد الرجل حرجا في وعد بالزواج، يتراجع عنه فيما بعد؛ لأنه ببساطة كان صادرًا في ظل سحر خاص لم يألفه، جعله يقول كلاما لم يحسن النظر في عاقبته.
وفي تجربة مماثلة، قالت لي إحدى صديقاتي: هو إنسان متدين، وداعية محترم، وقد وعدني صراحة بالزواج.. قلت لها: متى؟ وكيف؟ قالت: في محادثة ليلية طالت على الشات. قلت لها: إذن انتظري أن ينقض كلامه بعد أيام. وقد كان.
يقول الله عز وجل: "وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ" (يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ. قال ابن عباس: من الوعد والإخلاف) [البقرة :235].
بين الفكر والقيمة
فإذا كان الحال اليوم أن يكون الدين فكرا لا قيما، ولم يعد للعرف المجتمعي قيمة، لأنه في طور تخلخل وغفلة عن وجوب تشكله راسخا أصيلا، كان مثل هذا السلوك وسواه لا يعد جريمة ولا انتهاكا للفضيلة.
وفي السياق ذاته نجد من يتزوج معددا بحجة أن الشرع أباح له ذلك، مهدرا قيما تتراوح بين الوجوب والندب، فهو يحرم عليه التعدد شرعا إن كان يعلم من نفسه عجزا عن العدل، كما يكون التعدد أصالة بحقه غير مستحب لأنه يضيف على نفسه حقوقا جديدة قد لا يؤديها، ومسئوليات سيسأله الله عز وجل عنها، وسيحاسبه عليها.
كما أنه يهدر بذلك قيما مهمة إذا ما كان تكراره الزواج ترفا، فيهدر قيم الوفاء والصبر والإحسان، وهي قيم غابت عن الحس الديني، وأكد غيابها عدم الالتفات للعرف المجتمعي الأصيل في حسن المعاشرة.
وليس الرجل فقط هو المتهم هنا كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ، بل لكل واحد من الجنسين نصيبه من الارتباكات القيمية في مجتمعنا، ولا بد من تضافر علماء الاجتماع مع علماء الشريعة المحققين لتبيان (أصول) العلاقات الإنسانية في مجتمعاتنا، وأن يسهم في ذلك كل ذي عقل وقلب يقظ.
ما سبق لن يكون مع التشنيع على الكتابات التي تقدم توصيفا للواقع، بل الاستفادة منها، بما يساعد على خلق توجه جمعي لصياغة قيم معتدلة.


ليست هناك تعليقات: