الاثنين، 22 ديسمبر 2008

الشك الشجاع

كان شكا في صلاح الأمور ، ولكنه شك يبحث ويضطرب ، وليس بالشك الذي يستجم ويستكين
هكذا تحدث الأستاذ العقاد في ( عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم ) عن علامات ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وأكد أن العلامات التاريخية هي العلامات التي دلتنا على تهيؤ العالم لاستقبال الرسالة ، علامات لا التباس فيها ، ولا سبيل إلى إنكارها ..
" شك يبحث ويضطرب ، وليس بالشك الذي يستجم ويستكين " كم هزتني هذه العبارة ، وجعلتني أتوقف أمام شكي ، وشك بعض الأقران ، فيما نشأنا عليه من مسلمات عقدية ، وفقهية .
هل كان شكنا هو شك الباحث المضطرب ، أم شك جبان تقاعس عن خوض صعوبات البحث العلمي الجاد؟
شك يكتفي بخطف المعاني الجديدة التي نكتشفها في كتب الفلسفة ، أو الفكر .. خطفها أو السماح لها أن تخطفنا أو تزلزلنا ، فننهزم أمامها لأنها مختلفة ، ومبهرة ، وتقودنا إلى عالم متحرر لم نعرفه قبلا .
ضرورة مرحلة
أ/ أنيس منصور في ( في صالون العقاد كانت لنا أيام ) يحكي لنا عن مرحلة تشبه المرحلة التي أحدثكم عنها : " في ذلك الوقت كنا نقف على الحافة ، الحافة بين الدين والخروج عليه ، وبين الإيمان والخوف منه . أو بين الفلسفة العلمية ، والدين غير المنطقي- كانت هذه هي التعبيرات المألوفة عندنا نحن الشبان الصغار من دارسي الفلسفة . وكنا نحاول أن ننقل للأستاذ ترددنا وتردينا ، ومخاوفنا واجتراءنا على الحق ، وتأكيد الذات وتضخيمها ، وكان الأستاذ – العقاد- يعرف ذلك كله . ويراه طبيعيا ، ويعبر عن ذلك كله أحسن وأجمل عندما يقول : إنني أقول للحياة نعم .. ولكل شيء آخر لا .. وليس من الحياة أن نرفض الحياة . ولا من الحكمة أن نقول : لا دائما ولا أن نقول : نعم دائما ولكن يخطىء كثيرا من يقول: لا .. كثيرا ، ويخطىء قليلا من يقول : نعم ..كثيرا . "
إذن الأستاذ العقاد كان يرى ذلك طبيعيا ، وكان يحميهم بكلامه من التضخيم النفسي السلبي لضرورة المرحلة ، ضرورة مرحلة البحث عن الحق.
لكن يبدو لي أن الأستاذ كان يثق أنهم سيسيرون في طريق الشك سيرا حثيثا ، سير الباحث الذي لا ينخدع بظواهر الأمور ، ولا يستسلم أمام معوقات الحياة النفسية والمادية ، الباحث الذي يقدّر الحقيقة تقديرا يجعله يبحث عنها بحثا محموما ، عند المتخصصين ، ولا يكتفي بأن يغرق في لجة شكوكه أو كسله أو أوهام التحرر الذي جد على أفكاره .
إيمان كالظن وليس ظنا
هذا في جيلهم هم ، فماذا عن جيلنا ؟ لقد ذكرني كلام الأستاذ أنيس منصور عن المرحلة التي مر بها بمراسلات جرت بيني وبين أحد الأصدقاء ..
كان الشك المستكين الخانع يموج في أسئلته عن المطلق والحقيقة ، لم أكن أملك إجابة لكني قلت له : أنت في القاهرة ، حيث العلماء الذين تشد إليهم الرحال ، فكيف لا تقصدهم ؟ لم يجب . وعدت على نفسي باللائمة ، فأنا مثله ، أين أنا من عقيدة تدعمها الحجج ، وتنقض كل ما يخالفها ؟
قلت له : فليكن إيماننا وجدانيا ، فقال : وهل يكفي ذلك ؟
كانت مراسلات لم يكتب لها أن تكتمل .. لكني اليوم وجدت الجواب ، نعم وجدته في برهان الإمام الجويني : نعم يكفي ذلك ، فالقدرة على نقض المذاهب المخالفة في العقيدة هذا عمل المتخصصين . . أما غير المتخصصين فيكفيهم اطمئنانهم إلى صحة ما يعتقدونه، هو إيمان قطعي شبيه بالمظنون ، وليس مظنونا ، هكذا فرق إمام الحرمين الجويني بين إيمان المتخصص ، المتمكن من الحجج ، القادر على تفنيد ما ينقضها ، وبين إيمان غير المتخصص ..
يقول الإمام الجويني في كتابه" البرهان في أصول الفقه " بعد أن تحدث عن أن الترجيح لا يجري فيما سبيله القطع ، وأن الترجيحات تغليبات لطرق الظنون ، فإن المرجح أغلب في الترجيح ، وهو مظنون والمظنون غير جار في مسلك القطع : ( العوام لا يكلفون بلوغ الغايات ، ودرك حقائق العلوم في المعتقدات ، وإنما يكلفون تحصيل عقد متعلق بالمعتقد على ما هو به ، مع التصميم، ثم عقدهم لا يحصل في مطرد العادة هجوما وافتتاحا من غير استناد إلى مسلك من مسالك النظر ، وإن كان غير تام ، وإذا كان كذلك ، فالترجيحات عندهم في قواعد العقائد قد تجري ، فإن عقودهم ليست علوما ، ومأخذها كمأخذ الظنون في حق من يعلم أنه ظان . وهذا الذي ذكرناه لا يناقض ما ذكره الأئمة ، فإنهم زعموا أن الترجيحات السليمة لا وقع لها في مدارك العلوم ، وما ذكروه حق لا نزاع فيه ، وإنما يكتفى من العوام بعقود سليمة ليست علوما فتجري عقائدهم مجرى الظنون في المظنونات ). البرهان/ دار الكتب العلمية -بيروت / كتاب الترجيح/ ص176.
التحلي بالأدب شجاعة أيضا
ومن العقائد إلى الفقه ، حيث يتقاطع ما هو فقهي مع ما هو عقدي ، فعندما تهتز قناعتي في مرحلة ما في تكريم الإسلام للمرأة عقلا ، وأسلم بها إيمانا ووجدانا ، وأعلن ذلك في مجلة الجامعة ، في مقالة عنونت لها ب(الراية البيضاء) .. تحدثت فيها عن أني أرفع الراية البيضاء استسلاما فالإسلام أعطى الرجل تشريف لم يكرم به المرأة ، ثم أقف عاجزة عن الفهم، كيف يستقيم أن ننبذ تراثا عظيما لصالح تفسيرات حديثة للنصوص تدّعي تكريم الإسلام للمرأة .. هكذا ..
وحين لم أستطع أن أفهم كلام شيخي عبد الله باهارون أيامها عن ابتعاد كثير من نصوص التراث عن نور النص ، ومقاصده . وعن اتخاذ النص الفقهي للمجتهد بمثابة نص الشارع ، وتتراكم النصوص البشرية ، في سلسلة يأخذ بعضها من بعض ، لتكون فقها غريبا عن المقاصد القطعية .
كانت تلك المرحلة هي ضرورة من ضرورات البحث ، بدأت بدراسة ما ورد في كتب التراث ، دراسة الطالب الذي يستصحب الأدب مع أهل العلم .. ولا يمنعه هذا الأدب من السؤال ، والدهشة ، والاستنكار ، لينتهي إلى التسليم بلا فهم ..
لكن الطريق لم ينته إلا ليبدأ من جديد ، والآن بعد مضي سبع سنوات من تخرجي من الجامعة ، أجدني أمام المزيد من الأسئلة ، ومزيد من الإيمان الشبيه بالمظنون وهو ليس بالمظنون . لكني على يقين أن الأدب عصمني أيامها عن الحيدة عن طريق الإيمان .. كنت أتساءل هل الأدب هو الذي عصمني أم الجبن ؟
وأجدني أفهم اليوم أن التسرع باتخاذ موقف علمي ما لطالب لم يكمل بحثه هو الجبن الحقيقي ، هو الجبن عن مواجهة ارتباكاتنا النفسية ، والبيئية ، وتجاوزها صبرا ومصابرة ، لنبحث بجد صادق ، وعزم لا يلين .

هناك 3 تعليقات:

غير معرف يقول...

مقالة رائعة ... تلمس حقيقة ما نعيشه
بالنسبة لما ذكرتيه عن المراة واتفهم تماما ما مررت او تمرين به الا انني اجد الجواب دائما في كتاب الله الذي وضع الخطوط العريضة لانسانيتي لامراة ولحقوقي والتساوي بين جميع الخلق الا بالتقوى وهو ما يحدد كرامتي ومن انا
اما اقوال العلماء مع خالص الاحترام وبعض التسليم فبشرية هم انفسهم لم يقصدوا ان تقدس او تؤخذ كما تؤخذ النصوص فما عارض روح النص لا يقبل
كرامتي كانسان اولا وكامراة ثانيا لا يحددها اشخاص او شخص مهما بلغ من العلم والكرامة فهي مكفولة لي من رب العالمين ولا اجد في كتاي الله تشريفا لرجل على امراة وان مد ذلك في التفاسير فهي بشرية

صفية الجفري يقول...

المسألة يا لانا ربما لا تكون بهذه البساطة لمن غرق في دراسة الحواشي .. هذه الرؤية التي ترينها بسيطة وواضحة لم تكن كذلك عندي .. لكني مع ذلك أرى ان ذلك الغرق كان مفيدا لأنه ساعدني على اكتساب ملكة ، وامتلاك بعض أدوات فهم التراث وهو سبيل مهم لمن أراد أن يقدم طرحا متينا .. أسأل الله القبول والسداد

غير معرف يقول...

السلام عليكم استاذتي
افهم تماما ما تقصدين

بانتظار المزيد من مقالاتك الجميلة