الخميس، 20 سبتمبر 2007

الحقيقة المطلقة

كتبت مرة قالت لي أختي : قرأت الجزء الأول ( ذاكرة الجسد ) فلم يعجبني ، ولم أتمه .. ليست رواية ، ليس هناك حدث قلت لها : هي خليط من الرواية والمقالة والتأملات و النقولات الجديرة بالوقوف عندها .. هي تجليات لمشاعر وقيم ووقائع متنوعة في تطرفها و اعتدالها .. عمقها وهشاشتها.. صلاحها وفجورها .. رقيها وفسادها .. أحس أن قراءة كل ذلك يعطيني نضجا وفهما وخبرة أكبر .. قد يقول البعض ما تكتبه أحلام مستغانمي فساد محض .. لكني لا أوافقهم على ذلك كما لا أوافقها في منطلقاتها أو بعضها .. لكن ما تقدمه أدب حقيقي يجعل الإنسان أكثر عمقا ، ويضيف إلى رصيده فقط لو أحسن التأمل والاستفادة والحكمة ضالة المؤمن وأجدني اليوم أراجع ما كتبت ، فأجد أن إطلاقه فيه تخليط ، فتجسيد الفجور ليكون حيا ، نابضا ، بتفاصيله ، وخصوصيته ، قد يشوش على صفاء التفكر ، وتختلط حينها المعاني فكرا ، فالخطأ السلوكي يغدو ضعفا إنسانيا مبررا للتهاون في ضبط النفس عن الانغماس في الهوى، والقيم المغايرة لقيم ديننا تبدو قريبة للنفس ، يغيب قبحها ، ولا نرى سوى اختلافها ، والتخليط أن نقرأ بفكر يستمد مرجعيته في التحسين والتقبيح من ذاتيته لا من مرجعيته العقدية بأي عين نقرأ ، بل بأي عقل نقرأ ، عقل ينطلق من نموذجنا المعرفي الخاص ، أم عقل تاه في طروحات احترام ظنيات قضايا الفكر والممارسة الإنسانية. ومن ثم نقرأ ونسمع من شباب ينسب نفسه إلى التدين كلاما عن احترام اختيارات الشاذين جنسيا ، والتعاطف معهم فيما يدعونه من حق في اختيار الطريقة التي يمارسون بها حياتهم نموذجنا المعرفي الخاص عقيدة ، يجعل لنا قطعيات لا نخجل من أن نقول لمن يخالفنا فيها أنت مخطىء ، ونحن لا نحترم خياراتك ، ومخالفتك فيها ، والحقيقة التي نعتقدها نعتقد بكونها مطلقة ، هذا هو مقتضى كونها عقيدة آمنا بها ، نحسن ما تحسنه ، ونقبح ما تقبحه ، ولا نترك التحسين والتقبيح لمتغيرات أحكام العقل المتحرر من الضابط العقدي ، والأمر ليس سهلا ، لأن تفعيل محاكمة الحسن والقبح إلى العقيدة في قلوبنا وعقولنا وحياتنا يحتاج إلى شجاعة حقيقية ، ويقظة دائمة ، وإدراك للتمايز ، تحضرني الآن الآية الأولى في سورة الأنعام :الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وأختم بكلام أجده نفيسا أنقله من كتاب :" الطريق إلى التراث الإسلامي ، مقدمات معرفية ومداخل منهجية ". لفضيلة المفتي علي جمعة ... تعليم الإنسان ونقل المعرفة منه وإليه – وكما هو مفهوم من مصادر الشريعة وما عليه المحققون من علماء المسلمين – يجب أن يكون في إطار معرفي محدد ، مصادره الوحي والوجود أما الوحي فهو خطاب الله تعالى للبشر ، وهذا الخطاب مدلول عليه بالقرآن الكريم ، وهو كتاب الله المنقول إلينا بالتواتر بين دفتي المصحف المتعبد بتلاوته ، وبسنة رسوله ، وهو ما صح عنه عن طريق الرواية بصحة الأسانيد ، وثقة الرواة الناقلين ، وبصحة معناه بحيث لا يتعارض مع غيره من أصول الشرع المنقولة المستقرة أما الوجود ففرق العلماء والمفكرون بين الواقع ونفس الأمر ، فالواقع هو ما يدرك بالحواس البشرية، والملاحظ أنه ثابت عبر الأزمان ، فما زال الماء سائلا لطيفا يسبب الري ، وتقبله الفطرة للطهارة والاستعمال، ومازالت الشمس ترى تسير في السماء من المشرق إلى المغرب ، وهكذا ومن الملاحظ أن الوحي وهو يخاطب الجميع يخاطبهم طبقا للواقع ، أي ما تدركه الحواس البشرية من غير واسطة ، بل يبني أحكامه على ذلك ولا يعارض ولا ينهى عن معرفة نفس الأمر أما نفس الأمر فهو مختلف وغير ثابت ، فالمقصود بنفس الأمر ما وراء الحواس البشرية ، أي الحياة المجهرية سواء الميكروسكوبية ، أو التلسكوبية ، فإن نقطة الماء تحت الميكروسكوب ستظهر بما فيها من آلاف أو ملايين البكتيريا مما تعاف النفس البشرية أن تقدم على شربه لو اطلع عليه عموم الناس. والقمر الذي تغنى بجماله الشعراء سطح مخربش قبيح تحت نظر التلسكوب ، وهاتان الصورتان للماء والقمر ليستا نهاية المطاف ، فإن ذرة الايدروجين فيها نواة ، وإلكترون يسير حولها ، والنواة لها مكونات .. وهكذا فإن الحقيقة التي عند الله في وجوده يكتشف الإنسان كل يوم منها ، ولا يحيط بها ، فإن قلنا إن نفس الأمر هو ما عند الله فإن الطريق بين الواقع المشاهد المحسوس بالحواس البشرية وبين نفس الأمر سيمر الإنسان فيه من مرحلة إلى مرحلة ومن اطلاع إلى اطلاع قال تعالى :وفوق كل ذي علم عليم ومن هنا كان لا بد للقيم الأخلاقية والاجتماعية أن تكون أقرب إلى الواقع المعيش الذي يتعامل معه الإنسان لا مع ما أدركه من نفس الأمر ، وكان لا بد أن تكون معرفة الإنسان مقيدة بالوحي والوجود معا ، فالوحي يرشد إلى خير نظام ، لأنه صادر من عليم بنفس الأمر دون أن يجعل نفس الأمر موضوعا ينظره المفكرون ، ولقد أخطأت الفلسفة الغربية حين انهارت أمام نفس الأمر وتشككت في قدراتها في القرن التاسع عشر حتى لم يبق للحقائق معنى ولا ثبات ، فالحق أن الواقع حقيقة ثابتة ، وأن الطريق إلى معرفة نفس الأمر هو المتغير

ليست هناك تعليقات: