الثلاثاء، 27 أغسطس 2024

عن الهشاشة الأخلاقية ، قراءة في كتاب : " هشاشة بيضاء، صعوبة أن يتحدث البيض عن العنصرية"

 نشرت المقالة في مجلة الجوبة الثقافية ، العدد 84 ، أغسطس 2024


مزايدات بيضاء

يناقش فيلم الأوسكار "رواية أمريكية" ( American Fiction)[1]  النفاق عند البيض التقدميين الذين يتبنون المساواة العرقية.

 يبدأ الفيلم باعتراض طالبة بيضاء على أستاذها الجامعي الأسود ( بطل الفيلم واسمه مونك)  لأنه كتب على السبورة اقتباسا من رواية تاريخية يتضمن كلمة "زنجي"، وقالت إن إجبارهم على مشاهدة هذه الكلمة طيلة المحاضرة  بما تحمله من دلالات مسيئة هو أمر لا يمكنها احتماله، فيجيبها مونك: إن المحاضرة تتعلق بأدب السود في الجنوب الأمريكي في زمن النظام العنصري، فتجادل الطالبة بأن هذا ليس مبررا مقبولا، فيرد عليها مونك بحزم : لا بأس، مادام يمكنني احتمال ذلك فسيمكنك أيضا.

تخرج الفتاة من المحاضرة غاضبة ومستاءة، وتقدّم هي ومجموعة من الطلّاب البيض شكوى إلى مجلس الجامعة تتسبب في وقف الأستاذ الأسود عن العمل لفترة.

 يشرح هذا المشهد الافتتاحي أن الموقف المتحفز من البيض تجاه كل ما يشير إلى العنصرية ولو كان في السياق التعليمي ليس مزايدة أخلاقية فحسب، وإنما هو جزء من نظام مؤسسي يتحكّم البيض في تصوراته الأخلاقية ويعاقبون من لا يخضع لهذه التصوّرات.

ركّز الفيلم على فكرة أن البيض هم الذين يتحكّمون ماديّا وأدبيا في المجال الثقافي تحديدا، وأنهم يصرّون على تقديم صورة مجتزأة لحياة السود لأنهم لا يريدون إظهار الحقيقة وإنما يريدون الشعور بالبراءة الأخلاقية عبر التسويق لألم السود، لقد كانت الفكرة التي أكّد عليها بطل الفيلم في أغلب المشاهد هي أن للسود قصص أخرى خارج التنميط الأبيض، وأن السلطة الثقافية البيضاء لا تسمح بانتشارها أو تصديرها.  وهذا كله في تقديري إنما هو إشارة خجولة إلى حقيقة أن العنصرية تشكّلت تشكيلا جديدا، فصارت قوة ناعمة، وظاهرة ممنهجة شاملة، بعد أن كانت قوة يعبّر عنها بشعارات فجّة.       

نموذج متجاوز

لقد شاهدت فيلم "رواية أمريكية "بعد قراءتي لكتاب "هشاشة بيضاء، صعوبة أن يتحدّث البيض عن العنصريّة" للكاتبة الأمريكية روبن ديانجلو وهي أمريكية بيضاء متخصصة في تحليل الخطاب النقدي ودراسات البياض ومستشارة التنوع.

وإذا كان الفيلم لم يستوف بيان حقيقة العنصريّة في المجتمع الأمريكي فإن الكتاب قدّم دراسة نفسية واجتماعية متعمقة تتناول العنصرية البيضاء تجاه السود في أمريكا، وتمثّل هذه الدراسة نموذجا متجاوزا لخصوص موضوعها إلى كل ما يتعلق بالتحقق بأخلاق الصدق في النظر إلى الناس جميعا بعين المساواة. والكتاب فيه حفر أخلاقي في بواطن الكبر الخفي في النفس الإنسانية.

تقول المؤلفة روبن ديانجلو: إن التحرر من العنصرية هو عملية مستمرة ومستدامة. اهـ

وهذا يتوافق مع ما يقدمه الإسلام في نموذجه المعرفي – الأخلاقي  من أن التخلص من "أمراض القلب" هو فريضة أخلاقية متجددة.

يشرح الكتاب ظاهرة الهشاشة البيضاء، وكيف تنمو في الإنسان الأبيض، وكيف تعمّق اللامساواة العرقية، وما الذي يمكن فعله حيالها.

وفي ثنايا التفاصيل  قد تشتبك الهشاشة البيضاء في عقل القارىء بما يماثلها من نماذج الهشاشة الأخلاقية المتعلقة بالشعور بالتفوق الذكوري، أو التفوّق الطبقي .

يقع الكتاب في 296 صفحة من القطع المتوسط، وهو من منشورات تكوين، ونشر في عام 2023م ، وصدر بلغته الأصلية في عام 2018م، وترجمته: الأستاذة نوال العلي.

معنى الهشاشة البيضاء

          الهشاشة البيضاء: رد الفعل المتحفز والدفاعي المتمثل في الغضب أو الهجوم أو الانسحاب أو حتى البكاء عندما يُوصف أي فعل قام به شخص أبيض على أنه فعل عنصري، وعدّ طلب المراجعة الأخلاقية اتهاما بالعنصريّة لا يمكن قبوله.

إذن الهشاشة البيضاء هي مصطلح مركّب من أمرين : رد الفعل المتحفّز والدفاعي ، والتنمّر على المراجعة الأخلاقية للسلوك أو الكلام العنصري، وكل ذلك في سياق الهيمنة العرقية البيضاء التي تختزل العنصرية في الأذى المتعمّد من شخص لا يتبنى المساواة العرقية .

          وصورة التنمّر هي إدانة المراجعة الأخلاقية، ولو كانت هذه الإدانة في مظهر ناعم هش عبر البكاء والتركيز على شعور البيض بالذنب، وينتقل الأمر من حق السود في أن يتعرّف البيض على الفعل العنصري، والسياقات والقصص التي تشكّله إلى مواساة البيض على شعورهم بالذنب والخزي.

 الهشاشة البيضاء أكثر من مجرد رد فعل دفاعي إنها هي فعل هيمنة يرسّخ التفوّق الأبيض، والتصورات البيضاء للمفاهيم، والبراءة البيضاء المعلنة والتي لا تقبل المراجعة الأخلاقية.

 وتنبّه الكاتبة إلى أن رد الفعل الهش هذا يكون في أكثر السياقات بعدا عن الاتهام، كدورة تدريبية مختصة بالتنوّع يدخلها البيض للتعلّم عن العنصرية، و يصدر من بيض تقدّميين يرفضون الخطاب العنصري، ويتبنون المساواة العرقية. 

 

العنصرية كنظام متكيّف

تعرّف الكاتبة العنصريّة بأنها  ظاهرة ممنهجة ومجتمعية ومؤسسية بحيث إن الأعراف والسياسات والممارسات الحديثة تقود إلى نتائج عرقية مماثلة لتلك الموجودة في الماضي بينما لا تبدو عنصريّة صريحة، إذ أن جميع أنظمة الاضطهاد قابلة للتكيّف، يمكنها تحمّل التحديات والتواؤم معها وأن تظل محافظة على اللامساواة.

تقول الكاتبة : إذا نظرنا على سبيل المثال، إلى المقياس العرقي للأشخاص الذين يسيطرون على مؤسساتنا، فسنرى أرقاما كاشفة  ( 2016م-2017م)، إذ يسيطر البيض على أكثر من 80 إلى 90 في المائة من مؤسسات الدولة السياسية والعسكرية والتعليمية والثقافية.

 تشرح  هذه النسب أن العنصريّة ليست مسألة أناس " طيبين" مقابل " أشرار" ، إنها تمثّل قوة وسيطرة مجموعة عرقية لديها التمكين التام لحماية صورتها الذاتية ونظرتها إلى العالم ومصالحها عبر المجتمع بأكمله. تعد التمثيلات الإعلامية من أكثر الطرق فعالية لنشر التفوق الأبيض، ولها تأثير عميق في كيفية رؤية الأمريكي الأبيض للعالم :" أولئك الذين يكتبون الأفلام ويخرجونها هم رواة ثقافتنا.. بالنظر إلى أن أغلب البيض يعيشون في عزلة عرقية عن الملونين ( والسود على وجه الخصوص) وأن لديهم القليل جدا من العلاقات الحقيقية التي تختلط فيها الأعراق، فإن البيض يتأثرون بشدة بالرسائل العرقية في الأفلام وهي رسائل ضيّقة وإشكاليّة، ويتم نشرها وتداولها عالميّا". اهـ بتصرّف.

          إن جعل العنصرية سيئة وفقا لثنائية ( طيب/ شرّير) يبدو تغييرا إيجابيا، لكن العنصرية أعقد من أن تختزل في الفعل المتعمّد الذي يصرّح صاحبه بدعم التمييز العرقي.

يقول علماء أصول الفقه إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والتصوّر الشائع عن العنصرية عند البيض التقدميين يختزلها في الأذى الفردي المتعمّد الناتج عن كراهية واعية لشخص ما بسبب عرقه، ولا يعرّفها كظاهرة مؤسسية ممنهجة، فإذا كان البيض يركنون إلى هذا التصوّر المختزل في فهم العنصريّة، فهذا لن يساعد على اجتثاثها بل سيؤول الأمر إلى أن تلبس ثياب زور، تؤذي أذى خفيا وحادّا ، يُدان من يراجعه أخلاقيا.

العنصرية المراوغة

يمارس البيض التقدميون عنصرية مراوغة تسمح لهم بالحفاظ على صورة ذاتية إيجابية، وهي مراوغة لأنها تتعارض مع المعتقدات الواعية للمساواة العرقية والعدالة، العنصرية المراوغة داخلية ولكنها ماكرة، من أمثلتها : التحدث عن الفصل العرقي على أنه أمر مؤسف لكنه ضروري لتأسيس مدارس " جيدة "، وتبرير أن أماكن العمل لدينا كلها تقريبا بيضاء لأن الأشخاص الملونين لا يتقدمون بطلبات، تجنب اللغة العرقية المباشرة واستخدام مصطلحات مشفّرة عرقيا مثل : أحياء خطرة، أحياء جيدة، تبرير اللامساواة بين البيض والملونين بأسباب أخرى غير العنصريّة.

إن الانحياز العرقي هو شعور لا واع إلى حد كبير، وهنا يكمن التحدي الأعمق، ومن هنا يأتي الموقف الدفاعي الذي ينجم عن أي تلميح بالانحياز العرقي. وهذا الموقف الدفاعي ليس إلا هشاشة بيضاء كلاسيكية لأنه يحمي تحيّز البيض وفي نفس الوقت يؤكد على هويّتهم المنفتحة، تقول الكاتبة وهي أمريكية بيضاء:" نعم ، من المقلق والمزعج أن نواجه جانبا  لا نحبّه من أنفسنا، لكن لا يمكننا تغيير ما نرفض رؤيته... يفترض البيض افتراضا خاطئا وهو لا يمكن أن نكون طيبين ونشارك في العنصرية في آن واحد، وهذا الافتراض الخاطئ يجعلهم يلقون الكلام على عواهنه عند التحدث مع السود أو يحجبهم عن رؤية أخطائهم العنصرية أو قبول مراجعتها بعقل منفتح" . اهـ النقل بتصرف واختصار.


 الهشاشة البيضاء وقواعد الحوار

          تتبنى الهشاشة البيضاء قواعد تجعلها أساسا للحوار المتحضّر الذي يحفظ للتقدّمي الأبيض حقه في عدم الوصم أو الاتهام بالعنصرية، من أهم هذه القواعد ، قاعدة الاحترام ، الإشكال أن ما يشعر البيض أنه احترام، لا يخلق بيئة محترمة للملونين : " على سبيل المثال، عادة ما يعرّف البيض البيئة المحترمة بأنها بيئة بلا صراع، وخالية من التعبير عن مشاعر قويّة، وتخلو من المواجهة مع التنميطات العنصريّة، وتركّز في نوايا "المتحدّث"  أكثر من تأثير أفعاله على الآخرين . لكن مثل هذا الجو هو ما يخلق بيئة زائفة تتمحور حول المعايير البيضاء، وبالتالي فإنها بيئة معادية للملونين" .

          لا تأخذ هذه القواعد في الحسبان علاقات القوة غير المتكافئة، وهي ترسّخ الوضع العرقي الراهن: ( مركزية البيض، والهيمنة، والبراءة المعلنة) .

          تقول الكاتبة: إن تجاهل المُرسِل ( المتحدّث) والتركيز على الرسالة مهارة متقدّمة وتصعب ممارستها، خاصة إذا جاء إلينا شخص بنبرة المتفوّق أخلاقيا. حق " اللطف" لا ينبغي أن يزاحم حق " الوضوح " في تسمية العنصرية ومواجهتها، والتركيز على " اللطف" ، وجعله مقدّما على :" الوضوح" في تسمية الفعل العنصري المراوغ يحمي الهشاشة البيضاء ولا يعالجها .

          ينشأ البيض في المجتمع الغربي ضمن نظرة تفوّق " بيضاء" إلى العالم، وهي حجر الأساس للمجتمع الأمريكي ومؤسساته، نعم يتحدّث البيض التقدميون أن الجميع متساوون، ويؤكدون على قيمة التنوع ، لكن هذا الحديث لا ينفذ إلى العمق، ولا يقوى على تجنّب المعتقدات الباطنة بتفوق البيض والتي تدعمها وترسخها سياسات الدولة .

          إن الشجاعة في التعرّف على الجوانب الخفيّة للعنصرية والتي تتجلّى في التصرّفات والأحاديث المراوغة ، وتدريب البيض أنفسهم على الصبر على الصعوبة النفسية في تخطي ميراث نفسي واجتماعي متجذر وملتبس هو أمر محرّر، ويسمح لهم  بالتركيز في كيف تتجلى العنصرية في سلوكهم وليس فيما إذا كانوا عنصريين حقا ؟


"إن لصاحب الحق مقالا"  

          الكتاب هو رحلة جادّة في تعلّم كيف تكون عادلا، ورفع الوهم المتعلق بأن الأمر سهل  لا تعقيد فيه، ودرء ما قد يشتبه على بعضنا من أن اللطف وحده كاف في مسألة التحقق بخلق النظر إلى الآخر بعين المساواة. أو أن التدرّع بالكلمات التي تتبرأ من التمييز العنصري أو الذكوري أو الطبقي كاف في تحقيق العدالة، وصياغة وعي جمعي جديد يساوي بين الناس ولا يفرّق بينهم .

لقد وجدت أني استدعي النموذج المعرفي الذي جاء به الإسلام في ثنايا المسائل الأخلاقية التي يفصّلها الكتاب، وأعيد التفكير  تعمّقا وتدبّرا ومقابلة ، ووجدت أن المشترك الأخلاقي غالب في التفاصيل كما أنه متحد في الفكرة العامة وهي المساواة بين الناس. ومن المسائل التي تتوافق مع النموذج المعرفي الذي جاء به الإسلام ما أكدت عليه الكاتبة روبن ديانجلو من أهمية قبول البيض للمراجعة الأخلاقية في تعاملاتهم مع السود، وأن تحمّل المسؤولية الأخلاقية يقتضي التركيز على تصحيح المواقف العنصرية وليس الانشغال بدرء تهمة الخطأ العنصري بما يقتضيه من شعور بالخزي.

يخلق النموذج المعرفي في الإسلام سياقا من الدعم الأخلاقي للمطالبة بالحقوق، ومراعاة حال صاحب الحق بما يجعل ميزان العدالة مستقرّا، فــــــ" إن لصاحب الحق مقالا" كما ورد في الحديث الصحيح،  ولكأن إهدار هذه المراعاة فيه ترسيخ لإهدار الحقوق، وتبرير مراوغ يؤول إلى التشويش على صاحب الحق.

وفي عالمنا المسلم، هشاشات أخلاقية تحتاج إلى وقفة صادقة، ومن ذلك التشنج من بعض العقلاء حيال الدعوة إلى المراجعة الجادّة لتجليات الاستعلاء الذكوري أو الطبقي في الثقافة الاجتماعية ؛ بسبب الالتباس المفاهيمي، وسأضرب مثالين لهذا الالتباس : أحدهما : التباس القوامة  بالتسلط، و الثاني : انتقال شرط الكفاءة في النسب في الزواج من كونه وسيلة إلى تحقيق السكن والاستقرار بين الزوجين إلى مقصد يطلب لذاته.

وهذا التشنّج لا يقتصر على الرجال فحسب ، بل تشترك معهم فيه نساء ، وقد جمعهم التصور الملتبس للمفاهيم وتوهّم أن مراجعة هذا التصوّر هو محادّة للدين . ليس مقصودي هنا هو الإدانة الأخلاقية، وإنما الدعوة إلى الإنصات الجاد إلى البحث الفقهي التجديدي المرتكز على منهج أهل العلم.

ما يحدث الآن في مواجهة البحث الفقهي التجديدي هو نوع من الهشاشة الأخلاقية بتعبير روبن ديانجلو، وهو وفقا لأخلاقنا الدينيّة تقصير من الرافضين للتجديد في التعرّف على العوائق النفسية التي تحول بينهم وبين مراجعة تصوّراتهم وتحريرها، وحجب للعقل والقلب عن سماع حجة أهل التجديد -المنضبط بضوابط أهل الاجتهاد- وعدّ كلامهم عن الظلم مشوّشا – في أحسن وصف-.



[1] حاز الفيلم على جائزة الأوسكار( 2024م) عن أفضل سيناريو مقتبس. والفيلم من تأليف الكاتب الأمريكي بيرسيفال إيفريت جيمس، وقد اقتبس من رواية لنفس الكاتب، والفيلم من إنتاج ستيفن سيلبرج، وإخراج: كورد جيفرسون، وبطولة : جيفري رايت.

الأحد، 18 أغسطس 2024

أسئلة التغيّر

 

تتغير أفكارنا ، وهذا التغيّر علامة نضوج، وأرجو أن يكون علامة صدق ، أهل التزكية يتحدثون عن الثبات كعلامة على جمود الروح ، يذكرون ذلك في سياق أحوال النفس وتقلباتها في طرائق الخيرات.

          لكن التغيّر له ميزانه، هناك تغير هو علامة على تشوش النفس والأخلاق، وتغير آخر هو جزء من النمو الإنساني الكلي ، وأظن أن علامات الأول التطرّف في التقلب في الأفكار، بما يصحب ذلك من أخلاق الجفوة والكبر والمزايدة .

          تغيّرت عبر السنوات، تغيّرت أفكاري ، وكان بعض هذا التغير هو تبع لنضوجي الإنساني ، وخبرات الحياة في سرّائها وضرّائها ومسؤولياتها وأثقالها .

          قرأت قبل أشهر كتاب : ( من قام بطهي عشاء آدم سميث ) ، فيه لقطات ذكيّة، لكن هذه اللقطات لا تجعلني أتبنى ما تقرره الكاتبة من مسائل تتعلق بموقفها من عالم الاقتصاد، لست متخصصة في الاقتصاد ، ولا أستطيع أن أسلّم بالنقد مهما بدا لي منحازا للقيم الأخلاقية، الأمر ملتبس ومركّب وليس بسيطا كما نسمعه ممن يتحدثون عن الحياة الاقتصادية المعاصرة وتشييئها للإنسان ، كلام فيه كثير من المجازفات ، عقلي المنهجي لا يقبله .

          عندما قلت رأيي هذا لمن أوصتنا بالكتاب ، لم يعجبها، بدا لها أني أفكر بتقليدية بليدة ربما ، وغادرت المجموعة لأن النفس الثوري يقف كحجر عثرة أمام أي انتفاع من تداول الأفكار .يقدّم طلب التغيير ، ولكأنه فضيلة تطلب لذاتها، وليس وسيلة لمقاربة الحق ، وسيلة توزن بميزان ما تؤدي إليه.

          في مقدمة كتاب ( تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع) كلام مهم من عالم راسخ عن فساد التوجه الثوري ، ونفسية الصراع، وأن ذلك ينبو عن الروح التي جاء بها الدين.

          يبدو طلب التغيير أحيانا كمسكّن إدماني أسهل من أن يقيس المرء الأمور بميزان الحكمة ، وأن يؤدي واجباته في المجال الشخصي والأسري ، وأن يسلّم للحياة بتعقيداتها التي تحتاج إلى موازنة الأولويات وتقدير واع للمصالح والمفاسد.

          لذلك يراجع العاقل بواعثه، ويراجع مآلات مواقفه، ويراجع قيمه الأصلية ، واتساقه مع النموذج المعرفي الكلي الذي يتبناه ، ولا يحيد عن الحق لزهوة رأي أو بهرجته أو بلادة أدلجة حزبية .

          ولا زلت أطلب من الله السداد، وأن يجعلني ممن لا يحيدون عن طلب الحق لعارض مزوّر ، ولا زلت أتعلّم كيف أقترب من كل ما يقرّبني إلى الإنصاف والحكمة .