الأربعاء، 25 أغسطس 2021

عن كتاب النماذج الأربعة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعايش

 

(النماذج الأربعة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعايش مع الآخر .. الأسس والمقاصد) لفضيلة الشيخ علي جمعة .

وفقا للرؤية التي يقدمها الكتاب فإن الأحكام الفقهية المتعلقة بالتعايش التي تنوعت عبر امتداد حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها صادرة من قاعدة أخلاقية ثابتة هي إرادة الخير والسلام .

لقد قدمت لنا السيرة الشريفة أربعة نماذج للتعايش : نموذج مكة المكرمة ، ونموذج الحبشة، ونموذج المدينة المنورة في عهدها الأول ، ونموذج المدينة المنورة في عهدها الثاني .

هذه النماذج الأربعة تتكامل لتقدم للمسلم منهجا أخلاقيا ثريا في موضوع التعايش .نموذج مكة المكرمة كان يمثل الاندماج المجتمعي، وحب الوطن وأهله ، وعدم العزلة، والصبر على الأذى، مع تمام حسن الخلق . ونموذج الحبشة كان يمثل أخلاقيات المسلمين كأقلية في بلدان أكرمتهم وآوتهم : أخلاقيات الكلام والتعاضد والنصرة والوفاء . ونموذج المدينة المنورة في عهدها الأول: كان يمثل أدبيات المواطنة والانفتاح . ونموذج المدينة المنورة في عهدها الأخير كان يمثل مقام العدل قبل السعي .

يحدثنا فضيلة العلامة علي جمعة عن هذه النماذج عبر مجموعة من المواقف النبوية الشريفة ويشرح لنا السياقات التي حدثت فيها هذه المواقف في توثيق وتأصيل علميين .

الرؤية الاجتهادية الجديدة التي يقدمها هذا الكتاب هي أن المراحل التاريخية للسيرة المطهرة هي من قبيل تقديم نماذج إنسانية متنوعة الظروف والأحوال لكن كلها تحكمها مبادئ ثابتة أخلاقيا جوهرها السلام وقوامها العدل والرحمة والصدق والوفاء , وتكامل هذه النماذج ينفي فكرة أن ينسخ المتأخر منها المتقدم .

فالمسلمون في نموذج مكة المكرمة لم يعتدوا على أهل مكة ابتداء لأن خلقهم هو عدم الاعتداء وليس لأنهم كانوا في حالة ضعف. كما أنهم حاربوا بعد ذلك قريشا ردا للاعتداء لا لأن المسلمين إذا قويت شوكتهم اعتدوا ولو كانوا كذلك لما سلمت منهم الحبشة قرونا مديدة .

يشرح الكتاب هذه الفكرة بإسهاب ويدلل عليها بأدلة تأصيلية وفقهية تتسق معها النصوص القرآنية والنبوية ويرتفع ما قد يرد من إشكالات تتعلق بالسلام كمقصد رئيس .

من أمثلة ذلك ما أجاب به فضيلة العلامة علي جمعة على الإمام الطاهر بن عاشور من أن قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين) ناسخ لحكم القتال الذي قرره حديث الإمام البخاري: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ...) . قال العلامة علي جمعة : " وليس في الحديث أمر بقتال المشركين لأجل إكراههم على الإسلام ، ولا يمكن القول أنه في زمن من الأزمان كان هناك إكراه في دين الله ثم نسخ ، وآيات القتال لم تنسخ آية النهي عن الإكراه ولا العكس، بل الإكراه ممتنع في كل وقت وفي كل مكان ، في السلم وفي الحرب، والقتال إنما هو لمن قاتلنا واعتدى علينا ، فالجهة منفكة . والحديث إنما هو لتحديد غاية يتوقف عندها القتال مهما كانت أسبابه ، فهو حديث رحمة وتسامح ... " ثم نقل فضيلته عن تفسير المنار ما نصه : " ...وإنه –أي الحديث- وارد في بيان الغاية التي ينتهي إليها قتال من يقاتلنا من الكفار... " .

والمسلم المعاصر داخل المجتمع المسلم أو خارجه قد يجد نفسه في ظرف إنساني يقارب نموذجا من هذه النماذج الأربعة أو يقارب نموذجين معا منها أو أكثر . وحينها فإنه يتحرك في مساحات التواصل الإنساني حركة تتسم بالتعايش السلمي واحترام الحق في الاختلاف .

كتاب مهم ويقدم فهما تجديديا ، وتحريرا نفيسا لتجليات السلم كمقصد أصيل في تشريع الأحكام الفقهية المتعلقة بفقه التعايش .

ليست هناك تعليقات: