السبت، 7 فبراير 2009

البرابكاند .. حوار مع متخصص

هذا حوار نشر في موقع aljazeeratalk مع الأستاذ أمين صوصي العلوي حول تخصصه في البرابكاندا .. الحوار فيه معلومات جديدة بالنسبة لي .. وهو فوق ذلك كلام من متخصص وأستاذ في هذا العلم .. أرجو أن تجدوه مفيدا وممتعا كما وجدته .. http://www.aljazeeratalk.net/portal/content/view/3992/82/
لماذا اتجهت إلى علم البرابكاندا؟
تخصصي الأصلي هو إخراج أفلام الكرتون، وما كنت أتوقع أن هذا الفن الذي يشكل الأطفال غالبية جمهوره سيقودني إلى البحث وراء الايديولوجيات والأدب السياسي ! بدأت المتاعب والعراقيل تواجهني في الدراسة حين قررت إخراج فيلم كرتوني عن الأندلس, لم يكن تصوري لحجم الإشكال آنذاك واضحا ولم أكن أعتقد أن الغرب الذي يحارب الرقابة على ثقافته في كل أنحاء العالم هو من يمارسها فعليا على ثقافة الآخر. بعد تخرجي قررت الاتجاه إلى الدراسة النظرية المعمقة في السينما وهنا بدأ اكتشافي لشيء اسمه البرابكاندا, علم له أصول وفروع ومنظرون أسسوا له ووضعوا له القواعد بناءا على تراكمات بحثية خرجت من رحم هيئة باسم Commisson Creel أنشئت بأمر من الرئيس الأمريكي الديموقراطي وودروو ولسن الذي قرر استمالة الرأي العام لقبول دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب ضد الألمان. قام الصحفي الشهير والتر ليبمان، وابن اخت فرويد السايكولوجي إيدوارد بيرنايز بطلب من الرئيس ولسن بممارسة برابكاندا ممنهجة خلال ستة أشهر أدت إلى هستيريا ضد الألمان أدهشت صانعيها . من هنا ظهرت مصطلحات مثل "روح الجماعة" و"هندسة الإذعان" على يد بيرنايز كأول اللبنات البرابكاندا التطبيقية.
إلى أي حد يمكن التمييز بين البرابكندا والبرابكندا التطبيقية؟
في الحقيقة ليس هناك فرق في الجوهر لكن التمييز يأتي على أساس الآليات التي فجرتها ثورة البرابكاندا التطبيقية إبان الحرب العالمية الاولى।إن أول الصعوبات التي تواجه الباحث عن تعريف لكلمة برابكاندا تكمن في التناقضات الاصطلاحية في المراجع اللغوية والتاريخية والتي مردها إلى التشويش الإيديولوجي المستمر والى قلة الأبحاث والدراسات الأكاديمية التي خصصت لها. هناك عامل آخر يجب الانتباه إليه للتوصل إلى تصور صحيح عن حقيقة البرابكاندا وهو النظر إليها كظاهرة تاريخية بتعقيداتها فكل محاولة للتبسيط توقع لا محالة في إشكالات معرفية. هناك مثلا من يضع الدعاية في اللغة العربية مقابل كلمة برابكاندا, وهذا في نظري خطا محض يحيل الفاعل إلى نوعين من الأخطاء أولهما اصطلاحي يحصر الكلمة في الدعوة إلى فكر أو موقف أو معتقد معين بوسيلة من الوسائل ومن هنا نقع في شرك اعد مسبقا يجعل كل الناس أمام هذه الظاهرة سواء شريطة أن يقوموا بنشر آرائهم! أما الخطأ الثاني فيكمن في فعل الترجمة ذاته حيث أن القائم بذلك يفترض مسبقا أن لهذه الكلمة مقابلا في الثقافة العربية! فيحمله ذلك على الوقوع في إسقاطات غير علمية. للخروج من كل هذه الإشكالات المنهجية يتحتم علينا التدقيق ليس لمجرد الترف الفكري او التقعر كما قد يخيل للبعض إنما تفرضه خطورة الموضوع لتأثيره المباشر في حركة الشعوب واختياراتها. بعد وضع الظاهرة في سياقها التاريخي وبيئتها الثقافية الاجتماعية كاول الخطوات لإدراك أبعادها الحقيقية ـ بغض النظر عن البحث في أصل الكلمة الذي قد نستأنس به في البحث ـ نجد أن انطباق الاسم على المسمى يظهر بجلاء أن للبرابكاندا مدلول ثقافي يربط المصطلح بواقع القارة الأوروبية. فلا يمكن تجاهل أن كلمة برابكاندا ذات الاشتقاق اللاتيني وتعني "النشر" قد وافقت الغرض الذي أسست من أجله مؤسسة بحجم Congregatio de Propaganda Fide بعد حرب الثلاثين عاما على يد بابا الفاتيكان غريغوار الخامس عشر من أجل نشر الكاثوليكية بكل الوسائل بغض النظر عن مدى مشروعيتها. ينبغي التوقف طويلا أمام هذا الحدث من حيث كونه محطة تاريخية مهمة يؤرخ بها لنشأة "البرابكاندا الفعلية" التي نقلت الظاهرة من الممارسة العشوائية إلى طور "المأسسة" فليس لجوبلز وزير البرابكاندا في حكومة هتلر الفضل في إنشاء وزارة بهذا الاسم كما هو سائد. مازالت المؤسسة قائمة بذاتها داخل الفاتيكان بينما انقضى عصر جوبلز وأغلقت وزارته وما تزال دول الحلفاء سابقا تجعل اسمه مرادفا البرابكاندا ! بين غريغوار الخامس عشر و جوبلز قرونا عرفت فيها أوروبا ثورات عسكرية ومدنية وحروبا دينية استيقظت فيها القارة القديمة على واقع جديد أفرزته الثورة الصناعية, نشطت فيه النقابات والأحزاب بشكل واضح وأضحت الضرورة تستوجب آليات جديدة لإبقاء السيطرة على الجماهير. بحلول القرن العشرين بدأ ما أسميه بثورة البرابكاندا التطبيقية وكان للسينما الحظ الأوفر في انطلاقها وخير دليل ما قدمه السينمائي الأمريكي وينسور ماكين في فلمه الكرتوني عن إغراق باخرة لوزيتانيا على يد غواصات الألمان. للعلم فهذه الحادثة التي مات فيها ما يناهز الألف من الركاب ولم يكن بينهم سوى مئتي أمريكي فقط كانت الذريعة التي اتخذها الرئيس ولسن لإقحام بلاده في الحرب العالمية الأولى. يعرف كثيرون أن السينما قد أدمجت منذ بداياتها في صناعة الحدث لكن قليل من يعلم –من غير المتخصصين - أن جزءا كبيرا مما نجده مثلا من وثائقيات رسمية لوقائع كالحربين العالميتين الأولى والثانية مفبركة. لم يتوقف الكذب على التاريخ عند هذا الحد بل تحول إلى مرض مزمن يعدي كل من استلهم أبحاث بيرنايز كجوبلز مثلا لذا فلا غرابة في مقولته الشهيرة اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس.
هل حقا للظاهرة ارتباط ببيئة معينة أم هي ظاهرة عالمية ؟
كل الشواهد التاريخية تؤكد ارتباط الظاهرة "بالغرب " وهنا لا أقصد الغرب الجغرافي بل الغرب ككيان ثقافي ايديولوجي يستلهم التاريخ الإغريقي الروماني ولو تناثرت أطرافه جنوبا وشمالا, فكل من يربط نفسه به ايديولوجيا تنتقل إليه أمراضه।
دعني هنا أقول وبوضوح إن البرابكاندا تاريخيا مرتبطة بالديمقراطية كأسلوب حكم يدعي إشراك العامة " الشعب" في القرار, من هنا وجدت آلية لتوهيمه أن لآرائه قيمة. إن التركة الرومانية التي يتغنى بها فوكوياما وهانتنغتون ويدعوان لتعميمها على العالم ولو بالقوة ! تحمل في طياتها "فيروس البرابكاندا" الذي وبفضل تطور وسائط الاتصال السمعية البصرية الحديثة انتشر حول الأرض ولم يترك بيتا إلا ودخله. قد يظهر من هذا الكلام أني أناقض نفسي بالقول ببيئية البرابكاندا وفي الوقت ذاته بانتشارها حول العالم, أعود فأقول أن الظاهرة من حيث الصناعة هي غربية لكنها تمارس على العالم بأسره بواسطة المؤسسات الإعلامية الضخمة مثل تلك التي يمتلكها روبرت موردوك و تيد تورنر ووالت ديزني... وشركات الإنتاج السينمائية العملاقة التابعة لها التي أصبحت اليوم امبراطوريات أخطبوطية تسيطر على أسواق التوزيع والإنتاج العالمية. إن ربط البرابكاندا "المتطورة" بالعالم الديموقراطي الليبرالي ليس من بنات أفكاري, ولا هو رأي ايديولوجي أنحاز إليه، بل هو نتيجة لأبحاث جادة مثل تلك التي قام بها الأكاديمي ايدوارد هيرمان رفقة عالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي.
كيف يمكن إلصاق البرابكاندا بالديموقراطية, و هي التي تكفل مساحة الحريات لتشومسكي وغيره ليقول ما شاء متى شاء؟!
إن تشومسكي يرد على هذا السؤال بمفهوم جديد يسميه "نموذج للبراباكاندا"propaganda model يبين فيه أن البرابكاندا تمثل بالنسبة للأنظمة الديموقراطية ما تمثله العصا للأنظمة الشمولية। فلا أحد يعبا بما يقوله تشومسكي أوغيره مادامت أقوالهم لا تصل إلى الجماهير।
فلا غرابة إذن حينما يلقب قادة البيت الأبيض مثلا كل من يحاول فضح خداعهم الإعلامي "بأمة الحقيقة الحقيقة" Comunity reality استهزاءا . هم يعلمون أن "قطعان" الجماهير المدجنة تصدق وسائط الإعلام الكبرى, فغرد خارج السرب كما شئت فلن يصدقك احد. داخل هذا النموذج الذي نتحدث عنه لا جدوى من القمع والترهيب لكسب الإذعان الفكري مادمت مسيطرا بشكل كاف على العقول, تدفع بها إلى الاتجاه الذي تريده, في الوقت الذي تريده, هذا كله وهي معتقدة بان اختياراتها ذاتية حرة . إن اختلاف أجهزة الإعلام الديموقراطية عن مثيلاتها في أسوء أيام روسيا الاتحادية أو تلك التي أدارها جوبلز النازي يكمن في استعمالها الذكي لمبدأي الرقابة والرقابة الذاتية وذالك بمحاصرة الخبر وحجبه بشكل جزئي مبتور بحيث أن الجمهور لا يحس بغياب الرأي الآخر. لنفرض مثلا أن المعلومة تسربت بشكلها "الأصلي" للجمهور وتفاعل معها, حينها تعمد وسائل الإعلام إلى السيطرة على الأوضاع بشكل سريع بتكثيف البرامج الحوارية حولها و"الريبورتاجات" لضمان توجيه الرأي العام وأعادته للخط المرسوم له مسبقا ولا عطاء انطباع بوجود الشفافية في الوقت ذاته, وهذا عين ما يعرف "بفن" التشويش الإعلامي .Desinformation
كيف يتم استدراج العقول...؟
في نظري لا يمكن تبرئة أصحاب هذه العقول المستدرجة كليا فهي وافقت ابتداءً على الانصهار في المجموعة بسبب الكسل ما يجعلها في حالة انقياد طوعي للنخب।

تظهر خطورة هذا الوضع بجلاء حينما نقرا مثلا التصريح الخطير للمدير العام السابق للقناة الأولى الفرنسية TF1التابعة للقطاع الخاص باتريك لولاي حيث يقول: " توجد عدة طرق للحديث عن التلفزيون. لكن إذا كان الأمر يتعلق "بالبزنس", لنكن واقعيين : في الأصل مهنة TF1 هي مساعدة كوكا كولا مثلا على بيع منتوجها. […] لكن لكي تكون الرسالة الإعلانية سهلة الالتقاط, يجب أن يكون دماغ المشاهد مستعدا: بمعنى آخر أن تتم تسليته والوصول به إلى حالة من الاسترخاء ليتهيأ بين رسالتين. ما نبيعه لكوكاكولا, هو وقت دماغ إنسان في كامل الاستعداد." يقولها لولاي صراحة "وقت دماغ إنسان في كامل الاستعداد" هذه هي المهمة الحقيقية لمؤسسته. وهم في هذا أيضا عالة على روما القديمة, فالتخدير عبر صناعة التسلية اليوم من التظاهرات الرياضية العالمية إلى الحفلات الضخمة التي يصرف عليها بأرقام فلكية إلى السينما والتلفزيون... ما هي إلا ترجمة بشكل متطور لما عبر به الشاعر جوفينال عن أسلوب الحكم الروماني في زمانه « panem et circenses »الخبز والملاهي.
ما مدى حقيقة قوة البرابكاندا وهل من سبيل للمقاومة ؟!
لمعرفة حقيقة هذه القوة يجب أن ننظر للوقائع: في سنة 1929 قام بيرناز بإنجاز ضخم لصالح واشنتن هل رئيس شركة السجائر American Tabacco. كان الهدف هو التخلص من القيود الاجتماعية التي تفقده نصف الأرباح. بدا بيرنايز باستشارة الأخصائي ابراهام اردن برل الذي نصحه باستعمال السيجارة كرمز لسلطة الرجل, ومن ثم اعتبار انتزاعها من طرف المرأة تحد لهذه السلطة. اختير لهذه الحملة استعراضات عيد الفصح التي تقام كل سنة بشوارع نيويورك. تم تجميع عدد كبير من المصورين والصحفيين أمام مجموعة من الشابات اخفين السجائر تحت ألبستهن, عند سماع الإشارة خرجن السجائر في وقت واحد وأشعلنها. أشغلت صور الفتيات الرأي العام وألهبت النقاشات حولها وبين عشية وضحاها أصبحت المرأة بإشعالها للسيجارة تشعل مشعلا للحرية! لا أخفيك أن مقاومة البرابكاندا شيء صعب لكنه ليس بالمستحيل, فوصفي لها بالفايرس سابقا وتعني السم باللاتيني لم يكن عبثيا, لأن قوتها في قدرتها على اختراق الخلايا والتكاثر داخلها ومن ثم يصعب التخلص منها. لهذا يجب في نظري اتباع أسلوب "طبي" في التعامل مع الظاهرة, يتم التركيز فيه أولا على تقوية المناعة بما يعرف ب "الثقافة المضادة " و ثانيا بصناعة " الترياق" من جنس السم. الترقيع هاهنا لا يفيد, المطلوب هو إنشاء مؤسسات ربحية لهذا الغرض بعكس ما ألفه الناس من تعويل على كل ما هو حكومي. ويكفيني هنا ان أرشد إلى ان النجاح الحقيقي لبيرنايز لم يكن داخل هيئة كريل الرسمية بل بدا بعد ذلك حينما أنشا مؤسسة للعلاقات العامة نقلت أعماله من طور التجربة إلى الصناعة.

هقو

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

حوار مهم وشيق، فعلا ..في الحوار يتضح جزء من الكيفية التي تنتقص بها الديمقراطية،عبر التلاعب بالرأي العام،واظن أن بعض الدول التي تنتمي للمنظومة الغربية لا تلعب البرابكاندا دور مؤثر في الانتخابات والاستفتاءات،لكن تشومسكي فضح بصورة واضحة ما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية.
الحوار افصح بشكل جيد عن كيف تتعامل وسائل الإعلام الحديثة مع الخبر،ليس بالتغطية عليه بل بتوجيهه والتشويش عليه،هذه نقطة مهمة: دوما ما كان تقييمنا لبعض وسائل الاعلام المؤثرة علينا مرتبط بمدى تغطيتها للأحداث..لا بكشف البرابكاندا التي توجه الحدث .
كم اتمنى من أ.أمين ان تكون له دراسات تطبيقية على بعض القنوات والصحف أو المنظومات الاعلامية –بشكل اعم- التي تؤثر علينا في الشرق الأوسط.