الأحد، 16 فبراير 2025

التحديق في حقيقة الموت وقراءة حول كتاب عن الأسى والتأسي*

 

ظللت طول حياتي أهرب من التفكير في الموت، موتي وموت أحبابي، واجهني الموت في أحبتي مرّات، أجدادي رجالا ونساء، بعض خالاتي وقراباتي، أبناء عمومتي، أحباب أحبّتي-رحمهم الله جميعا- لكنّي كنت أصرف عقلي عن الحضور التام، أنشغل بالدعاء والذكر والمواساة لكن كل ذلك في مستوى لا ينفذ إلى أحشائي، إلى أن اختار الله أن تغيب ابتهاج – رحمها الله -ابنة خالي عن دنيانا في إبريل 2024م وهي في التاسعة والعشرين من عمرها.

ابتهاج حاضرة في خاطري، سخية النفس واليد، ذكية، ومثابرة، خفيفة الروح، ضحكتها تشرح القلب، أنعم الله عليها بتدين أصيل غير متكلف. لقد كان آخر اجتماعي بها -حسّا - في بيت جدي، قبل أن يشتد عليها المرض الذي لم نعلم أنه كان مرض الموت. طلبت ابتهاج للجميع عشاء وحلى على حسابها، وتناقشنا حول حقوق المرأة في الإسلام، وسهرنا نشاهد مسلسلا تركيا لطيفا يتناول فكرة الانتقال عبر الزمن. ولعل هذه المقالة تكون بعض تكريم لذكراها، وسببا لدعوة صالحة تؤنسها، وثوابا ممتدا في ميزان حسناتها.

لقد ظللت أراوغ فكرة الموت، لا أسمح لنفسي بالتفكير العميق فيها، أشعر حقا أنّي لا أطيق مواجهتها، حتى رأيت ابتهاج -رحمها الله- عيانا، رأيت في وجهها معنى التماهي بين الموت والحياة، رأيت في وجهها اتحادهما، واجهت حقيقة إيماني بالحياة الآخرة؛ لأني شعرت وأنا أهمس لها في مسجّاها أنها تسمعني حقا، وأن الأمر أكبر من محدودية الجسد، الذي يؤدي دوره في زمن معيّن؛ ليغادر بعدها ويترك جوهرنا الإنساني، الروح التي هي حقيقتنا الخالصة.

تدريب وجودي

لا زلت أهرب من مواجهة التفكير في موتي إلا من حيث كونه فكرة مجرّدة، لكنّ موت ابتهاج جعل فكرة الموت حاضرة أمامي كل يوم، تشكّل جزءا مهما من بواعث قراراتي، مع شجن استقر في قلبي لا أظنه سينقضي، لقد كنت أفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم :" أكثروا ذكر هادم اللذات"[1] على أنه حثّ على الاستقامة بتذكر العاقبة: الموت، لكني اليوم صرت أفهم أن في الحديث أيضا معنى أوسع، وهو مساعدة قلوبنا على التأسي والتصبّر وربّما الرضا وكمالاته عند مواجهة مصيبة الموت في أنفسنا ومن نحب، الحديث الشريف هو تدريب وجودي يساعدنا على التماسك أمام مصيبة الموت ومقدّماتها، أو يحمينا من شتات الجزع الذي قد يسلب صاحبه تصبّر الإيمان.

 نعم، ألم الفقد هو من شؤون القلب، التي لها وقعها الخاص الذي يختلف من إنسان إلى آخر، لكن حضور المعنى أمامنا ، وتذكير أنفسنا به، يجسّر الفجوة بين العقل والقلب، فيعضد العقل القلب، وينوّر القلب العقل بنور الرحمة.

في كتاب" التحديق في الشمس" يقول إرفين د. يالوم إن فكرة الموت تنقذنا؛ لأن حضور فكرة الفناء أمامنا يجعلنا نركّز على أن نعيش حياة مسؤولة، نتحقق فيها بهويتنا القيمية، ونحيي فيها معاني الرحمة والتعاطف.

وهذا المعنى الذي ذكره د. إرفين أرى فيه تجليا آخر من تجليات الحديث الشريف" أكثروا ذكر هادم اللذات". حضور" الموت " أمامنا، هو تجربة يقظة كما يقول إرفين د. يالوم تحررنا، وترتّب دواخلنا.

 الموت والفقد والغضب

        يتصل بلاء الموت ببلاء كليّ أوسع هو بلاء الفقد والنقص، يقول الله تعالى: " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين"  ( البقرة: 155)، وينبّه كتاب" عن الأسى والتأسي" إلى أن الألم المتصل بالحزن على موت من نحب هو ألم  مركّب من مشاعر فقد متداخلة، فقد الحضور الجسدي، وفقد كل دور في حياتنا كان يقوم به من غابوا عنّا، وفقد كل معنى كان يمثله لنا حضورهم في حياتنا، ونحن نحتاج إلى أن نتوقف مع كل معنى يمثله أحبابنا لنا، وأن نعطيه حقه في الإحساس به وعدم تجاهله أو إنكاره.

وقد نقاسي الفقد في صورة مختلفة حين نختار أن نغادر زواجا أو صداقة أو جيرة ، وحينها يعترينا أسى من نوع خاص، لا نأسى على الأشخاص فنحن لا نفارق غالبا إلا بعد أن يفارقنا العشم فيهم،  لكنّنا نأسى على حسن ظننا فيهم، ونأسى على فوات العمر في علاقات استنزفت أرواحنا، وعلى بعثرة القلب ووجعه، وعلى علاقات نحبها متصلة بهم لم نعد قادرين على وصلها ، وعلى معان ارتبطت بهم قد يظهر لنا صعوبة تحصيلها مع غيرهم ، وهذا النوع من الفقد قد يشعل في القلب نار الغضب، غضب الشعور بالفوات والعجز. لقد أرشدنا الشرع الحكيم إلى الصبر والتصبّر، وحدثنا عن ثواب الصابرين، والشرع في مجمله نسيج معرفي متماسك يؤكّد على إلغاز الأقدار في حياتنا، ويطلب منّا قبول هذا الإلغاز، والتعامل معه كحقيقة مطلقة تتصل بحقيقة أن خالق الأقدار حكيم رحيم لا يُسأل عما يفعل.

الإشكال الذي يقع فيه بعضنا هو الارتباك حيال شعور الغضب الذي يتملكه، فإذا              ما شارك مشاعره بعض أهل التديّن فإنهم يشعرونه بالعار والخزي لأنه لم يتأدّب مع أقدار الله     عز وجل، ويكررون الحديث عن الصبر، ويتوهمون أن الصبر إنما يكون على مشاعر الألم وحدها؛ لأنها في تصورهم هي المشاعر الوحيدة التي ترتبط بألم الفقد ( موتا أو مفارقة، حسّا أو معنى )، وقد نبّه الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين إلى ارتباط الغضب بألم الفقد[2]، وإلى أن الصبر رحلة مستمرة يذكّر المسلم فيها نفسه بثواب الصبر، وحتميّة الموت، ورحمة الرحمن، وأن اللقاء آت ولو بعد حين؛ لينتقل المسلم بالتصبّر إلى الترقي في منازل الصبر ثم الرضا.

 ويتدرّج المسلم في مكابدة الألم وما يتصل به من مشاعر الغضب أو الرغبة في الانعزال أو الاكتئاب إلى أن يصل إلى التعايش مع الألم تعايشا يتجاور فيه الألم مع سائر المشاعر التي تعترينا ونحن نتقلّب في معايشنا وعلاقاتنا وحياتنا.

ونجد في كتاب الفروق للإمام القرافي تنبيها نفيسا إلى الفرق بين الرضا بالقضاء وعدم الرضا بالمقضي به،  فيذكر أن الرضا بالقضاء فرض وهو شرط إيمان، وهذا لا يستلزم أن يشعر المؤمن أنه راض بالمقضي، قال الإمام القرافي: والفرق بين القضاء والمقضي، والقدر والمقدور، أن الطبيب إذا وصف للعليل دواء مرّا أو قطع يده المتآكلة ، فإن قال المريض: بئس ترتيب الطبيب ومعالجته، فهو تسخط بقضاء الطبيب وأذيّة له، وإن قال هذا دواء مرّ قاسيت منه شدائد ، وقطع اليد حصل لي منها آلام عظيمة مبرحة، فهذا تسخط بالمقضي الذي هو الدواء والقطع لا القضاء الذي هو ترتيب الطبيب ومعالجته فهذا ليس قدحا في الطبيب. فنحن مأمورون بالرضا بالقضاء ولا نتعرّض لجهة ربنا إلا بالإجلال والتعظيم، ولا نعترض على عليه في ملكه [3]، وهو القادر الحكيم الرحيم.

إن الصبر على مصيبة الفقد، هو رحلة لتقبّل المقضي به، وهو أمر منفصل عن تسليم المؤمن لربّه بقضائه وأنّه سبحانه قادر حكيم.

 فإذا وردت على القلب واردات التحيّر والغضب، ذكّر الإنسان نفسه بأن التسليم هو مدار الإيمان، وأن الله لا يقضي في ملكه إلا الحكمة، ظهرت لنا هذه الحكمة أم لم تظهر، فيصحح المؤمن متعلّق مشاعره، يعترف بالمشاعر التي تنهكه وصلتها بالمقضي أو الابتلاء الذي قدّره الله عليه، وأن هذه المشاعر من عدم الرضا بالمقضي هي جزء من طبيعته الإنسانية، لا يلام عليها،  ويذكّر نفسه بموقفه الإيماني من القدر، وأن إيمانه بقدرة الله لا ينفك عن إيمانه بحكمته ورحمته،  ويكون الفرق بين الرضا بالقضاء والرضا بالمقضي حاضرا في قلبه؛ فإذا تحرر له الفهم، واستقام، قطع طريق التصبّر على بصيرة.

لدينا هنا إذن منزلة ثابتة يشترك فيها أهل الصبر مع أهل الرضا وهي منزلة الرضا بالقضاء، ثم يفارق أهل الصبر أهل الرضا في أن أهل الرضا يقبلون الألم قبولا تامّا بحيث لا يتمنّى أحدهم غير ما هو عليه من شدّة ورخاء[4]، وهذه منزلة غير واجبة، لكن أهل الصبر يكابدون مشاعر الألم بكل تجلياتها من غضب ونحوه، ويتدرجون في منازل الصبر إلى أن يفضي بهم التصبّر إلى التعايش السلس مع الألم.

أسى شخصي

اختتم كل من إليزابيث كوبلر روس وديفيد كيسلر كتاب " عن الأسى والتأسّي" بصفحات عن ذكر الأسى الشخصي لكل منهما، وشكر مترجم الكتاب شادي عبد العزيز في آخر صفحة من الكتاب أصدقاءه في سطور ذكر فيها أن ترجمة هذا الكتاب هو نتيجة رحلة لفهم أساه الشخصي، وأن النجاة الفرديّة ثبت أنها مستحيلة، واحترمت هذه المزاوجة بين الشخصي والعام؛ لأن الحديث عن الموت هو مسألة شخصية أولا. يقع كتاب " عن الأسى والتأسي" في 279 صفحة، وهو من إصدارات "ديوان" في عام 2024م ، ونشر الكتاب بالإنجليزية لأول مرة في عام 2005م .

"عن الأسى والتأسي" كتاب يعلّمنا كيف نتصبّر، يشرح الكتاب المشاعر التي يمر بها من أصابته مصيبة الفقد، ويذكر لنا أن هذه المشاعر تمر غالبا في خمس مراحل: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والتقبّل. وينبّه على أن هذه المراحل الخمس ليس القصد منها حشر العواطف الفوضوية في أطر أنيقة، وإنما هي أدوات لمساعدتنا على تأطير ما قد نشعر به، والتعرّف عليه، لكنها ليست محطات ضمن مسار زمني خطّي للأسى، فلكل إنسان أساه الخاص به، وسيرورة هذا الأسى تختلف من إنسان إلى آخر، وهذه المراحل إنما هي أشبه بتضاريس للأسى تساعدنا على أن نكون أكثر جاهزيّة للتأقلم مع الحياة والفقد.

في سعينا للتعامل مع ألم الفقد، قد تأخذنا مشتتات (الإنكار، والغضب، والمساومة) لتجنبنا الانغماس في الحزن – الاكتئاب، يقول المؤلفان عن الاكتئاب: " فهو يبطئنا، ويسمح لنا أن نتأمل الفقد حقا، وهو يجعلنا نعيد بناء أنفسنا ... ويصحبنا إلى مكان أعمق في روحنا ليس من عادتنا اكتشافه".

استوقفني حديث الكتاب عن مرحلة الغضب، وأن شعور الغضب غالبا ما يكون مرتبطا بمشاعر أعمق من شعور الفقد، وأن تجاوز الغضب قد يحتاج إلى رحلة تتصل باكتشاف " علّة" قديمة في النفس، فإذا داوينا هذه العلّة، هدأت النفس، وسكنت: " إذا تتبعت مشاعرك إلى أصولها ستجد إحساسا بخطأ ما يصاحبك طيلة عمرك، وقد يتيح الأسى لك الفرصة لتعاف أكبر بكثير".

 يشرح لنا الكتاب كيف نتعامل مع كل مرحلة من هذه المراحل، لنصل إلى التقبّل، وفيه لا ننكر مشاعرنا، بل ننصت إلى احتياجاتنا: نتحرك ونتغير وننمو، وربما لا ينطوي الوصول إلى التقبّل إلا على أن تكون أيامنا الطيبة أكثر من أيامنا السيئة. في التقبّل نجد العزاء في خضم الألم، ويظل الألم حاضرا مع بقيّة مشاعرنا، يجاورها، جيرة تزكية ورشد أو يقظة كما يعبّر إرفين د. يالوم.

الأطفال والتأسي

        حكى معالج نفسي متخصص في الأسى عن جانيس التي يبلغ عمرها سبع سنوات، والتي توفيت أمها بالسرطان، أن حزنها لم يفارقها رغم مرور السنوات، وكلما سألها أحد: لماذا أنت حزينة إلى هذه الدرجة؟ قالت: أمي ماتت. وكان ذلك سببا كافيا لدى أغلب الناس، وأبيها، الذي اعتقد أنها ستتجاوز ألمها مع مرور الوقت.

        وفي الصف الأول ثانوي، وعندما كان المعلم يتحدث في درس مادة الفلك عن النجوم التي تشكّل كوكبة السرطان، بدأت جانيس تدمع، لاحظ المدرس ذلك ، وسأل جانيس عن بكائها بعد انتهاء الدرس فقالت: أنا من مواليد برج السرطان وأمي ماتت بسببي.

        لقد عاشت جانيس ثمانية سنوات وهي محمّلة بعب ذنب غير عقلاني.

        ينبّهنا الكتاب إلى أهمية ألاّ ننسى ونحن في خضم الأسى أن نتحدّث مع أطفالنا عن تجربة الفقد التي يمرّون بها معنا، وكما نمضي وقتا كبيرا في تعليم أطفالنا شؤون الحياة فلا ينبغي أن نغفل أن نعلمهم شؤون الموت.

        يذكر الكتاب عدة أمثلة تتناول هذا الموضوع، لكنّي لا أجدها كافية، كيف أتحدث مع ابنتي في الثانية عشرة عن موضوع الموت، كيف أفعل ذلك بدون أن أثير فزعها، ربما يكون الطريق عبر التحدث عن جدّها لأبيها رحمه الله، ما أريد أن أقوله هنا هو أننا بحاجة إلى عالم نفس مسلم بصير يشرح لنا كأمهات وكآباء كيف نحدّث أطفالنا عن الموت وشؤونه.

        في معرض الكتاب في جدّة في ديسمبر2024م طفت بين دور النشر المتخصصة بأدب الطفل، أبحث عن كتب تتناول قضيّة الفقد، ووجدت كتبا تتناول الفقد بعد حدوثه لا قبله، هل تعد كافية في تناول الموضوع؟ لا أظن.

تناولت هذه الكتب مسألة الفقد في قالب قصصي، وحظيت بإخراج جيّد وبعضه فاخر، والقصّة التي اشتريتها لابنتي إذ وجدت أنها تناولت الموضوع بذكاء وعمق أكثر من غيرها، هي قصة: أنا والوحش، تأليف: عائشة الحارثي وهي كاتبة عمانية، ورسوم: براء العاوور، ونشرتها في إخراج فاخر دار أشجار الإمارتية.

 

كيف نساعد؟

        يقص علينا كتاب:" عن الأسى والتأسّي" حكاية امرأة كانت تبكي في مكالمة هاتفية مع والديها بعد أن فقدت زوجها. وعندما سمعت الأم نحيبها، قالت: علينا أن ننهي المكالمة الآن. ولحسن الحظ، هرع الأب إليها قائلا: لا، سأظل على الخط، حتى لو ظلّت تبكي.

        وردت هذه الحكاية في سياق الحديث عن أن " البكاء في العلن" هو مسألة ثقافية، وأن المجتمع الغربي يعد الدموع ضعفا، والوجه الجامد قوة.

        في نموذجنا المعرفي، يعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البكاء علنا هو من علامات رحمة القلب، يروي أنس بن مالك رضي الله عنه: " ...ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف إنها رحمة"[5]

        نرتبك أحيانا أمام بكاء أحبتنا، وقد يكون ما يحتاجونه منّا هو أن يشعروا أننا مستعدّون لمجالستهم صامتين وأننا نرحّب بذلك، ولا يثقلنا أن نشاركهم أوقات الحزن ولا صمته، وأن الوقت الذي يمضي معهم هو تعبير صادق عن محبتنا لهم، ومساندة منّا هي واجب علينا لا منّة فيها    ولا تفضّل.

        قد يساعد تشجيع أحبتنا على التحدث على أن ينظموا مشاعرهم، وربما تواسيهم كلمة حكيمة يوفقنا الله إليها، نحن لا نعلم ذلك إن لم نسألهم، خوفنا من أن " نزيد ألمهم " يجعلنا نتجاهل أي حديث معهم عنه، ونغفل أن ألم الفقد لا يغادرهم، ولا يزيده سؤالنا، نحن فقط بحاجة إلى أن نتعرّف على ما يحتاجه منّا أحبابنا، وألا نفرض عليهم طريقة مقولبة للتعامل مع أساهم، ربما يناسبهم الصمت معنا والحديث مع غيرنا، وربما يناسبهم أن نقول لهم إننا نذكر من فقدناه بالدعاء ونتصدق عنه ونذكّر أنفسنا بالأوقات الطيبة معه فندعو له.

        لقد قصّرت مع كثير ممن أحبهم؛ لأني لم يكن لديّ هذا الوعي بهذه الطريقة من طرق المواساة والتعاضد، وتعلّمت من كتاب:" عن الأسى والتأسي" أن الحديث الحكيم عن الفقد يساعد ولا يؤذي.

        ونبهني إرفين د. يالوم في كتابه " التحديق في الشمس" إلى أن المواساة فعل "محدود" رغم أهمية أن يكون مستمرّا مع من نحبهم، نحن أحيانا نفتقر إلى التواضع عندما نعتقد أن المواساة كافية للتحرير من الألم، وفي المقابل فإن من يمر بتجربة الفقد قد تلتبس عليه مشاعره، فيشعر أنه لا يرتوي من مواساة؛ لعجز فيه، وحقيقة الأمر هو أن ألم الفقد ليس مرضا لنرتجي الشفاء منه، إنه شعور أصيل لا يفارق شعورنا بمحبة من فقدناهم، وأعلى ما نرتجيه في التعامل مع ألم الفقد هو تقبّله جارا طيبا ومنقذا ومحرّرا.

يتحدّث إرفين د. يالوم عن رحلته العلاجية مع أرملة تبلغ الستين من عمرها، يقول: " فقد فهمَت... حدود ما يمكنها الحصول عليه من الآخرين. ومع أن التواصل يخفف الألم، فإنه            لا يستطيع أن يكبت الجوانب الأكثر إيلاما في الحالة الإنسانية. وقد اكتسبَت قوّة من هذه الفكرة، القوة التي يمكنها أن تحملها معها إلى أي مكان تختار أن تعيش فيه. " .

        في الكتاب تفاصيل كثيرة تعلّمنا كيف نستعد لتقلبات الأقدار، وتساعدنا لنفهم ما قد يمر به أحبتنا من أطياف مشاعر الفقد، وتساعدنا لكيلا نؤذيهم من حيث لا نشعر، وقد تعلمت أننا نحتاج أحيانا إلى أن نتعلّم كيف نكون رحماء، وهذا الكتاب فيه رحمة وحكمة.

                                                        حرر في: 10 نوفمبر 2024م

* نشرت المقالة في مجلة الجوبة العدد86 في غرة شعبان 1446هـ الموافق 31 يناير2025م

 



[1] رواه الترمذي.

[2] إحياء علوم الدين ، كتاب الصبر، مج 7/ ص226.

[3] الفروق، قاعدة الفرق بين الرضا بالقضاء وبين قاعدة عدم الرضا بالمقضي، مج3-4، ج4، ص228.

[4] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، شرح الحديث التاسع عشر ، ص 211.

[5] رواه البخاري.

أغاني ودراما

 اكتشفت أمس شيئا لطيفا آنسني جدا، اكتشفت أن علاقتي بالدراما تشبه علاقة أمينة السحيمي بالأغاني ، الدراما الجيدة تعلمني بطريقة عميقة ، تحفر في روحي، تمدها بحياة جديدة كل مرة..

أشاهد هذه الأيام مسلسل this is us ، رحلة يومية من تقليب الأفكار ومراجعتها، حسنا والبكاء أيضا، كل يوم ، أبكي ليس فقط في المشاهد الحزينة، ولكن شجنا لأن المسلسل يقدم الطيبة في صورة "تعلّم" ، الإنسان الطيب يتعلم كيف يكون أفضل مع أهله وأحبابه، يتعلم، ويحاول، ويتعاطف ، ويحاول أن يفهم ويساند، كل حلقة هي رحلة تعلّم وجداني تنفذ إلى أعماقي، تعلّم كيف أتعلم عن نفسي وأقبلها وأرفق بها في رحلة تهذيبها، وتعلم كيف أكون أكثر طيبة ومسؤولية تجاه من أحبهم.
لا أدري كيف تفعل بي الدراما كل ذلك، لكنها تفعله، وكل مرة أندهش من نفسي كما أندهش عندما أقرأ لأمينة السحيمي نصّا عن أغنية أعجبتها.
اتصلت بصديقتي إلهام الحداد لأحثها على مشاهدة المسلسل لأنه سيلمس بقوة جانب الأم فيها، وهي أم جدا - ولدت إلهام في ٢١ مارس لا دليل أقوى من هذا - لم ترد إلهام، وسيصلها كلامي عبر هذه السطور .
أنادي آمنة ابنتي لتشاهد معي بعض المشاهد، ليس فقط لجمالها وعمقها وهذا مقصد أهتم به لأنه جزء من حرصي على تغذية موهبة الكتابة عند آمنة، وليس لأني أستمتع جدا بمناقشة آمنة وتقليب الأفكار معها فحسب ، ولكن لأني بهذه المناقشة أتعلم أكثر كيف تفكّر ابنتي وكيف أكون أقرب إليها وكيف أكون لها كما أرجو أمّا مساندة وملاذا آمنا .
هل تفعل بي القراءة كما تفعل الدراما ؟ نعم، وأحيانا أشعر أن الدراما قراءة وأكثر ..
بقي أن أقول: لا أظن أن أحدا كتب عن الأغاني كوسيلة استبصار ووعي كما كتبت أمينة السحيمي، تفعل بي الدراما كما تفعل الأغاني بأمينة، ونكتب عن ذلك لأن الكتابة تحيينا.

الجمعة، 27 ديسمبر 2024

المحدوديّة حياة الحب

حب الآخر، يعني فرصا غير محدودة، هذا في بادي الرأي ، لكن عند التدبّر، أن تعطي أحدا فرصا غير محدودة يعني أن تقوّض الحب كمبدأ.

‏حبك للآخر لا يمنحه الأمان إلا إن لم تهدر حبك لنفسك. وتجعل هذا الحب - أي حبك لنفسك-أساسا ومنطلقا لعلاقتك بها ثم بكل من سواك وكل ما سواك .

‏"الحب" المطلق للآخر، يكرّ على حقيقة الحب بالبطلان، المحدودية حياة الحب، تصونه، وبها يزدهر.

‏حبك لآخر  ينبغي أن تكون نهايته عند نفاد قدرته على أن ينفك عن " الانشغال الشديد بنفسه الذي يحرمه القدرة على التعاطف"  .

"فستان الشيفون" وأكثر

 

هدى حمد ⁦‪@hudahamed81 في " سأقتل كل عصافير الدوري " قدمت عملا قصصيا مهما، أجده فارقا ، كتابة من عمق البيئة العمانية ، بيئة المكان والزمان والثقافة، وفي نفس الوقت هناك مشترك إنساني لا ينفك عن هذا العمق المحلي.

          شعرت أني أعيش في عُمان، أتنفس هواءها، وأبصر شجرها وصحراءها وحقولها، ويلفحني حرّها وبردها، وفي نفس الوقت أنا هنا في مكاني في جدة ، والأفكار تشبهني ، تشبه تأملاتي في الناس، والأقدار، وتشبه الالتباسات الفكرية التي أفككها كلما نضجت خبرتي في الحياة.

          منذ بداية قصة : ( غابة تحيط ببيت) قلت لنفسي ، أنا أمام كتابة محكمة، وسرد منساب، وتمر السطور، لأضيف وذكاء أيضا، وعناية في اختيار الكلمات لتشبه شخصيات القصة ، ،ما هذه البراعة ، ورغم أن القصة لا تشبه ما أميل إليه من قصص ، إلا أني وقعت تماما في أسر الكتابة البديعة ، إلى أن انتقلت للقصة الثانية: " أولاد الجن يلعبون"، هنا وعي نفسي عال، وخبرة بتعقيدات النفس الإنسانية ، ثم وصلت إلى القصة الثالثة ، " فستان الشيفون" ، أقرأ وفي داخلي فضول ، هدى حمد كاتبة تثير في داخلك حماسا معرفيا لما ستقدمه لك نصوصها .

          " فستان الشيفون" قصة مكتوبة ببراعة سردية ، ومع ذلك بدت لي كمقالة فكرية مهمة، وهذه قدرة عالية لا يمتلكها إلا قليل .

          هدى حمد في " فستان الشيفون" تقول إن قولبة العلاقة بين الجنسين في صيغة معينة على أنها الصيغة الوحيدة التي تحفظ للمرأة حقوقها الإنسانية ومن ثمّ تؤدي بها إلى العلاقة المتوازنة مع الرجل ، هذه القولبة تفتقر إلى النضج والتواضع معا، فقد تجد المرأة في الزواج بطريق تقليدي ما لا تجده في الزواج عن حب ، بل إن القصة تشير إلى معنى أبعد وأعمق ، وهو أن القوالب وسيلة وليست غاية، والتعامل معها على أنها غاية يحرم أصحابها من اتساع الرؤية ، وفيه جمود ، وتصبح الوسيلة حاكمة على الغاية .

          نعتد أحيانا برحابة تفكيرنا المنعتق من إكراهات التقاليد، فنقع أسرى لإكراه جديد ، وهو إكراه القالب التجديدي ، يحجبنا عن رؤية روح العلاقة الإنسانية، تكبلنا مفاهيمنا التجديدية بقيود التعالي ، وتحجبنا عن رؤية سعة التجربة الإنسانية، وأن التقاليد القديمة كانت خيارا إنسانيا نافعا في وقت ما،        ولا يمنع ذلك من أن تستمر كذلك في حالات نحتاج إلى التواضع للاعتراف بها واحترامها وإلا تحولنا إلى أغبياء مقيتين كما هي صاحبة الفستان الشيفون الذي أهدته إلى جارتها القديمة.

‏الدفء الإنساني في العلاقات هو أمر أعلى وأقوى من كل القوالب الحقوقية التي نتبجح بها أحيانا.هذا بعض ما يمكن أن يقال في قصة " فستان الشيفون" وهو بعض ما يمكن أن يقال في جمال ونضج وقوة هذه المجموعة المهمة للكاتبة العمانية هدى حمد .

‏ولي عودة بإذن الله مع قصة " غبطة وتفاهة" من المجموعة وربما مع قصص أخرى .

 

الأمومة والكتب والمكان الثاني*

 

عندما تصفحت كتاب :" التهذيب الإيجابي"[1] لأول مرة في مكتبة جرير، عرفت أن هذا الكتاب سيكون مرجعا مهما لي في تربية ابنتي آمنة[2]، وقد كان. يقع الكتاب في 307 من القطع الكبير، وكل صفحاته مزدحمة بالمفاهيم والإرشادات التربوية ، بخط صغير ، كان الكتاب أمامي ككنز علي بابا، بكل التفاصيل التي تضمنها الفهرس: ( التساهل والصرامة، ما قل ّ ودلّ، قرر ماذا ستفعل، الاختيارات والعواقب، الروتين اليومي، اترك الفرصة لأطفالك لحل المشكلات، الملل، العناد، التدريب على الحمّام، ...الخ).

أهميّة الكتاب تكمن في وضوح الرؤية التي كتب بها، فغاية التربية تتلخص في أمرين: بناء طفل يحترم ذاته، وتنمية المهارات الحياتية التي تجعل منه طفلا متوازنا نافعا لنفسه وللآخرين. وتتسق التوجيهات التي يتضمنها الكتاب مع الرؤية العامّة التي يتبنّاها.

كان أمامي خياران، أحدهما: أن يكون الكتاب مرجعا للطوارئ، بحيث ألجأ إليه كلما استجدت مسألة تربوية أحتاج إلى المساعدة فيها . والخيار الثاني: هو أن أقرأ الكتاب كلّه متتابعا، ولا أنجّمه بحسب الحوادث التربوية الطارئة، وهذا ما فعلته، فجعلت لي وردا يوميا من الكتاب أقرؤه بعد وردي القرآني صباحا، وكانت الفائدة كما نصح الكتاب: سوف تستفيد من قراءة جميع المواضيع، وإن كان بعضها لا تحتاج إليه وقت قراءتك له، ستتسع مداركك، وتصير لديك ملكة تربوية جديدة ، توجّهك في المواقف الحادثة، وسيفكر عقلك فيها منطلقا من قيم الرحمة والتفهم والاحترام، وكل ذلك سيساعدك على تربية طفل متوازن، يقظ الضمير، حسن التصرّف. اهـ بصياغة جديدة للعبارة.

وقد ظننت أني سأستغني بهذا الكتاب عن غيره ، حتى طرأت على حياتنا مسألة العناد، ولم يكن الكتاب كافيا في مساعدتي في التعامل معها، وأنقذني  كتاب: "تربية خالية من الدراما"[3]، وفيه مسائل مهمة تتعلق بفهم دور الدماغ في توجيه سلوك الطفل.

الكتاب -رغم التفاصيل العلمية التي يتضمنها -سهل العبارة، ويجمع بين المعلومة العلمية ، وحكمة التجربة، فقد ألّف الكتاب زوجان ( دانيال جي. سيجيل، وتينا باين برايسون) نقلا لنا برحمة خلاصة تخصصهما العلمي ، وخلاصة تجربتهما الثرية.

          وفي التربية الجنسيّة كان كتاب: " كيف تتحدث عن كل ما يخص الجنس مع الأبناء"[4] قائما بفرض الكفاية في موضوعه، وخطة الكتاب هي أن يقرأه المربّي أولا، ثم يشرح ما ورد فيه للطفل ، وقد بيّن الكتاب بلغة مناسبة المعلومات التي تصلح لكل مرحلة من مراحل الطفولة.

 قرأت الكتاب كاملا في جلسة واحدة، وشرحته لابنتي عبر السنوات وفقا لخطّة الكتاب. الموضوع حسّاس نعم، وما يساعد هو أن تستحضر كمربي مسؤوليتك الدينية والأخلاقية، وأن تمتلئ شعوريا بإحساس أن الخجل هو المعيب، وأن الحديث إلى طفلك هو جزء مهم من رحلة بناء سوائه النفسي فضلا عن حمايته من غوائل المعلومات المشوّهة ، وأمر آخر هو أن قدرتك كمربّي على الشرح لطفلك تعتمد على أن تكون علاقتك بطفلك غنيّة بالألفة والرفقة الحلوة، وأن يمتد بينكما جسر من الحوار الدائم والقريب، وأن تكون روح هذا الحوار احترامك لعقل طفلك وعدم الاستخفاف به.

ساعدني أيضا في إعداد ابنتي لمرحلة البلوغ، كتاب :"حدث غير متوقع"[5]، أسلوب الكتاب قصصي مشوّق، ويلمس قلق الفتيات اللاتي يقتربن من البلوغ ، ويطمئن هذا القلق، ويعالج موضوعه معالجة علمية نفسية اجتماعية، قرأت مع ابنتي الكتاب في سن التاسعة، ثم قرأته بنفسها مرتين وهي تقبل على سن العاشرة. حسنا، لم أتوقع أن تهتم به صغيرتي لدرجة أن تعيد قراءته مرتين.

كتب المكان الثاني[6]

البحث عن كتب تساعدنا في التربية يتوجّه أولا إلى الكتب المتخصصة في التربية، لكن هناك كتب تلهمنا تربويا وتعلّمنا، وربما بطريقة أوقع في النفس، يزدهر بها المكان الثاني، وهو عندي رمز لكل ملاذ وجودي نختار أن نتجدد به أو نتجدد معه، في المكان الثاني كتب تربية خارج التصنيف المعتاد، مثلا، قصص الأطفال هي كتب تربية، والكتب التي تتناول العلاقات الإنسانية هي كتب تربية، والروايات أيضا كتب تربية.

عندما بلغت آمنة السابعة من عمرها قرأت معها كتاب :" 365 يوما مع خاتم الأنبياء"[7]، يقع الكتاب في 388 صفحة من القطع الكبير، وقد قسّمنا الأيام في الكتاب على أيام السنة كورد يومي.  ولأن آمنة أحبت الكتاب؛ فقد أنهينا قراءة الكتاب في تسعة أشهر، وكان جواب آمنة لمّا سألتها عمّا استقر في عقلها من قصص الكتاب، أنها لا تتذكر قصّة بعينها، لكنّ الكتاب جعلها تتعرّف على شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه بعبارتها: "قوي، ويعرف كيف يتصرّف، ورحيم جدا".

لقد كانت قصص كتاب " المشاعر الكاملة، ما الذي تعنيه؟"[8]-وهو كتاب يصلح لسن السابعة[9]-سببا لحكايات جديدة أسمعها من آمنة عن مواقف مرّت بها في المدرسة في المراحل المختلفة (الروضة، والتمهيدي ، والصف الأول الابتدائي)، علاقتي بآمنة فيها الكثير من الحكي، لكن هذا الكتاب ذكّرها  بمشاعر مرّت كالسحاب على عقلها واختزنتها ذاكرتها الشعورية، وكانت تحتاج إلى نصوص ملهمة تساعدها على استدعاء هذه المشاعر، وتفكيكها ، والتعامل معها.

 القراءة المنتظمة لطفلك فعل محبّة وعناية واحترام، يصله ذلك ويستقر في وجدانه، وهي كذلك فعل تنوير ووعي وبناء روحي وعقلي ونفسي ولغوي . 

رسائل تربوية

من المسائل التي شرحها تفصيلا كتاب :" التهذيب الإيجابي"  مسألة أهمية العناية بأن نوصل لأبنائنا أن حبنا لهم، واحترامنا أيضا، لن يتأثر بتقصير منهم، أو قصور، سواء في جانب الأخطاء عموما، أو في جانب التعثّر الدراسي، وهكذا فلم أقل لابنتي يوما افعلي كذا لأحبك، أو أنا لا أحبك لأنك فعلت كذا أو لم تفعلي كذا ، بل كنت أذكر حبي لها في وقت التأديب، وأذكّرها دوما أنها في مرحلة تعلّم، وأن الخطأ لا يصمها، وكل ذلك مع ترتيب عاقبة على تصرّفاتها .

ثم نبهني كتاب المساعدة الذاتية :" لا بطعم الفلامنكو"[10] إلى أهمية أن أراقب  الرسائل الباطنة التي قد تتسلل من حيث لا أشعر إلى ابنتي ، تلك الرسائل التي تنبثق من اللاشعور لدي، والذي تشكّل عبر سنوات على المطالبة بالكمال، والاختزال الضال لقيمة الإنسان في تفوقه، وهذه الرسائل تأتي عبر كليشيهات عامة نتداولها في تمجيد الاكتمال، مما يشوّش على الطفل، ويوصل إليه رسائل متضاربة.

وفي رواية: " مكان ثان"[11] تتحدث بطلة الرواية عن أن طفولتها كانت مكبّلة بالانتقاد المستمر من أبويها، وأن هذا جعلها تتقلّب في العلاقات المسيئة لأن الإساءة هي الشكل الوحيد من العلاقات الذي شكّل هويتها، فكانت لا تشعر أنها مرئية في علاقة صحيّة ؛ فالانتقاد المستمر وحده هو ما يشعرها أنها مرئية.

قرأت في كتب التربية المتخصصة عن الأثر السيء للانتقاد المستمر على نفسية الطفل، وكيف أن هذا يخل باحترامه لنفسه، لكن رواية " مكان ثان" جددت قوة هذه الفكرة في داخلي.

إن "الوالديّة" إضافة جديدة في بنية العقل، يقرأ الوالدان بعين الإنسان، وبعين الوالديّة معا، و يجدان ملمحا تربويا في كل كتاب أدبي أو معرفي ، ولكأن الكون كلّه يتطوّع لمساعدة المربّين في هذه المهمة الوجودية التي تشغل عقولهم وقلوبهم.

*نشرت المقالة في العدد 85 من مجلة الجوبة الثقافية، أكتوبر/ 2024م

 

 

 



[1] التهذيب الإيجابي، جان نيلسن ولين لوت وستيفن جلين ، ترجمة مكتبة جرير، الناشر: مكتبة جرير.

[2] آمنة اليوم في الحادية عشرة من عمرها.

[3] تربية خالية من الدراما، دانيال جي. سيجيل وتينا باين برايسون، ترجمة مكتبة جرير، الناشر مكتبة جرير.

[4] كيف تتحدث عن كل ما يخص الجنس مع الأبناء، هبة حريري، نشر ذاتي. والكتاب متوفر في مكتبة جرير.

[5] حدث غير متوقع، رحاب ملاه، دار أسفار للنشر والتوزيع.

[6] اقتبست الاسم من رواية مكان ثان للروائية الكندية راشيل كاسك، ترجمة : محمد نجيب، دار المحروسة.

[7] 365 يوما مع خاتم الأنبياء، نوردان ملا، ترجمة: زينة إدريس، الدار العربية للعلوم ناشرون.

[8] المشاعر الكاملة ما الذي تعنيه؟ ،جنيفر مور- ماليونز وجوستافو مازالي، ترجمة مكتبة جرير، الناشر: مكتبة جرير.

[9] هذا تقديري، وإلا فإن العمر المقدّر في النسخة الإنجليزية من أربع إلى ست سنوات. وخلت النسخة العربية التي ترجمتها جرير من تقدير العمر.

[10] لا بطعم الفلامنكو، محمد طه، دار الرواق للنشر والتوزيع.

[11] مكن ثان، راشيل كاسك، ترجمة محمد نجيب، دار المحروسة.

حضن غير مرتبك

 

يعطي الحزم الطفل وضوحا في رؤيته للصواب والخطأ، والوضوح أمان، كما أن التذبذب يخلق فوضى داخلية تربك علاقة الطفل بنفسه وبوالديه.

       والحزم وسيلة وليس غاية؛ وهو لا يؤتي ثمرته إلا إن صاحبه التعاطف. الحزم وسيلة لتنمية مهارة الانضباط الذاتي لدى الطفل، وإذا أردنا أن يكون انضباط الطفل نابعا من ضميره -أصالة- لا من خوفه من والديه، أو طمعه في مكافأتهما، فالتمهيد لذلك يكون بعلاقة غنية بالاحترام والعاطفة بين المربّي والطفل. فإذا حصل موقف ما، يحتاج إلى ضبط سلوك الطفل، لم يسارع المربّي إلى فرض الانضباط بالتهديد أو مباشرة التعنيف، وإنما يتواصل مع الطفل بهدوء ورويّة وعاطفة ، ليصبح الطفل قادرا على الاستماع إليه، ومن ثمّ يُلزم الطفل بالتصرّف الصائب.

      لا يخلّ بالحزم أن نقول للطفل إننا نتفهم غضبه، ونتمنى لو أننا لم نضطر إلى إلزامه بالعاقبة الثقيلة عليه، لكن تحمّل مسؤولية الخطأ سيجعله إنسانا أفضل، ولا مانع هنا من الحضن بل هو معمّق لفكرة اتساق الحزم مع التعاطف.

       ما يحوّل الحزم إلى قسوة هو غياب الفِكر قبل الفعل التربوي. لكي يؤتي التوجيه ثماره، لا بد أن نفكّر في طبيعته، وما سيترتب عليه معا، بما يناسب طبيعة الطفل. وقبل ذلك لا بد أن نفهم دوافع الطفل وسياق تصرّفه.

       حسنا، الأمر دين أيضا، سيسألنا الله عن حق الطفل في تربية تؤمّنه، ولا تخلق في داخله خوفا أو تشوشا أو هوانا.

       يتحوّل الحزم إلى قسوة عندما نُتبع التوجيه بالاعتذار عنه. هذا فعل قسوة؛ لأنه يشوّش الطفل فيختلط عليه أمر الصواب والخطأ، وفوق ذلك يحرمه هذا التذبذب من القدرة على الثقة بنا، وبالتالي يتزعزع داخله الشعور بالوالدين كسند وأمان.

      أن يكون المربي محل احترام الطفل ليس ترفا، بل هو رافد مهم لحاجة أساسية وهي حاجة الطفل إلى أن يقارب ما يتعلّمه عن أساسيات موقفه المعرفي تجاه الوجود.

       الحزم وسيلة لمساعدة الطفل على النمو المتوازن، وليس غاية في حد ذاته، والتعاطف كذلك، وكلاهما الحزم والتعاطف هما حق للطفل، وهما جناحا توازنه الداخلي. هذا ليس سهلا لكن هل مسؤوليتنا كمربّين إلا المحاولة ، والثبات على المحاولة.

       وفي كل مرة نتحدّث فيها عن أخطائنا التربوية ‏لا بد أن نذكّر أنفسنا أن الخطأ جند الصواب؛ لأننا نتعلم من أخطائنا مهارة جديدة لتجنّبها، ونتعلّم من أخطائنا أن نتواضع ونراجع أنفسنا وممارساتنا التربوية، كما تساعدنا أخطاؤنا وتساعد أطفالنا على فهم أعمق لكيفية إدارة التواصل بيننا.

وأخطاؤنا بعد الاعتذار الصادق عنها، والمحاولة الجادة لتجنبها، من أهم ما يحمي أطفالنا من شبح الكماليّة فلا ينخر أرواحهم.

 

الأحد، 6 أكتوبر 2024

هل هو حقا خوف على الدين ؟

 القراءات الفكرية والأدبية والنفسية التي لا تنتمي إلى نموذجك المعرفي لا تشوش عليه لكنها تغذّيه، وتحكم صلتك به، مادمت محكما لفهم منطلقاتك المعرفية ، مفرّقا بين قطعيات الشريعة وظنياتها، ممتلكا القدرة على الجمع بين تعظيم محكمات الشريعة والتدبّر في رحابة ظنياتها .

‏وكذلك تجاربك التي تخلق لك منظورا جديدا في علاقتك بنفسك والآخرين ، تجعلك تفهم نصوص الشريعة ومقاصدها فهما فيه تجديد ، ولأن هذا هذا المنظور - سواء عبر القراءات أو التجارب- لم يصل إلى من كانت قراءاته و تجربته في الحياة لم تختبر الجوانب التي اختبرتها ، فإنه قد يعد هذا الفهم مهددا لما تعوّده أو نشأ عليه من مفاهيم وقناعات، ويتحول الأمر عنده إلى صراع وجودي تشتبك فيه هشاشة النفس بارتباك في فهم الشرع بحيث تلبس المفاهيم الظنية لباس القطعيات .
‏ لقد عظم ديننا العقل ، وحثنا على الانتفاع من ثمرات الحكمة الإنسانية ، وجاءت البنية التشريعية للشريعة مستوعبة لنمو العقل الإنساني وخبراته.
‏أقرأ ما أفاء الله به على عقول غير مسلمة فأشهد في العلم الذي وُفقت إليه عظمة خالقها وكرمه ورحمته التي تشمل مخلوقاته جميعا مؤمنهم وكافرهم .
‏الانفتاح على عقول الآخرين وتجاربنا وتجاربهم ،وجعل كل ذلك رافدا لتجديد علاقتنا بديننا ، ليس فقط فعلا متسقا مع روح الدين ، ولكنه ضرورة تتصل بمقصد الدين الأعظم في تحقيق مصالح الإنسان، ومراعاة اتساعها، وثرائها ، وتجددها ، رحمة وتيسيرا ورفعا للحرج .
‏وكلامي هنا هو في عمق احترام محكمات الشريعة لا محادّا لها.
‏لدى كثير منّا هشاشة نفسية تفزع من فعل التفكير والتغيير ، وربما نحتاج إلى الصدق والشجاعة لمعرفة من ماذا نفزع؟ ولماذا نبادر بمهاجمة من يطرح فكرا مختلفا بدلا من الإنصات إليه بإنصاف ؟ هل هو حقا خوف على الدين أو هو خوف على مكتسباتنا المتوارثة من الأفكار التي أعطتنا ميزات معينة أو حصرتنا في سياقات معينة الخروج عنها يتطلب منّا وقفة حقيقية مع النفس ، ومع صدق تديننا وصدق نيّاتنا ونزاهتنا الأخلاقية .
‏الدين الذي تعلمته يعلمنا التواضع ، ويعلمنا عدم الاستعلاء الذي يردنا عن الإنصات والاستجابة للحكمة أنّى كان مصدرها ، ويهبنا ترويا وسكينة وسلاما ، واحتراما للمختلف عنّا وإيمانا بأن رحابة الشريعة إنما جعلت لنستوعب رحابة العقل الإنساني أيّا كان رافده.