الجمعة، 11 ديسمبر 2009

جدة .. أما قبل

جدة .. كالمؤمن يألف ويؤلف .. من أهل الألفة والود هي جدة .. تنتقل فيها عبر الزمان والمكان فلا تشعر أنها تضيق بك .. ربما تضيق بك الحياة فيها .. لكنها لا تضيق هي بك ..بل تظل تعتذر إليك عن ذنب لم تقترفه ..

جدة .. تألمتِ كثيرا الأيام الماضية .. ولا زلت تتألمين .. تعلمين أن أهلك المحبين حولك ومعك ، فلطالما احتضنتهم ، واستمعت لآلامهم وآمالهم .. أريد يا جدة أن أتذكر اليوم معك ما كنتِه لي ، وفاء ، وتجديد عهد ، وتذكيرا لجيلي ولأجيال قادمة أن نقدّم لك جهدنا في العطاء ، والعناية بك كما نعتني بأنفسنا ورغباتنا وطموحنا .. لأنك صنعتنا .. وصنعت كثيرا مما ندين لك به من روح وفكر وعاطفة .. ولأن أحلام أبناء جدة إن لم تكن بها ولها .. فسيخسرون الكثير إذا خسرت جدة ..

والعطاء يتنوع بحسب كل أحد وما يحسنه ॥ يحرص فقط أن يكون من أهل الإحسان والإتقان فيما يعرف ولا يجاوز ذلك إلى عاطفة تجعله يقتحم ما لا يحسن فيفسد أكثر مما يصلح ..

أتذكرين يا جدة ؟ أتذكرين سنوات مضت ॥ أتذكرين ولادتي في ذلك الحي الجنوبي المفعم بالحياة .. حيث تتجاور العمارات مع البيوت الشعبية البسيطة مع الفيلات الفخمة .. كان ذلك الحي مفعما بالحياة كما أفهمها في عمري الصغير .. بقالات مليئة بالحلويات .. وعربات الخضروات والفواكه المتنقلة .. وجيران يجعلون الحياة أكثر إثارة .. جارتنا ( خالة ج ) – رحمها الله رحمة الأبرار- صاحبة الهيبة .. التي كنا لا نجرؤ على الفوضى والكلام بصوت عال لئلا تغضب .. لا أدري لماذا كنا نخاف منها .. لا أذكر أنها عاقبتنا يوما .. لكننا كنا نهابها فحسب وكنا نظن تلك الهيبة خوفا .. وبناتها بحكاياتهن المبهجة والمسلية ..وجارتنا الأخرى التي كان زوجها يملك محلا للألعاب .. فلا نزورها إلا ونعود محملين بألعاب تجعلنا نمتلىء حماسا .. وجارتنا الهادئة الأستاذة مريم التي كنا نأنس بها ولها .. كنت أذهب إلى المدرسة مشيا على الأقدام أنا وأختي آلاء.. وكانت الرحلة إلى المدرسة لا تمر أحيانا بسلام مع الكلاب التي تصر أن تعترض طريقنا أو نحن من نصر على أن نعترض طريقها .. لكن الكلاب اختفت بعد ذلك ..وقد ذكر والدي محمد علي الجفري- حفظه الله- في مقالة له في جريدة عكاظ ( بتاريخ 27/8/1996) عن السيد علي حسن فدعق .. أنه لما كان مسؤولا عن بلدية جدة أمر بتسميم جميع الكلاب الضالة .. لكن السيد فدعق تولى مسؤولية البلدية عام 1384هـ أي قبل ولادتي بعشر سنوات .. من كان المسؤول إذن عن اختفاء الكلاب في حارتنا العزيزة .. لا أعلم -ربما هو الأستاذ خالد عبد الغني- فقط ما أعلمه أنها اختفت فجأة .. الشائعات تقول إنهم الكوريون .. كانوا يأكلون الكلاب الضالة ..ذات الشائعة التي انتشرت في عهد السيد فدعق رحمه الله..

أحيانا كنا نوصل بعض صديقاتنا إلى بيوتهن ثم نذهب نحن إلى البيت ॥ لا أدري إن كانت صديقتي السورية تتذكر ذلك .. لقد كنت أراها وأسرتها مثالا للصمود .. والإيمان بالحياة.. فوالدها معتقل في سوريا وهم لم يفقدوا الأمل أبدا أن يعود إليهم .. شيء كان في داخلي يجعلني أشعر أني أكبر سنوات كثيرة حين أستمع إلى حديث صديقتي الصغيرة الكبيرة..عرفت بعد ذلك حين كبرت أبعادا أخرى عن الإسلام والسياسة أبعادا جعلتني أدرك عدم نضج رؤيتي ، وطفولتها تلك الأيام .. كان معرض الكتاب الذي يعقد فيك سنويا بمثابة رافد مهم من روافد تفكيري..

