الأحد، 18 نوفمبر 2007

مداولات في الحجاب

أهداني مشكورا محمد ابن خالي في رمضان المنصرم كتاب :" المرأة بين الشريعة والحياة " للدكتور محمد الحبش ، وبدأت قراءة في الكتاب لم تكن كافية لأحدد موقفي منه ، ثم حالت بيني وبينه عوارض ، حتى أعادني إليه عمرو عزت بمقالته : " ماظهر منها أية معان تختفي وراء الحجاب وتنوعاته ومعاركه " ..وأود أن أقف أولا مع مقالة عمرو .. المقالة رصينة وهادئة ، لكنها ليست محايدة أبدا ، وهذا يحسب لها لا عليها فيما أرى.. لعمرو خلفية دينية واضحة .. مكنته من أن يكتب بروح من اقترب من النصوص الشرعية والتراث الفقهي ، اقترابا ساهم في تشكيل عقله ونفسه ، فجاء طرحه موازنا إلى حد كبير ،بالنسبة لمن لا زالوا متدثرين بالتراث لم يفارقوا ثوابته –وأنا منهم - كتب عمرو : " يمتزج الدافع الدينى مع اعتبارات الحشمة كدلالة للزى المحتشم مع غطاء رأس، فحتى الخطاب الدينى المعتدل أو التوفيقى يعقلن التشريع القائل بفرضية الحجاب، فيذهب إلى أن حكمة التشريع تهدف لـ"حجب الجانب الأنثوي" للمرأة لكى يبقى الجانب الإنسانى فيها - "الحجاب يظهر المرأة كإنسانة وليس كأنثى" على حد تعبير محمد حسين فضل اللـه - وذلك لكى لا تطغى دوافع الغريزة على التعامل بين الرجال والنساء فى المجتمع، ولكى يضع الحد اللائق لزى مقبول وصالح للحياة اليومية وخال من الابتذال. ولكن هذا التبرير لا يذهب فى أطروحته حتى النهاية، فلا يصل إلى أن ذلك قائم بالفعل فى أى مجتمع، حيث يحدد السائد من ملابسه نوعا من الضابط والحد بين ما هو عادى من الملابس، للرجال والنساء، وبين ما هو مثير أو فاضح أو غير لائق، وهو حد يختلف من مجتمع لآخر، كما يتغير زمنيا تبعا للتغيرات التى تلحق بهذا المجتمع. كما أن حجب “الأنوثة” يصلح أيضا تبريرا لأقصى أشكال الحجاب “النقاب”، الذى يرى من يذهب لوجوبه على المسلمة أن الوجه هو عنوان جمال المرأة وجاذبيتها. ولكن بالرغم مما سبق، ففى جانب الممارسة لا يخفى الحجاب "المحتشم" تماما أنوثة المرأة، فقط لا يظهرها بشكل مباشر أو كبير" ولي هنا وقفتان : إحداهما : أن عقلنة الأحكام التشريعية ، وجعل الحكمة التي تظهر للفقيه علة للنص ، يجر لمنزلق كالمنزلق الذي ناقش عمرو فيه كلام السيد محمد حسين فضل الله ، وكلام عمرو كلام وجيه لا غبار عليه ، إذا ما جعلنا الحكمة التي يستنبطها الفقيه علة يدور معها النص حيث تدور ، وأنا هنا لا أتحدث عن خصوص كلام الشيخ محمد حسين فضل الله ، ولا أظن أنه يخفى عليه مثل هذا الأمر ، لكنه نسق في الكتابة المعقلنة للنصوص كنسق الحجب الذي تحدث عنه عمرو عزت ، وهذا النوع من الكتابة لا يصمد في كل حين أمام مداولات العقل. إذن الأمر كما أفهمه له بعد تعبدي ثابت ومجاور للعقلنة ، ومداولاتها ، يثبت التعبد في (اللباس الذي تختص به المرأة والذي اصطلح على تسميته حجابا وسأناقش ذلك في سطوري اللاحقة) ، ويجاور ذلك التأويلات المتنوعة في حكمة هذا التعبد . الثانية : فيما أفهم فإن الحجاب ليس حجبا للأنوثة بل اعتراف بها في سياق الاحتشام : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) ومن ثم فالزينة المعتدلة ليست مضادة للحجاب بل هي جزء من ماهيته ، وقد وردت أحاديث تدعم هذا المعنى لا تخفى على الباحث المتأمل . ثم إن فهمي هذا مجاور للقول بالبعد التعبدي في الحجاب لا لاغ له . الدكتور محمد الحبش استعرض في كتابه الأقوال الفقهية الواردة في لباس المرأة ، وخلص إلى النتيجة ذاتها التي يؤكد عليها عمرو عزت في مقالته ، ومردها إلى صورة للحكم الشرعي يغيب فيها الجانب التعبدي ، بين عقلنة النص التي تحدثت عنها آنفا أو ربطه بسياقه التاريخي والمجتمعي ربطا يؤول إلى العقلنة . الدكتور الحبش يؤكد على أنه توجد نصوص فقهية تصب في كون الحجاب هو زي محقق للعفاف الاجتماعي وليس هناك ضبط له ، بتغطية الشعر مثلا أو الساق، وقد قرأت القراءة ذاتها التي قرأها الدكتور الحبش من سبع سنين مضت ، وناقشت ذلك مع شيختي فضيلة الدكتورة شادية كعكي فنبهتني إلى ثلاثة أمور : أحدها : الإجماع كضابط لقراءتنا للنصوص ، بحيث لا يقع العقل في عبثية قراءة النصوص . الثاني : أن الأقوال الفقهية لا يصح أخذها دون تمحيص لصحة نسبتها إلى قائلها ، ووزن هذا القول أصوليا وفقهيا . الثالث : أن ما ورد في باب الصلاة من أحكام ستر العورة لا يصح أن نجريه على إطلاقه في مسألة الحجاب مراعاة لروح التشريع . بقيت فكرة أخيرة أحب التنويه عليها ، هذه المداولات في شأن الحجاب ينبغي أن لا تجعل سيفا مصلتا على المخالفين للقول بكون تغطية ما عدا الوجه والكفين والقدمين فرض لازم على المرأة إلا ما استثني عند بعض أهل العلم ( من ذلك : الخطوبة و العلاج ) –والذي أعتقد صوابه وضلال ما عداه- فنتهمهم بها في دينهم ، فنسبة قول ما إلى الضلال لا يقتضي نسبة صاحبه إليه , وهذا مبحث ينبغي أن يولى مزيدا من العناية نظرا واجتهادا .

هناك 8 تعليقات:

Eric Matt يقول...


جزاك الله خيرا

أعجبني الطرح والتناول رغم تركيزي القليل

عذرا لانشغالي فترة عن المتابعة

تحياتي من ماناساس البلد

غير معرف يقول...

شكرا للمقال الجميل
لكن الا توافقينني ان ربط الحكم بعلته
لا يؤول بالضرورة الى التعبدية في الحكم ونفي عقلنته؟

صفية الجفري يقول...

العفو .. ادعيلي بالفتح والسداد في عافية
لم أفهم عبارتك ربط الحكم بعلته يفترض انه خلاف القول بان الحكم تعبدي غير معلومة الحكمة منه من قبلنا .. لو سمحت وضح لي السؤال ، وشكرا لك

صفية الجفري يقول...

العفو .. ادعيلي بالفتح والسداد في عافية
لم أفهم عبارتك ربط الحكم بعلته يفترض انه خلاف القول بان الحكم تعبدي غير معلومة الحكمة منه من قبلنا .. لو سمحت وضح لي السؤال ، وشكرا لك

غير معرف يقول...

عفوا لهذا التأخر الطويل في الرد

كلامي فعلا غير واضح
اقصد أنك اشرت في قولك
"وجعل الحكمة التي تظهر للفقيه علة للنص"
للتفريق المعتاد فقهيا بين الحكمة والعلة للحكم
وان ربط الحكم بحكمته هو عقلنة لا ينبغي لها ان تحل محل التعبد
ولكني اقول:ان ربط الحكم بعلته ايضا-وليس بحكمته- هو عقلنة للنص ينفي التعبدية بالشكل الذي خشيت منه
وبالتالي لامناص من البحث عن معنى مختلف للتعبدية-في مثل هذه الحالات- لايتنافى مع عقلنة النص

صفية الجفري يقول...

نعم ربط الحكم بعلته عقلنة للنص ، وقد تحجب روح النص ، تحدث عن ذلك بإيجاز الدكتور أحمد الريسوني في مداولته عن الاجتهاد هو والأستاذ محمد جمال باروت ، الكتاب من إصدارات دار الفكر المعاصر ضمن سلسلة حوارت لقرن جديد ، ستجده في جرير إن لم يكن الكتاب لديك ، طيب كيف نحل هذا الإشكال ؟ كأن الأمر أبعد من قصر الحكم على علته والنقاش حوله من خلالها ، العلة وسيلة للضبط ينبغي أن تتسق مع ( الثوابت ) هذا الموضوع الذي أخذ منا نقاشا طويلا أنا والأخ عمرو عزت ، و لعل الله يفتح علي فيه بفتح .. لازلت عازمة على مزيد من الدراسة لهذه المسألة .. دعواتك .. وارجو أن تفيدني بما لديك .. وأهلا بك أخا عزيزا

غير معرف يقول...

شكرا لك
اولا
انا تعرفت على مدونتك عن طريق صديقي عمرو عزت،وقد قرأت مقاله في الحجاب
ثانيا
كتاب الريسوني وباروت عندي وان لم اقرأه الا تصفحا،ولكن سأرجع اليه
لكن فيه كتاب تعليل الأحكام لمحمد شلبي، اذكر من قديم انه بحث التعليل بالحكمة ويبدو انه تعب في البحث،وهو مرجع مهم ربما تعرفيه
ولا اعرف هل يباع؟اذكر رأيته في مكتبة الملك عبدالعزيز هنا بالرياض

صفية الجفري يقول...

العفو .. لم اقرأ كتاب تعليل الأحكام وسأحاول الحصول عليه ، شكرا لأنك دللتني عليه .. وأنتظر منك فضلا مشاركات أكثر تفصيلا أفيد منها ويفيد منها القارىء
مرحبا بك