ظللت
طول حياتي أهرب من التفكير في الموت، موتي وموت أحبابي، واجهني الموت في أحبتي
مرّات، أجدادي رجالا ونساء، بعض خالاتي وقراباتي، أبناء عمومتي، أحباب أحبّتي-رحمهم
الله جميعا- لكنّي كنت أصرف عقلي عن الحضور التام، أنشغل بالدعاء والذكر والمواساة
لكن كل ذلك في مستوى لا ينفذ إلى أحشائي، إلى أن اختار الله أن تغيب ابتهاج –
رحمها الله -ابنة خالي عن دنيانا في إبريل 2024م وهي في التاسعة والعشرين من عمرها.
ابتهاج
حاضرة في خاطري، سخية النفس واليد، ذكية، ومثابرة، خفيفة الروح، ضحكتها تشرح
القلب، أنعم الله عليها بتدين أصيل غير متكلف. لقد كان آخر اجتماعي بها -حسّا - في
بيت جدي، قبل أن يشتد عليها المرض الذي لم نعلم أنه كان مرض الموت. طلبت ابتهاج
للجميع عشاء وحلى على حسابها، وتناقشنا حول حقوق المرأة في الإسلام، وسهرنا نشاهد
مسلسلا تركيا لطيفا يتناول فكرة الانتقال عبر الزمن. ولعل هذه المقالة تكون بعض
تكريم لذكراها، وسببا لدعوة صالحة تؤنسها، وثوابا ممتدا في ميزان حسناتها.
لقد
ظللت أراوغ فكرة الموت، لا أسمح لنفسي بالتفكير العميق فيها، أشعر حقا أنّي لا أطيق
مواجهتها، حتى رأيت ابتهاج -رحمها الله- عيانا، رأيت في وجهها معنى التماهي بين
الموت والحياة، رأيت في وجهها اتحادهما، واجهت حقيقة إيماني بالحياة الآخرة؛ لأني
شعرت وأنا أهمس لها في مسجّاها أنها تسمعني حقا، وأن الأمر أكبر من محدودية الجسد،
الذي يؤدي دوره في زمن معيّن؛ ليغادر بعدها ويترك جوهرنا الإنساني، الروح التي هي
حقيقتنا الخالصة.
تدريب
وجودي
لا
زلت أهرب من مواجهة التفكير في موتي إلا من حيث كونه فكرة مجرّدة، لكنّ موت ابتهاج
جعل فكرة الموت حاضرة أمامي كل يوم، تشكّل جزءا مهما من بواعث قراراتي، مع شجن
استقر في قلبي لا أظنه سينقضي، لقد كنت أفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم
:" أكثروا ذكر هادم اللذات"[1]
على أنه حثّ على الاستقامة بتذكر العاقبة: الموت، لكني اليوم صرت أفهم أن في
الحديث أيضا معنى أوسع، وهو مساعدة قلوبنا على التأسي والتصبّر وربّما الرضا
وكمالاته عند مواجهة مصيبة الموت في أنفسنا ومن نحب، الحديث الشريف هو تدريب وجودي
يساعدنا على التماسك أمام مصيبة الموت ومقدّماتها، أو يحمينا من شتات الجزع الذي
قد يسلب صاحبه تصبّر الإيمان.
نعم، ألم الفقد هو من شؤون القلب، التي لها
وقعها الخاص الذي يختلف من إنسان إلى آخر، لكن حضور المعنى أمامنا ، وتذكير أنفسنا
به، يجسّر الفجوة بين العقل والقلب، فيعضد العقل القلب، وينوّر القلب العقل بنور
الرحمة.
في
كتاب" التحديق في الشمس" يقول إرفين د. يالوم إن فكرة الموت تنقذنا؛ لأن
حضور فكرة الفناء أمامنا يجعلنا نركّز على أن نعيش حياة مسؤولة، نتحقق فيها
بهويتنا القيمية، ونحيي فيها معاني الرحمة والتعاطف.
وهذا
المعنى الذي ذكره د. إرفين أرى فيه تجليا آخر من تجليات الحديث الشريف"
أكثروا ذكر هادم اللذات". حضور" الموت " أمامنا، هو تجربة يقظة كما
يقول إرفين د. يالوم تحررنا، وترتّب دواخلنا.
الموت والفقد والغضب
يتصل بلاء الموت ببلاء كليّ أوسع هو بلاء
الفقد والنقص، يقول الله تعالى: " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من
الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين"
( البقرة: 155)، وينبّه كتاب" عن الأسى والتأسي" إلى أن الألم
المتصل بالحزن على موت من نحب هو ألم مركّب من مشاعر فقد متداخلة، فقد الحضور الجسدي،
وفقد كل دور في حياتنا كان يقوم به من غابوا عنّا، وفقد كل معنى كان يمثله لنا
حضورهم في حياتنا، ونحن نحتاج إلى أن نتوقف مع كل معنى يمثله أحبابنا لنا، وأن
نعطيه حقه في الإحساس به وعدم تجاهله أو إنكاره.
وقد
نقاسي الفقد في صورة مختلفة حين نختار أن نغادر زواجا أو صداقة أو جيرة ، وحينها يعترينا
أسى من نوع خاص، لا نأسى على الأشخاص فنحن لا نفارق غالبا إلا بعد أن يفارقنا
العشم فيهم، لكنّنا نأسى على حسن ظننا
فيهم، ونأسى على فوات العمر في علاقات استنزفت أرواحنا، وعلى بعثرة القلب ووجعه،
وعلى علاقات نحبها متصلة بهم لم نعد قادرين على وصلها ، وعلى معان ارتبطت بهم قد
يظهر لنا صعوبة تحصيلها مع غيرهم ، وهذا النوع من الفقد قد يشعل في القلب نار الغضب،
غضب الشعور بالفوات والعجز. لقد أرشدنا الشرع الحكيم إلى الصبر والتصبّر، وحدثنا
عن ثواب الصابرين، والشرع في مجمله نسيج معرفي متماسك يؤكّد على إلغاز الأقدار في
حياتنا، ويطلب منّا قبول هذا الإلغاز، والتعامل معه كحقيقة مطلقة تتصل بحقيقة أن
خالق الأقدار حكيم رحيم لا يُسأل عما يفعل.
الإشكال
الذي يقع فيه بعضنا هو الارتباك حيال شعور الغضب الذي يتملكه، فإذا ما شارك مشاعره بعض أهل التديّن
فإنهم يشعرونه بالعار والخزي لأنه لم يتأدّب مع أقدار الله عز وجل، ويكررون الحديث عن الصبر، ويتوهمون
أن الصبر إنما يكون على مشاعر الألم وحدها؛ لأنها في تصورهم هي المشاعر الوحيدة
التي ترتبط بألم الفقد ( موتا أو مفارقة، حسّا أو معنى )، وقد نبّه الإمام الغزالي
في إحياء علوم الدين إلى ارتباط الغضب بألم الفقد[2]،
وإلى أن الصبر رحلة مستمرة يذكّر المسلم فيها نفسه بثواب الصبر، وحتميّة الموت،
ورحمة الرحمن، وأن اللقاء آت ولو بعد حين؛ لينتقل المسلم بالتصبّر إلى الترقي في
منازل الصبر ثم الرضا.
ويتدرّج المسلم في مكابدة الألم وما يتصل به من
مشاعر الغضب أو الرغبة في الانعزال أو الاكتئاب إلى أن يصل إلى التعايش مع الألم
تعايشا يتجاور فيه الألم مع سائر المشاعر التي تعترينا ونحن نتقلّب في معايشنا
وعلاقاتنا وحياتنا.
ونجد
في كتاب الفروق للإمام القرافي تنبيها نفيسا إلى الفرق بين الرضا بالقضاء وعدم الرضا
بالمقضي به، فيذكر أن الرضا بالقضاء فرض
وهو شرط إيمان، وهذا لا يستلزم أن يشعر المؤمن أنه راض بالمقضي، قال الإمام
القرافي: والفرق بين القضاء والمقضي، والقدر والمقدور، أن الطبيب إذا وصف للعليل
دواء مرّا أو قطع يده المتآكلة ، فإن قال المريض: بئس ترتيب الطبيب ومعالجته، فهو
تسخط بقضاء الطبيب وأذيّة له، وإن قال هذا دواء مرّ قاسيت منه شدائد ، وقطع اليد
حصل لي منها آلام عظيمة مبرحة، فهذا تسخط بالمقضي الذي هو الدواء والقطع لا القضاء
الذي هو ترتيب الطبيب ومعالجته فهذا ليس قدحا في الطبيب. فنحن مأمورون بالرضا
بالقضاء ولا نتعرّض لجهة ربنا إلا بالإجلال والتعظيم، ولا نعترض على عليه في ملكه [3]، وهو
القادر الحكيم الرحيم.
إن
الصبر على مصيبة الفقد، هو رحلة لتقبّل المقضي به، وهو أمر منفصل عن تسليم المؤمن
لربّه بقضائه وأنّه سبحانه قادر حكيم.
فإذا وردت على القلب واردات التحيّر والغضب،
ذكّر الإنسان نفسه بأن التسليم هو مدار الإيمان، وأن الله لا يقضي في ملكه إلا
الحكمة، ظهرت لنا هذه الحكمة أم لم تظهر، فيصحح المؤمن متعلّق مشاعره، يعترف
بالمشاعر التي تنهكه وصلتها بالمقضي أو الابتلاء الذي قدّره الله عليه، وأن هذه
المشاعر من عدم الرضا بالمقضي هي جزء من طبيعته الإنسانية، لا يلام عليها، ويذكّر نفسه بموقفه الإيماني من القدر، وأن
إيمانه بقدرة الله لا ينفك عن إيمانه بحكمته ورحمته، ويكون الفرق بين الرضا بالقضاء والرضا بالمقضي
حاضرا في قلبه؛ فإذا تحرر له الفهم، واستقام، قطع طريق التصبّر على بصيرة.
لدينا
هنا إذن منزلة ثابتة يشترك فيها أهل الصبر مع أهل الرضا وهي منزلة الرضا بالقضاء،
ثم يفارق أهل الصبر أهل الرضا في أن أهل الرضا يقبلون الألم قبولا تامّا بحيث لا
يتمنّى أحدهم غير ما هو عليه من شدّة ورخاء[4]، وهذه
منزلة غير واجبة، لكن أهل الصبر يكابدون مشاعر الألم بكل تجلياتها من غضب ونحوه، ويتدرجون
في منازل الصبر إلى أن يفضي بهم التصبّر إلى التعايش السلس مع الألم.
أسى
شخصي
اختتم
كل من إليزابيث كوبلر روس وديفيد كيسلر كتاب " عن الأسى والتأسّي"
بصفحات عن ذكر الأسى الشخصي لكل منهما، وشكر مترجم الكتاب شادي عبد العزيز في آخر
صفحة من الكتاب أصدقاءه في سطور ذكر فيها أن ترجمة هذا الكتاب هو نتيجة رحلة لفهم
أساه الشخصي، وأن النجاة الفرديّة ثبت أنها مستحيلة، واحترمت هذه المزاوجة بين
الشخصي والعام؛ لأن الحديث عن الموت هو مسألة شخصية أولا. يقع كتاب " عن
الأسى والتأسي" في 279 صفحة، وهو من إصدارات "ديوان" في عام 2024م
، ونشر الكتاب بالإنجليزية لأول مرة في عام 2005م .
"عن
الأسى والتأسي" كتاب يعلّمنا كيف نتصبّر، يشرح الكتاب المشاعر التي يمر بها
من أصابته مصيبة الفقد، ويذكر لنا أن هذه المشاعر تمر غالبا في خمس مراحل:
الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والتقبّل. وينبّه على أن هذه المراحل
الخمس ليس القصد منها حشر العواطف الفوضوية في أطر أنيقة، وإنما هي أدوات
لمساعدتنا على تأطير ما قد نشعر به، والتعرّف عليه، لكنها ليست محطات ضمن مسار
زمني خطّي للأسى، فلكل إنسان أساه الخاص به، وسيرورة هذا الأسى تختلف من إنسان إلى
آخر، وهذه المراحل إنما هي أشبه بتضاريس للأسى تساعدنا على أن نكون أكثر جاهزيّة
للتأقلم مع الحياة والفقد.
في
سعينا للتعامل مع ألم الفقد، قد تأخذنا مشتتات (الإنكار، والغضب، والمساومة)
لتجنبنا الانغماس في الحزن – الاكتئاب، يقول المؤلفان عن الاكتئاب: " فهو
يبطئنا، ويسمح لنا أن نتأمل الفقد حقا، وهو يجعلنا نعيد بناء أنفسنا ... ويصحبنا
إلى مكان أعمق في روحنا ليس من عادتنا اكتشافه".
استوقفني
حديث الكتاب عن مرحلة الغضب، وأن شعور الغضب غالبا ما يكون مرتبطا بمشاعر أعمق من
شعور الفقد، وأن تجاوز الغضب قد يحتاج إلى رحلة تتصل باكتشاف " علّة"
قديمة في النفس، فإذا داوينا هذه العلّة، هدأت النفس، وسكنت: " إذا تتبعت
مشاعرك إلى أصولها ستجد إحساسا بخطأ ما يصاحبك طيلة عمرك، وقد يتيح الأسى لك
الفرصة لتعاف أكبر بكثير".
يشرح لنا الكتاب كيف نتعامل مع كل مرحلة من هذه
المراحل، لنصل إلى التقبّل، وفيه لا ننكر مشاعرنا، بل ننصت إلى احتياجاتنا: نتحرك
ونتغير وننمو، وربما لا ينطوي الوصول إلى التقبّل إلا على أن تكون أيامنا الطيبة
أكثر من أيامنا السيئة. في التقبّل نجد العزاء في خضم الألم، ويظل الألم حاضرا مع
بقيّة مشاعرنا، يجاورها، جيرة تزكية ورشد أو يقظة كما يعبّر إرفين د. يالوم.
الأطفال والتأسي
حكى
معالج نفسي متخصص في الأسى عن جانيس التي يبلغ عمرها سبع سنوات، والتي توفيت أمها
بالسرطان، أن حزنها لم يفارقها رغم مرور السنوات، وكلما سألها أحد: لماذا أنت
حزينة إلى هذه الدرجة؟ قالت: أمي ماتت. وكان ذلك سببا كافيا لدى أغلب الناس،
وأبيها، الذي اعتقد أنها ستتجاوز ألمها مع مرور الوقت.
وفي الصف الأول ثانوي، وعندما كان المعلم
يتحدث في درس مادة الفلك عن النجوم التي تشكّل كوكبة السرطان، بدأت جانيس تدمع،
لاحظ المدرس ذلك ، وسأل جانيس عن بكائها بعد انتهاء الدرس فقالت: أنا من مواليد
برج السرطان وأمي ماتت بسببي.
لقد عاشت جانيس ثمانية سنوات وهي محمّلة
بعب ذنب غير عقلاني.
ينبّهنا الكتاب إلى أهمية ألاّ ننسى ونحن
في خضم الأسى أن نتحدّث مع أطفالنا عن تجربة الفقد التي يمرّون بها معنا، وكما
نمضي وقتا كبيرا في تعليم أطفالنا شؤون الحياة فلا ينبغي أن نغفل أن نعلمهم شؤون
الموت.
يذكر الكتاب عدة أمثلة تتناول هذا
الموضوع، لكنّي لا أجدها كافية، كيف أتحدث مع ابنتي في الثانية عشرة عن موضوع
الموت، كيف أفعل ذلك بدون أن أثير فزعها، ربما يكون الطريق عبر التحدث عن جدّها
لأبيها رحمه الله، ما أريد أن أقوله هنا هو أننا بحاجة إلى عالم نفس مسلم بصير يشرح
لنا كأمهات وكآباء كيف نحدّث أطفالنا عن الموت وشؤونه.
في معرض الكتاب في جدّة في ديسمبر2024م
طفت بين دور النشر المتخصصة بأدب الطفل، أبحث عن كتب تتناول قضيّة الفقد، ووجدت
كتبا تتناول الفقد بعد حدوثه لا قبله، هل تعد كافية في تناول الموضوع؟ لا أظن.
تناولت
هذه الكتب مسألة الفقد في قالب قصصي، وحظيت بإخراج جيّد وبعضه فاخر، والقصّة التي
اشتريتها لابنتي إذ وجدت أنها تناولت الموضوع بذكاء وعمق أكثر من غيرها، هي قصة:
أنا والوحش، تأليف: عائشة الحارثي وهي كاتبة عمانية، ورسوم: براء العاوور، ونشرتها
في إخراج فاخر دار أشجار الإمارتية.
كيف
نساعد؟
يقص علينا كتاب:" عن الأسى والتأسّي"
حكاية امرأة كانت تبكي في مكالمة هاتفية مع والديها بعد أن فقدت زوجها. وعندما
سمعت الأم نحيبها، قالت: علينا أن ننهي المكالمة الآن. ولحسن الحظ، هرع الأب إليها
قائلا: لا، سأظل على الخط، حتى لو ظلّت تبكي.
وردت هذه الحكاية في سياق الحديث عن أن
" البكاء في العلن" هو مسألة ثقافية، وأن المجتمع الغربي يعد الدموع
ضعفا، والوجه الجامد قوة.
في نموذجنا المعرفي، يعلّمنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن البكاء علنا هو من علامات رحمة القلب، يروي أنس بن مالك رضي
الله عنه: " ...ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا
رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف إنها رحمة"[5]
نرتبك أحيانا أمام بكاء أحبتنا، وقد يكون
ما يحتاجونه منّا هو أن يشعروا أننا مستعدّون لمجالستهم صامتين وأننا نرحّب بذلك،
ولا يثقلنا أن نشاركهم أوقات الحزن ولا صمته، وأن الوقت الذي يمضي معهم هو تعبير
صادق عن محبتنا لهم، ومساندة منّا هي واجب علينا لا منّة فيها ولا تفضّل.
قد يساعد تشجيع أحبتنا على التحدث على أن
ينظموا مشاعرهم، وربما تواسيهم كلمة حكيمة يوفقنا الله إليها، نحن لا نعلم ذلك إن
لم نسألهم، خوفنا من أن " نزيد ألمهم " يجعلنا نتجاهل أي حديث معهم عنه،
ونغفل أن ألم الفقد لا يغادرهم، ولا يزيده سؤالنا، نحن فقط بحاجة إلى أن نتعرّف
على ما يحتاجه منّا أحبابنا، وألا نفرض عليهم طريقة مقولبة للتعامل مع أساهم، ربما
يناسبهم الصمت معنا والحديث مع غيرنا، وربما يناسبهم أن نقول لهم إننا نذكر من
فقدناه بالدعاء ونتصدق عنه ونذكّر أنفسنا بالأوقات الطيبة معه فندعو له.
لقد قصّرت مع كثير ممن أحبهم؛ لأني لم يكن
لديّ هذا الوعي بهذه الطريقة من طرق المواساة والتعاضد، وتعلّمت من كتاب:" عن
الأسى والتأسي" أن الحديث الحكيم عن الفقد يساعد ولا يؤذي.
ونبهني إرفين د. يالوم في كتابه "
التحديق في الشمس" إلى أن المواساة فعل "محدود" رغم أهمية أن يكون
مستمرّا مع من نحبهم، نحن أحيانا نفتقر إلى التواضع عندما نعتقد أن المواساة كافية
للتحرير من الألم، وفي المقابل فإن من يمر بتجربة الفقد قد تلتبس عليه مشاعره،
فيشعر أنه لا يرتوي من مواساة؛ لعجز فيه، وحقيقة الأمر هو أن ألم الفقد ليس مرضا
لنرتجي الشفاء منه، إنه شعور أصيل لا يفارق شعورنا بمحبة من فقدناهم، وأعلى ما
نرتجيه في التعامل مع ألم الفقد هو تقبّله جارا طيبا ومنقذا ومحرّرا.
يتحدّث
إرفين د. يالوم عن رحلته العلاجية مع أرملة تبلغ الستين من عمرها، يقول: "
فقد فهمَت... حدود ما يمكنها الحصول عليه من الآخرين. ومع أن التواصل يخفف الألم،
فإنه لا يستطيع أن يكبت الجوانب
الأكثر إيلاما في الحالة الإنسانية. وقد اكتسبَت قوّة من هذه الفكرة، القوة التي
يمكنها أن تحملها معها إلى أي مكان تختار أن تعيش فيه. " .
في الكتاب تفاصيل كثيرة تعلّمنا كيف نستعد
لتقلبات الأقدار، وتساعدنا لنفهم ما قد يمر به أحبتنا من أطياف مشاعر الفقد،
وتساعدنا لكيلا نؤذيهم من حيث لا نشعر، وقد تعلمت أننا نحتاج أحيانا إلى أن نتعلّم
كيف نكون رحماء، وهذا الكتاب فيه رحمة وحكمة.
حرر
في: 10 نوفمبر 2024م
*
نشرت المقالة في مجلة الجوبة العدد86 في غرة شعبان 1446هـ الموافق 31 يناير2025م