الاثنين، 7 ديسمبر 2009

عن الخطأ .. رفيق العمر

الملائكة تغيب عن حياتهم الأخطاء ، كما تغيب الحاجة عندهم إلى الطعام أو الشراب، نحن كبشر نعترف بحاجتنا إلى الطعام والشراب، ولا نعدها أمرا مشينا ، لكن بعضنا لا يعترف بالخطأ كجزء لا بد من حضوره في حياته أو حياة غيره.. الخطأ رفيق لنا رحلة عمرنا، لنتحقق ببشريتنا ، وانكساراتنا ، ورقة قلوبنا ، وقربنا من المولى عز وجل تسليما له بالجلال والكمال، وإقرارا بقصورنا ونقصنا ، لنرتقي في سلم الكمالات بأخطائنا كما نرتقي فيه بصواب أعمالنا..
الخطأ والفرح
يغفر الله لنا أخطاءنا لكن جهازنا العصبي لا يغفرها لنا أبدا§॥ ونظل نجلد أنفسنا بأخطائنا ॥ فنقع من حيث لا نشعر في اليأس ॥ واليأس بعد عن الله .. وبعد عن النفس السوية .. يعلمنا الدين أن نفرح بالله .. وبفضله وكرمه ورحمته بنا .. وأن نسير إليه عرجا ومكاسير .. ونصر أحيانا على أن نحرم أنفسنا الفرح لأننا نصر على تجاهل أن الكمال في حقنا مزيج متناغم من الخطأ والصواب
قبيل الفجر
تبدو أحيانا الحياة مستحيلة معهم ، كأنهم لا يحسنون شيئا في الدنيا سوى أن يكونوا ناشطين فاعلين في كل ما يثير ضيقنا ، ويحرمنا السكينة ، لكن إذا ما اقترب الرحيل ، فهمنا فجأة أن أخطاءهم كانت ببساطة اختلافا لم نستطع استيعابه ، فحرمنا أنفسنا رؤية جمالهم ، وطيبة قلوبهم ، وضعفهم ، وحاجتنا لهم ، وحاجتهم إلينا .. ولو فهمنا لكان عتابنا لهم كما قال الشاعر : عتبتم فلم نعلم لحسن حديثكم أذلك عتب أم رضى وتودد لكننا أحيانا لا نفهم إلا في أوقات متأخرة ، ربما نحتاج أن نتأمل دوما في علاقاتنا ، ونستشير من نثق بحكمتهم ، ونقاء سريرتهم ، ونحتاج أيضا إلى القراءة لمن عبروا الدنيا بخلق حسن ، وصيت حسن، وعرف فضلهم وحكمتهم أهل البصيرة ،وانتفع الناس منهم أحياء وأمواتا . في أصداء سيرته الذاتية كتب الأستاذ الكبير نجيب محفوظ – رحمه الله- سطورا بعنوان : قبيل الفجر: وليس أجمل من السطور إلا عنوانها .. قبيل الفجر .. أي فجر يا أستاذ؟ .. أهو فجر الحقيقة .. والموت من أكبر الحقائق في حياتنا .. أم هو فجر الصفاء حينما يتجرد المرء من تشويشات الهوى .. أم هو فجر لقاء الله عز وجل الرحيم الحكيم .. أم هو فجر الفهم حينما يمن الله على الإنسان بنور الحكمة.. أم هو كل ذلك ؟ قال الأستاذ : "تتربعان فوق كنبة واحدة . تسمران في مودة وصفاء . الأرملة في السبعين وحماتها في الخامسة والثمانين . نسيتا عهدا طويلا شحن بالغيرة والحقد والكراهية .والراحل استطاع أن يحكم بين الناس بالعدل ، ولكنه عجز عن إقامة العدل بين أمه وزوجه ، ولا استطاع أن يتنحى . وذهب الرجل فاشتركت المرأتان لأول مرة في شيء واحد وهو الحزن العميق عليه.وهدهدت الشيخوخة من الجموح ، وفتحت النوافذ لنسمات الحكمة . الحماة الآن تدعو للأرملة وذريتها من أعماق قلبها بالصحة وطول العمر . والأرملة تسأل الله أن يطيل عمر الأخرى حتى لا تتركها للوحدة والوحشة ."§
ليغدو المستقبل الملثم آمنا

تضيق أحيانا الحياة بأحدنا ॥ فيجد نفسه أمام خيارات الخطأ .. فيحجز نفسه عنها .. ليتردى في مزيد من الوجع .. والضيق .. والكرب ..وتراه كدمعة حائرة تأبى أن تتخذ قرارا ما .. ويغفل عن استشارة فقيه نفس .. جمع بين الدين والحكمة .. ليتدارس معه مآلات الخطأ، ومآلات الصواب .. ليغدو " الحاضر الثقيل هينا ، والمستقبل الملثم آمنا"§ إذا استقبله المرء بانشراح صدر ، وصفاء نفس ، ووضوح رؤية .. لكننا كثيرا ما نقع من حيث نعلم أو من حيث لا نعلم في فخ الأفكار المطلقة .. خطأ مطلق .. أو صواب مطلق .. وما هكذا علمنا الدين .. وما هكذا يحكم أهل العقل والبصيرة .. تكلم الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه جامع العلوم والحكم عن معنى يقارب ما نحن فيه ، قال : يفتي المفتي الثقة بعض العوام بحكم شرعي فيه تخفيف ورخصة ، فيرفضون قبول قوله ، ويستدلون جهلا بحديث : " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون " ، وإنما ورد هذا الحديث فيمن شرح الله صدره بنور المعرفة ، والإيمان معا، وكان المفتي يفتي له بمجرد هوى من غير دليل شرعي ، وهذا لا يتحققه غالبا من لا يملك أدوات التخصص الشرعي، قال الإمام ابن رجب الحنبلي:" فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي فالواجب على المستفتي الرجوع إليه وإن لم ينشرح صدره ، وهذا كالرخصة الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة في السفر ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال ، فهذا لا عبرة به."§ فهؤلاء الذين تحدث عنهم الإمام ابن رجب الحنبلي يتبنون فكرة التشديد على أنفسهم على أنها دين في كل حال ، هي عندهم فكرة مطلقة، لا تتغير بتغير الأحوال، فأخطأوا مرتين مرة بتشوش فهمهم لسعة الشرع ، ومرة بعدم تأدبهم مع العلماء الثقات واتباعهم لمن أمرهم الله عز وجل بأخذ الأحكام الشرعية عنهم .
نسبية الكمالات
قد نرفض خطأ مرتبطا بفضيلة هي كذلك في حق غيرنا وليست كذلك في حقنا ॥ فليست كل النفوس تقوى على جميع الكمالات .. و ما قد يكون كمالا في حق إنسان باعتبار قدرته على الثبات عليه دون حرج أو ملل ، لا يكون كذلك في حق من يكلفه هذا الكمال حرجا، يصده عن تذوق لذة القرب من الله عز وجل ، فيكون الكمال الذي يتوهمه في حقه نقص وجفاء ..
الفضل بما لا يخل بالعدل

وتغيب هذه المعاني عن بعض من يريدون الخير بالناس ॥ فتراهم يجعلون المعاني النسبية معان مطلقة، وهم يغيبون بعملهم هذا قيما أساسية كالعدل مقابل التأكيد على التسامح المطلق أو الصدق المطلق أو العطاء المطلق فلا يعود الأمر دائرا بين العدل والفضل بل يعود ترسيخا للظلم ، وقضاء على الفضائل ، حيث غابت حقيقة أن التوازن بين الأخلاق المتعددة هو سبيل لحفظها كلها .. وأن الإخلال ببعضها إخلالا كاملا هو تضييع لها كلها ..
الأداء الجميل والذكي مع النفس ومع الناس

ليست سطوري هذه دعوة للخطأ لكنها دعوة لاحترام بشريتنا ، والتعامل باتزان حيال أخطائنا، أو ضعفنا ، فإن كان لبشر علينا حق أديناه إليه أداء جميلا ، وذكيا ، يحافظ على علاقتنا به ، بما لا يخل بحقنا وبما يرد إليه حقه بالحسنى وزيادة ॥ هي فقط خطوات تجعلك أفضل .. اعط نفسك حقها عدلا وفضلا بما لا يخل بحقوق الآخرين.. وتذكر أن الدين يريد منك أن تعترف بالخطأ كضرورة .. وتسأل الله تعالى مع ذلك حسن الختام.. عاملها كأفضل صديق .. تقبّل أخطاءها .. وعيوبها .. وسامحها .. تصالح معها .. لتستطيع أن تتصالح مع الحياة .. وتقبل عليها ودا وفضلا قواما لا شطط فيه ..
§ قرأت هذه المقولة مرة في أحد كتب أستاذ عبد الوهاب مطاوع رحمه الله।
§ أصداء السيرة الذاتية । نجيب محفوظ .
§ اقتبست هذا التعبير من الأستاذ يحى حقي رحمه الله في رائعته : خليها على الله।

§ جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب الحنبلي . شرح الحديث السادس والعشرين .

هناك 3 تعليقات:

غير معرف يقول...


وتغيب هذه المعاني عن بعض من يريدون الخير بالناس ॥ فتراهم يجعلون المعاني النسبية معان مطلقة، وهم يغيبون بعملهم هذا قيما أساسية كالعدل مقابل التأكيد على التسامح المطلق أو الصدق المطلق أو العطاء المطلق فلا يعود الأمر دائرا بين العدل والفضل بل يعود ترسيخا للظلم ، وقضاء على الفضائل ، حيث غابت حقيقة أن التوازن بين الأخلاق المتعددة هو سبيل لحفظها كلها .. وأن الإخلال ببعضها إخلالا كاملا هو تضييع لها كلها ..


رائع بلا حد..
بل أزعم أنها كانت سقطة كثير من الفلاسفة والمنظّرين، فسارتر أعلى من قيمة الفردية على حساب غيرها فظهر منهج الوجودية الذي يطول الحديث فيه، وماركس أعلى من قيمة المجتمع على حساب الفرد، وتطول القائمة بالنظر لكثير من النظريات التي تمحورت حول قيمة واحدة مغفلة ما سواها، خاصة فيما يتعلق بحديثنا عن نظريات العصور الوسطى..

نسور الشرق يقول...

ليس يأسا ولكنه الندم والأسى


إن الله هو المنتقم الجبار القوي المتعال العظيم القهار مالك الملك ذو الجلال والإكرام, ومع ذلك فهو الغفور الرحيم العفو الكريم الرءوف الحليم غافر الذنب وقابل التوب.

أفلا يحق له إن نندم على تفريطنا في حقه وغفلتنا عن ذكره وشكره وهو الواحد الأحد الذي خلقنا ورزقنا وصورنا فأحسن صورنا وآوانا وكفانا وأنعم علينا بنعم عظيمة ظاهرة وباطنه علمنا منها القليل القليل وما لا نعلمه أكثر بكثير, ألا يحق له أن نجتر الم الحسرة والخسارة على عصياننا له وهو القادر علينا ويعلم سرنا وجهرنا ولكنه لعظمته وفضله علينا ارحم بنا من أمنا علينا بل من أنفسنا على أنفسنا بعفوه ومغفرته وحلمه علينا

أفلا يجب علينا أن نأسى على ما فاتنا ليس من متاع الدنيا الزائل ولكن من تفريطنا في كرامتنا التي كرمنا الله بها على جميع مخلوقاته حتى على الشيطان عدونا اللدود المتربص بنا فأذللنا أنفسنا له ومرغناها في وحله وطينه بإتباعنا له ونسينا كرهه وحقده علينا

انه الندم والأسى ليس الذي يدفعنا إلى اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى(وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) ولكنه الندم الذي يدفعنا للاستجابة لنداء الله الرحيم الودود الغفور (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ).

انه الندم الذي يجعلنا نفقه كما فقه سيدنا عمر بن الخطاب عندما أخطأ في صلح الحديبية وكان يريد إن يرد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده مع قريش فكان يقول رضي الله عنه:ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق، من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به) فهو فقه يدفعنا للعمل وإتباع السيئة الحسنة حتى تمحها. ونفقه كما فقه ذلك الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:( له يا رسول الله " من يحاسب الخلق يوم القيامة؟ " فقال الرسول "الله" فقال الأعرابي: بنفسه؟؟ فقال النبي: بنفسه, فضحك الأعرابي وقال: اللهم لك الحمد. فقال النبي: لما الابتسام يا أعرابي؟ فقال: يا رسول الله إن الكريم إذا قدر عفى وإذا حاسب سامح قال النبي: فقه الأعرابي).

انه الندم الذي يجعلنا نرجوا فضله وكرمه وجوده وعفوه ورضاه فيقول وهو أصدق القائلين في الحديث القدسي: (ما غضبت على أحد كغضبى على عبد أتى معصية فتعاظمت عليه في جنب عفوي). وأوحى لداود:(يا داود لو يعلم المدبرون عنى شوقي لعودتهم ورغبتي في توبتهم لذابوا شوقا إلي يا داود هذه رغبتي في المدبرين عنى فكيف محبتي في المقبلين علي). ويقول عز من قائل سبحانه:(ابن آدم خلقتك بيدي وربيتك بنعمتي وأنت تخالفني وتعصاني فإذا رجعت إلى تبت عليك فمن أين تجد إلها مثلى وأنا الغفور الرحيم).

انه الندم الذي يجعلنا نستحي منه جل في علاه عندما نسمعه ينادينا من فوق سبع سموات مناداة الحاني المتجمل على عبيده:(عبدي أخرجتك من العدم إلى الوجود وجعلت لك السمع والبصر والعقل, عبدي أسترك ولا تخشاني، أذكرك وأنت تنساني، أستحي منك وأنت لا تستحي منى. من أعظم منى جودا ومن ذا الذي يقرع بابي فلم أفتح له ومن ذا الذي يسألني ولم أعطيه. أبخيل أنا فيبخل على عبدي؟). ويقول:(إني لأجدني استحى من عبدي يرفع إلى يديه يقول يا رب يا رب فأردهما فتقول الملائكة إلى هنا إنه ليس أهلا لتغفر له فأقول ولكنى أهل التقوى وأهل المغفرة أشهدكم إني قد غفرت لعبدي).


انه الندم الذي يجعلنا ندرك حكمة الله عز وجل في أنه لم يعصمنا من المعاصي فنذل اليه ذل المساكين ونتضرع اليه تضرع المحتاجين الى عفوه وكرمه وجوده, فعند معصية آدم في الجنة ناداه الله: (يا آدم لا تجزع من قولي لك "أخرج منها" فلك خلقتها ولكن انزل إلى الأرض وذل نفسك من أجلى وانكسر في حبي حتى إذا زاد شوقك إلى واليها تعالى لأدخلك إليها مرة أخرى,يا آدم كنت تتمنى أن أعصمك؟ قال آدم نعم,فقال: "يا آدم إذا عصمتك وعصمت بنيك فعلى من أجود برحمتي, وعلى من أتفضل بكرمي، وعلى من أتودد، وعلى من أغفر, يا آدم ذنب تذل به إلينا أحب إلينا من طاعة تراءى بها علينا, يا آدم أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيح المرائيين).

محمد يقول...

المقال رائع جدا و فى الحقيقة نحن فى الكثير من الاحيان بل كل الاحيان نتعامل متناسين ادميتنا و بشريتنا و قد نبالغ فى ادانة الخطأ ناسين و متجاهلين ان هذا جزء متأصل و طبع اكيد فينا كبشر و بدونه لن نكون بشراً
لسنا بالتاكيد نبرر الخطأ و لكن هى دعوة للفهم و التعقل والادراك

و لك التحية