أتذكرين يا جدة يوم الخميس ماذا كان يعني لي ؟ قطعا تذكرين كيف كان هو الموعد المرتقب الذي أقدم فيه تحويشة الأسبوع هنيئة مريئة لشراء مجلة ماجد ، وألغاز المغامرين الخمسة ( تختخ ونوسة ولوزة ومحب وعاطف )، أو الثلاثة ( محسن وهادية وممدوح ) ، وقصص المكتبة الخضراء॥ كنت أستيقظ الثامنة والنصف وأستعد للجري في الزقاق بجانب عمارتنا لأصل إلى المكتبة ، وأنا أبحث عن لغز جديد .. أذكر أني قرأت لغز (أم الشعور) وكنت أرتجف رعبا .. هناء بنت خالتي كانت تقرأ معي اللغز ليلتها .. وكانت خائفة هي الأخرى .. لما زرت القاهرة لأول مرة وجدت شجرة تشبه (شجرة أم الشعور) ولا تسل عن فرحتي بها ..

تذكرين يا جدة كيف كان حينا أيامها ؟ كان طيبا مثلك ॥ صديقا مخلصا مثلك .. وفيه بدأت حفظي للقرآن الكريم مع أستاذتي الطيبة فاطمة الحازمي.. كم كانت تصبر على تقصيري أحيانا في الحفظ .. ونعاسي في الدروس ..

ثم أتذكرين كيف عشت فيك بعد أن غادرت حينا الطيب ؟ كان سنوات المراهقة وأيام الشباب الأولى حافلة بحياة أخرى مختلفة ॥

أتذكرين يا جدة كيف اختزلت حياتي فيك في السباحة الفكرية॥ مدارس تحفيظ القرآن الكريم .. والمعاهد الشرعية .. وقسم الدراسات الإسلامية في جامعة الملك عبد العزيز..السباحة في بحر كثيف من الأفكار المتلاطمة .. والتصنيفات الحادة .. والمناطق الرمادية .. التي ظلت تحيرني طويلا .. ثم بداية النور بدراسة الفقه على يد د। شادية كعكي .. العلم الراسخ .. والخلق المتين .. حفظها الله .. كان والدي حفظه الله حريصا على تنوع قراءاتي .. وكان صلاح جدي – رحمه الله- وخلقه الكريم وهو الفقيه المتصوف حاجزا لي عن الانغماس في الفكر المتشدد .. لأقترب من الاستقرار الفكري الفقهي إن صح التعبير مع الدكتورة شادية كعكي بمنهجها الفقهي الأصيل ..

أتذكرين يا جدة كيف أهديتني بناء متوازنا بعد تقلبات عديدة .. كيف أذقتني طعم الاستقرار بعد الكثير من التيه ؟ أتذكرين؟ ثم بعد عودتي من الدراسة في جاكعة الأحقاف في المكلا استقبلتني يا جدة بحفاوة ॥وبدأت أكتشفك من جديد .. مدينة تقترب من النضج الحضاري .. مساحات الوعي تتجدد وتتسع .. ومساحات العطاء الشعبي والفكري تتنوع وتتداخل .. وقد ظهرت بقوة في هذه الأيام التي مس بعضنا( إذ كلنا جسد واحد ) فيها الضر والأذى ..

لقد كنتِ دوما عروسا تزهو بجمال روحها قبل شكلها ॥ نعم هناك الكثير من الألم والحزن والخطأ الموجع ॥ لكن الأزمة التي حدثت أراها ستكون سببا في عافيتك ॥ ولعل الأرواح التي ذهبت عند الكريم الرحيم ستكون فداء لقيم تستعيد قوتها بما يليق بك ॥ قيم المسؤولية .. والأمانة التي تحمي الحاضر والمستقبل .. الثمن غال .. ولذلك لا بد للتغير أن يكون بحجم الثمن .. بحجم الحب والفكر والدفء والأفق البعيد الذي أعطته جدة لأهلها .. وسنقول لمقبل الأيام : أما قبل .. لنظل نتذكر أن ما سيأتي لا بد أن نفيك به حقك من الحب الذي منحتنا إياه .. ولن نفي .. وأن نكفّر به عما مضى منا من تقصير في حقك .. والله خير الحاسبين ..

* ( أما قبل) عنوان أحد رسائل الرافعي لمي زيادة في أوراق الورد.

ليست هناك تعليقات: