الأحد، 16 يونيو 2024

الغضب من الخمسين

 

 

الخمسون السخية

قبل عامين عزمت أن أجعل يوم ميلادي هو يوم امتنان وحمد، أخرج فيه إلى مقهى هادئ، وأكتب في مذكرتي كل الأعمال الجيّدة التي وفقني الله إليها في العام المنصرم ، وأجمع عقلي على شهود نعم الله عليّ في عقلي وقلبي وعلاقاتي وعملي ، ولا أشتت حضوري في أي معنى لا يتصل بشهود النعم . هذه التجربة وتكرارها كل حين وحين ،  أثرها ممتد ليس فقط على انشراح صدري لكن أيضا على طريقتي في التفكير ، فصرت أركّز على الجانب المشرق في كل حدث يمر بي أو أمر به.

اخترت البارحة ( 4-6-2024م) مقهى جديدا لم أذهب إليه من قبل، وحفّزتني المراجعات في (جوجل ماب ) على الذهاب إليه، مقهى صغير ورائق من مقاهي الأحياء، وقبل أن أخلو بدفتري الطيب، جرى بيني وبين صديقة حوار ودودا شعرت معه بالبهجة.

كانت تجلس قبلي في المكان، وقد تعرّفت إليّ  من متابعتها لي في منصة إكس ، حمدت الله لأن كلماتي تصل إلى قلوب لا أعرفها، وتؤنسها، وتؤثر فيها نوع أثر ، فالحمد لله على فضله.

خلوت بدفتري، وكتبت قائمة الامتنان لعامي الخمسين ، ووجدت أن الخمسين سخيّة، بل هو الله الذي يعطينا فوق ما نؤمّل ، ويعلّمنا أن البصيرة والرشد والعافية من خير ما نؤمّل .

قبل ثلاث سنوات ونصف اتخذت قراري بالانفصال، أجّلت هذه الخطوة طويلا؛ لاعتبارات متعددة، وخرجت من التجربة بحلوها ومرّها وفي داخلي غضب عاصف، كان هناك انفصال حاد بين ما أؤمن به عقلا من أنّ الله لا يقدّر لنا إلا ما هو خير، وبين ما أشعر به من غضب مبهم ومحتشد.

كنت أفكر، لقد بقيت سنوات ثلاث على الخمسين، لقد انقضى العمر من حيث لا أشعر، فهل سيتسع ما بقي منه لتجربة جديدة يطمئن بها القلب؟

بدا الأمر قاتما، فالاجتماع مع شريك مناسب في  ثقافتنا الاجتماعيّة ليس أمرا يسيرا، أين  هو الرجل الذي يقارب عمري، وأسكن إليه عقلا وروحا،  وهو مع ذلك غير معدّد ، وكيف سنجتمع معا وليس في الأفق ما يدل على سبب قريب أو محتمل.

          كنت أظن أن غضبي لن يطفئه إلا أن يعوّضني الله بزوج جديد، وعلّمت نفسي أن أتجاهل غضبي، فلا حل معه إلا التجاهل، وأن أركّز على أمر آخر كان بمثابة ضرورة نفسية بالنسبة لي .

         

ليلة منتصف الصيف

في المسلسل النرويجي المحدود : " ليلة منتصف الصيف" تقول بطلة المسلسل التي جاوزت الستين لصديقتها وهي تغالب دموعها: "يساورني شعور كأنني طفلة، وأنني يجب أن أتعلّم كل شيء من جديد. يا للإزعاج "

ما تحدثت عنه هذه السيدة الستينية هو عين ما كنت أشعر به وأنا في السابعة والأربعين من عمري، كنت في حالة تيه شبه تامّة، وكنت أحتاج إلى التعلّم من جديد، أحتاج أن أتعرّف على نفسي، وأن أحبّها، وهل يحب ربّه من لم يحب نفسه؟

كانت رحلة امتدّت لسنوات ثلاث حتى استوت على الجودي، لكنه استواء المرتحل المطمئن  لا المقيم ، وهو اطمئنان الارتقاء لا الجمود ، اطمئنان ترتقي به النفس من طور إلى طور جديد ، تتجلّى عليها في كل طور معان جديدة .

وفي هذه الرحلة قرأت كثيرا ، وكتبت كثيرا، والتزمت بتمارين " نفسية"، والكثرة هنا كثرة معنى  لا عدد ، وأكرمني الله بمن ساندني، ممن لن أستطيع إيفاءهم حقهم ما حييت، كما أنه في هذه الرحلة تعثّرت كثيرا، وأخطأت ، وخسرت -ببعض سبب مني- صداقات قريبة ، وابتعدت عن أخرى اختيارا بعد أن أشرق عقلي ، وعرفت لنفسي حقها، وكلما اقتربت من نفسي ، استعدت توازني ، وتبيّنت هويّتي ،حتى جاءت أحداث غزة .

الموت والبصيرة

          كتبت إحدى الصديقات على منصة ( اكس) نصّا فيه ما يشبه التثريب على التدوين الذاتي عن أثر غزة الوجودي في حياة المدوّن ، ولكأن هذا فعل أناني يعبّر عن نفسيّة التقاعس العربيّة ، ولم أعلّق على منشورها ، لكني أنفر حقا من كل مزايدة تتعلق بالقضايا العامّة أو الخاصّة، وأجد أن الكتابات التي تتبنّى هذا النفس الصدامي تفتقر إلى النضج والرشد . لم أعلّق على منشورها في حينه لأني خشيت أن يكون رد فعلي غير مراع لحالة الألم الجمعي التي نعيشها ، لكن وجدت أن من المناسب في هذه المقالة المكاشِفة مثل هذه المكاشَفة.

          كنت كغالبنا أتابع الأخبار ، فلا أجد طعما للنوم أياما ، وأتقلب في صلاتي، وفي سريري، أناجي الله ، كيف ترضى يا رب بكل هذا الظلم ؟

          كنت أشعر أن عقلي سينفجر من التفكير والوجع، ثم استشهدت علا عطالله – رحمها الله- صديقتنا الغزاويّة الملهمة على ( إكس) ، ووجدت أني عقلا أمام طريقين : إما أن أكفر بالله – والعياذ بالله- وإما أن أسلّم من أعماقي بحكمته كما أنا مسلّمة بقدرته. الطريق الأول ممتنع لقيام الدليل على وجوده تعالى ، وعلى صحة دين الإسلام عندي، إذن لم يبق إلا التسليم بالحكمة الإلهية، والأمر هنا لم يعد عقليا محضا كما كان الحال مع "غضب الخمسين" ، لكني أحسست ولكأني أؤمن بالله من جديد، إيمان جديد يأخذ بروحي إلى السلام ويعلّمها ما لم تعلم .

          فلما تجلت الروح أبصرت، ووجدتني لأول مرة بعد ثلاث سنوات أقبل اختيار الله لي قبول المؤمن وجدانا بحكمته ، وأقبل كل ألم مررت به ، وكل شتات أفقدني بوصلتي، وكل قسوة طالت روحي.

          قالت لي صديقة مرة: الألم هو طريقنا للنضج والرحمة ، قلت لها : لكن الله قادر على أن يكرمنا بالنضج والرحمة دون ألم ، قالت : الرضا يا صفية. لكني كنت غاضبة وعاجزة عن الرضا.

          وأتأمل الآن، لماذا داوتني أحداث غزة، ولم يداوني ألمي الشخصي، ولعل بعض الجواب هو أن المعاناة الكلّية أعظم أثرا، وأن ألمي الشخصي امتزج بنفس منهكة مشوّشة ، لكن المعاناة الكلّية قابلت نفسا أقرب للعافية والسواء.

          داوتني أحداث غزة وجدانا، ووجدتني أذوق للعبادة معان كان يحول بيني وبينها غضبي ، وعرفت الله من جديد.

التسليم وإيزابيل الليندي

          في ليلة هادئة وبعد صلاة الوتر قلت لربي: أريد زوجا مناسبا ورائعا يا رب، ثم خطر لي أن ذلك صعب كإيجاد قشّة في كومة قش ، ثم استغفرت الله ، وقلت له : سلّمت إليك أمري كله. وفي اليوم التالي راسلتني صديقة لم نتحدث منذ زمن ، وقالت لي إن صديقا لها ، يكبرني بسبع أو ثمان سنوات ، وغير متزوج حاليا، يبحث عن زوجة في مثل عمري، وهو من عائلة كذا ومواصفاته العامة كذا ( وكل ذلك كان مناسبا) ، وأنها ستصلني به إن كان لديّ استعداد . عرفت حينها أن الله يذكّرني بقدرته ، وكنت قد تعلّمت الدرس، وقلت لربي: هل هو تذكير قط يا رب، أم أن الأمر سيتم؟ رضيت يا رب. ولم يتم الأمر ، وكانت تجربة غريبة قليلا ، حسنا لقد وجدني مختلفة ومميّزة عقلا – كما قال- لكن شكلي لم يعجبه، وقال ذلك صراحة ، ولأني كنت قد استويت على الجودي قلت له بهدوء حاسم: لم أطالبك بذكر سبب انسحابك. بدا لي تصرّفه مرتبكا، هل تأثرتُ بعد ذلك ؟ نعم ، لكن كخدش خفيف سهل المداواة. ويظل للكلمة أثرها مهما كانت ثقتنا بأنفسنا، ولذلك عظّم الله شأن الكلمة.

          التجربة اللطيفة التي مررت بها مع مبادرة صديقتي ذكرتني بكلام إيزابيل الليندي في كتابيها الرائعين: " حصيلة الأيام"، و" نساء روحي" عن أن التعرّف بشخص مناسب هو أمر يتحكم به الحظ ( القدر)، وأن أي ( معافرة) لأجل الحصول على الشخص المناسب لا تنجح غالبا، إيزابيل ذكرت ذلك في " حصيلة الأيام " عندما حكت تجربتها في البحث لابنها عن زوجة عبر تطبيقات المواعدة، ثم ذكرت ذلك من جديد في كتابها: "نساء روحي" عندما حكت تجربتها في البحث عن شريك وهي في الستين- بعد انفصالها عن زوجها- عبر تطبيقات ومكاتب المواعدة أيضا ، وعدم نجاح هذه التجربة ، ويبدو أن القناعة التي ذكرتها من قدرية الزواج في "حصيلة الأيام" اضطرت نفسيا إلى اختبارها من جديد وهي في الستين من عمرها، وتعجبت إيزابيل من الاستحقاق الذكوري الذي يجعل الذكور في عمر الستين يبحثون عن زوجات أصغر منهم بعشرين وثلاثين عاما، قلت لصديقة عربيّة اشتكت لي من نفس الأمر : لقد اشتكت إيزابيل كذلك، فالأمر عالمي فيما يبدو وليس عربيا فقط .

اللطيف أن إيزابيل ساق لها الله زوجا مناسبا بطريق قدري، لم يكن لها تدخّل فيه، وبعد أن كانت قد توقفت عن البحث عن شريك، وتزوجت إيزابيل مرة ثالثة في السبعين من عمرها، قالت إيزابيل : إن زواجي في هذا العمر من شريك رائع، هو نافذة أمل لكل النساء في مختلف الأعمار.

          ما أنا مقتنعة به اليوم وأنا في الأيام الأولى لعامي الخمسين، أن الإنسان إذا عرف نفسه، وخبرها، وأحبّها، واتسق عقلا ووجدانا مع قيمه الوجودية ، تصالح مع النقص الذي يبتليه الله به في بعض أمره، وانشغل بشهود نعم الله عليه عن الكدر، ووهبه الله قوّة الرضا وسكينته وهدايته : ( ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) .

          وأجدني في الخمسين أقرب ما أكون إلى نفسي ، وهويّتي ، وأكثر تحققا ، ولا زال في داخلي فضول غضّ للتعلّم ، ودهشة حلوة مع كل معنى وجودي جديد يلمس روحي ، وحماس متجدد لأن أضيف إلى الحياة معرفيّا وإنسانيا ، ولا زلت أنتظر أن يعلّمني الله أكثر ما يجعلني أكثر رحمة ، وأعظم رشدا.