الأحد، 17 مايو 2020

التجربة وأثرها في صلاح الدين والدنيا





ذكر الإمام الغزالي في كتاب آداب العزلة من إحياء علوم الدين سبع فوائد للمخالطة اختتمها بفائدة عظيمة تدل على عمق فهمه للنفس الإنسانية، ولجوهر الدين معا : قال إن المخالطة تفيد فهما أعمق لمصالح الإنسان في دينه ودنياه،وأن هذا لا يمكن استفادته دون تجربة حياتية واسعة ، وأن الذكاء وحده لا يفيد في أن يكون الإنسان مدركا لمصالحه في فهم نفسه، وطبيعتها، وفهم ما يصلح له في علاقته بربه ، وفي علاقته مع الناس والحياة .

ثم نبه على معنى مهم وهو أن الإنسان إن لم يخالط الناس فلن يكتشف أخلاقه ، ونفسيته، ولن يعلم إن كان يحمل قلبا نقيا، أم قلبا مكدرا بعيوب الأخلاق من عجب أو غيرة أو حسد أو حقد، فالعزلة لا تكشف أخلاق المرء ،      ( فكل مجرّب في الخلاء يسير ) . 

       ووجه أهمية اكتشاف هذه الأخلاق الباطنة هو صلاح القلب الذي هو أساس صلاح العمل. وإن بالجهل بخبائث القلب يحبط العمل الكثير، وبالعلم بها يزكو العمل القليل ، ولولا ذلك لما فضل العلم على العمل .

وقد تعجبت لهذا المعنى فقد كنت أظن أن العزلة ستحجب عن الناس شر أفعال المرء لكن الإمام الغزالي بعمق نظره الإنساني والشرعي نبّه على أن عبادة  الله تحتاج قلبا طاهرا ، متواضعا، يبغي الخير للناس ، فإذا اعتزل المرء وقلبه فاسد أدى ذلك إلى فساد في عبادته، إما عجبا، أو حقدا، أو عدم إرادة الخير للناس، و عدم النظر إليهم بعين الرحمة. ولا بد للمسلم من أن يمتحن أخلاقه الباطنة بالمخالطة، ويصلحها بأداء حقوق العباد قبل أن يعتزلهم .

مع كون فصل الخطاب في مسألة العزلة كما قرر الإمام الغزالي هو قول الإمام الشافعي : " يا يونس، الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة ، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء ، فكن بين المنقبض والمنبسط " .

وهذا نص كلامه : " الفائدة السابعة : التجارب : فإنها تستفاد من مخالطة الخلق ومجاري أحوالهم، والعقل الغريزي ليس كافيا في تفهم مصالح الدين و الدنيا، وإنما تفيدها التجربة والممارسة ،    ولا خير في عزلة من لم تحنكه التجارب، فالصبي إذا اعتزل بقي غمرا جاهلا ، بل ينبغي أن يشتغل بالتعلم ليحصل له في مدة التعلم ما يحتاج إليه من التجارب، ويكفيه ذلك ، ويحصّل بقية التجارب بسماع الأحوال، فلا يحتاج إلى المخالطة.

ومن أهم التجارب : أن يجرّب نفسه وأخلاقه وصفات باطنه، وذلك لا يقدر عليه في الخلوة، فإن كل مجرّب في الخلوة يسير، وكل غضوب أو حقود أو حسود إذا خلا بنفسه لم يترشح منه خبثه، وهذه الصفات مهلكات في أنفسها، يجب إماطتها وقهرها، ولا يكفي تسكينها بالتباعد عما يحركها..."
ثم قال : " فالمخالطة لها فائدة ظاهرة عظيمة في استخراج الخبائث وإظهارها ولذلك قيل: ( السفر يسفر عن الأخلاق )، فإنه نوع من المخالطة الدائمة.
وستأتي غوائل هذه المعاني ودقائقها في ربع المهلكات، فإن بالجهل بها يحبط العمل الكثير، وبالعلم بها يزكو العمل القليل ، ولولا ذلك لما فضل العلم على العمل .... " اهـ .


ليست هناك تعليقات: