الجمعة، 8 يناير 2016

مقالاتي القديمة (1) : إنهم أوغاد أحيانا


"لا عليك فأنا وغد عريق"..
كانت تعتذر له إن كانت صراحتها معه ضايقته، فقال لها هذه العبارة وهو يبتسم، ابتسمت بدورها، وهي تتذكر نصيحة "أوبرا": صدقوا ما يقوله الناس عن أنفسهم.. لم يكن بينهما سوى زمالة فكر، فلا يعنيها إن كان وغدا حقيقة أم لا.
من يعنيها ذلك حقًّا هي كل فتاة بدأت في علاقة "جدية" في ميزانها تنوي بها وصولا نحو الزواج.. النصيحة الأولى التي ينبغي أن تنتبه لها جيدا.. أن تركز كثيرًا وهي تسمع ما يقوله الطرف الآخر عن نفسه.. وتحلل تصرفاته في المواقف المختلفة، وردود أفعاله.. في البدايات لا مجال لالتماس الأعذار؛ لأن ذلك يعني تشويش الرؤية، وعدم الاعتدال في الحكم على الطرف الآخر.. ما يقوله الطرف الآخر عن نفسه سلبًا لا بد أن يكون مجال تمحيص ومراقبة وانتظار وتأنٍ، فلعله "وغد عريق حقا"!.

"كلمات ليست كالكلمات"

أحيانا تسكر الكلمات المحملة بالفكر العميق، والنبل، والفضيلة، أكثر من كثير من الكلمات المسبوكة غزلا وهياما.. نبهنا لذلك قديما الكاتب الكبير "إحسان عبد القدوس" في رائعته: "الطريق المسدود".. وهنا تبرز إشكالية "الالتزام اللفظي".
وكلمة "الالتزام" عادة ما تطلق على "الالتزام الديني"؛ وهي بحسب واقعي السعودي كلمة كان إيقاعها عاليًا في "الثمانينيات".. كانت الشخصيات "الملتزمة" لها سطوة نفسية على الآخرين، كانوا يمثلون وجهًا واحدًا للدين يقدم على أنه "الوجه الأوحد".
لكن اليوم؛ بدأ يخفت الانبهار بهذا "التميز" الذي شكلته مجموعة من "الشعائر الظاهرة"، ولعل من أقوى الأسباب التي أدت إلى ذلك هو اضطراب الخطاب الديني السعودي، وانعكاسات هذا الاضطراب على الرموز الدينية في تعاطيهم مع قضايا التواصل بين الجنسين.
قلت إن الانبهار قد بدأ يخفت.. لكن هذا لا يعني أنه انطفأ فهو ما زال حاضرا لكنه أقل سطوة، ونجد أن انبهارا جديدا حل محله بالتزام جديد تجاه قضايا المجتمع، والتجديد الذي لا ينابذ الدين ولكن يتصالح معه.
وتلبس الكلمات عباءات سحرية جديدة.. فمن يعطي وقته لنفع الناس كيف يمكن أن يخذل من سمح لهم بالاقتراب من دائرته الشخصية؟
صدقي إحساسك الداخلي

في عالم الفتيات الكثير من الحكايات عن مثل هذه الشخصيات "الملتزمة"، وكثير منها يتفق على أنهم "أوغاد يلبسون ثياب الفضيلة".. فإذا أرادت الفتاة أن تقف موقفا مباشرا من عبارات مبطنة، يكون الجواب مربكا، ومتعاليا، فلا يليق بمثله أن يسمع اتهامات من مثلها.
عزيزتي: في مثل هذا الموقف.. صدقي إحساسك.. وغادري علاقة لا تحترم عقلك ومبادئك ومشاعرك!.
لكن الأمر يبدو صعب التصديق أحيانا.. فكيف يكون وغدًا من هكذا وصفه فكرا، ورصانة، وتدفقا بالخير.. الفكرة المهمة التي تغفل عنها كثيرات أن الفكر والرصانة والخير المالي أو العلمي ليس أحدها هو المحك الحقيقي لأخلاق الإنسان، ألم يحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من أول الناس الذين يقضى عليهم يوم القيامة: "ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتى به، فعرّفه –الله عز وجل- نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟، قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار".
المحك الحقيقي هو أن يكون المرء صادقا يصدّق فعلُه قولَه، وهذا يتطلب مزيد وقت، ومزيد مواقف، ولا يمكن اكتشافه من فكر مبهر، أو عطاء ممتد، فقد يسهل على المرء بعض الأخلاق دون بعض، وأصعب الأخلاق هو عدل مع النفس وعدل مع الغير.
وكان لهم ملاذا

التبرير النفسي جاهز عند هؤلاء "الأوغاد أحيانا"، فاللمم تكفره المداومة على الفرائض، ومساحة من العبث لا ضير فيها؛ لأن الطرف الآخر يحتاجها بشكل أو بآخر، وينسون أن اللمم إنما يكون لمما إذا كان زلة عابرة لا موقفا حياتيا، أليست الصغائر تصير كبائر بالإصرار؟ وهل يكون التلاعب بمشاعر الآخرين لمما؟ ألم ينهَ الله تعالى عن التعريض بالنكاح بعبارات قوية (فاحذروه).. إذا كان من يفعل ذلك لا يفعله عن رغبة صادقة: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم). سورة البقرة : آية 235.

مزيدا من الوقت

نعم يا عزيزتي.. "إنهم أوغاد أحيانًا"، والمواقف هي المحك، فلا تغرنك الألقاب، أو الأسماء، أو حتى الأفعال التي لا تتصل بمواقف مباشرة معك، فتيقظي وتعلمي فن الرحيل عن مشاعرك التي تتسم بالثقة والإكبار والتي تجعل الارتباط شرطيًا بين الخلق الأصيل والعلم أو الفكر أو العبارات المنمقة المهذبة أو حتى الخاشعة.. تعلمي كيف تكتشفين من هو أصيل وصادق حقًّا.. ومن هو صغير بسوء خلقه وإن حاز من العلم ما حاز.
حدثنا الإمام النووي في مقدمة المجموع عن الإمام الشافعي أن من أسباب أن ينور الله القلب أن يبغض أهل العلم الذين لا إنصاف معهم ولا أدب، وأراني أقف مع تعبير الإمام الشافعي بـ(البغض).. أتراه ينبهنا بأقوى العبارات على أن التقدير والثقة إنما يستحقهما من جمع بين العلم والخلق الحسن، أما العلم مجردًا عن الأدب فلا يستحق منا أن نعد صاحبه أهلا لثقتنا.
http://www.islamonline.net/Arabic/adam/images/up.gif


 


ليست هناك تعليقات: