الأحد، 5 مايو 2024

فقه المساواة ، قراءة في كتاب: هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ *

لعل كل من لديه اهتمام بقضايا المرأة في الإسلام لا بد أن يلفت نظره هذا العنوان لكتاب مترجم. الكتاب للدكتورة ليلى أبو لغد أستاذة الأنثروبولوجيا ودراسات المرأة والنوع الاجتماعي في جامعة كولومبيا.

تقول الدكتورة ليلى أبو لغد في مقدمة النسخة العربية إنها كتبت هذا الكتاب بالإنجليزية للقارئ الأمريكي والأوروبي، وإن استصحاب هذه الوجهة في قراءة الكتاب سيكسب القارئ العربي فهما أعمق للمناقشات خارج العالم العربي.

حسنا، لقد قرأت الكتاب وفكرة كونه مكتوبا لجمهور آخر حاضرة عندي، لكني مع ذلك وجدت أن منهجية الكاتبة في مناقشة الأفكار لا تختص بجمهور معين، لأنها تؤسس لنظر موضوعي أصيل في القضايا الإنسانية.

  الموضوع الرئيس للكتاب  -الذي صاغت المؤلفة عنوان الكتاب استنادا إليه - هو تفنيد دعوى أن إنقاذ المرأة الأفغانية من التطرف الإسلامي هو سبب غزو أمريكا لأفغانستان.

ولعل هذه الدعوى ستبدو للقارئ العربي خداعا مبتذلا، لا سيما مع ما تضمنته من جعل الحجاب عائقا للمرأة عن الازدهار الإنساني والعقلي، وهذا ما يكذبه الواقع، و ينم عن جهل  بحياة المسلمات العربيات وغيرهن .

لقد نجحت د. ليلى أبو لغد في أن تنقل لي كقارئة عربية  كيف يفكر الغربيون، وكيف يناقشون قضايانا الإنسانية. ووجدت في الكتاب مادة ثرية ومكثفة في عرض بعض الأفكار قادتني للقراءة عنها في مصادر خارجية لأستطيع فهمها بوضوح .

وما أنا معنيّة به في هذه المقالة هو أن أتخيّر من الكتاب ما وجدت أنه أضاف إليّ فلسفيا أو منهجيا في تناول القضايا الإنسانية، وأن أقدّم قراءتي لبعض قضاياه كامرأة عربية مسلمة متخصصة في الفقه .

 إن الإشكالية الكبرى المتعلقة بفقه المرأة عند بعض الفقهاء هي أن الفقيه يتعامل مع المرأة من خلال علاقتها بالرجل لا من حيث كونها إنسانا مستقلا شرّع الله الأحكام له أصالة كما شرّعها للرجل أصالة، وأنها ستأتي الله يوم القيامة فردا ، كما سيأتيه الرجل يوم القيامة فردا.

 إن قراءة النصوص الشرعية انطلاقا من هذه الرؤية التي تحفظ للمرأة حقها كإنسان مستقل         لا تابع يجعلنا نخرج بنتائج مختلفة في مسائل فقه المرأة، مسائل علاقتها بنفسها ، وعلاقتها بجسدها ، ولباسها ، وعلاقاتها الإنسانية ، واختياراتها الحياتية.

المساواة أصل في التكليف للجنسين، المساواة في الاستقلالية، والكرامة، والتواصل المتزن مع الحياة.  ومن المهم التأكيد على أن العدالة التي تتعلق بمسائل فقهية تفصيلية تؤول إلى فكرة المساواة ولا تنقضها[1].

          في هذه المقالة سأقدم نماذج فقهية تتسق مع الرؤية الكلية التي قدّمها الإسلام لعلاقة المرأة بالحياة، وهي رؤية تنطلق من أصل المساواة في التكليف والكرامة الإنسانية وكون المرأة إنسانا مستقلا لا تابعا للرجل.

الاختيار كقيمة مقيّدة:

          ننظر للاختيار كقيمة مطلقة، بينما هو عند التحقيق مقيّد بالمبادئ العامة التي نعتنقها، سواء كانت هذه المبادئ محافظة أو متحررة .

          قد تبدو هذه الفكرة مستفزة لمن عوّدتهم الحياة أن يعيشوا وفق اختيارات غيرهم، لا سيما بعض النساء في مجتمعاتنا العربية، لكن لعل هذه الفكرة تذهب بعيدا إلى العمق في نقض دعوى أن بعض الديمقراطيات الغربية تحرر المرأة المسلمة حين تسن تشريعات تمنع تغطية الشعر أو الوجه. تقول ويندي براون[2]:  ولكأن العلمانية تستند في قضية لباس المرأة إلى أن الجسد العاري والتباهي بالحرية الجنسية رمز لحرية المرأة وحصولها على المساواة إن لم يكن مقياسا لهما،  وهكذا ينظر للمسلمات اللاتي يلبسن ما يعددنه لباسا شرعيا على أنهن يعشن حيرة ما.

          هل التقطتم معي الإحساس بالتفوق الذي يحاكم إليه هذا التوجه فكرة اختيار المرأة المسلمة للحجاب ولكأن هذا الاختيار هو مظهر لمرحلية في التفكير لم تبلغ تمام النضج .  

لقد تناولت د. ليلى فكرة الاختيار كقيمة مقيّدة في موضعين مختلفين من الكتاب. الموضع الأول في أول الكتاب ونقلت فيه عن ويندي براون قولها : " " كل اختيار هو إلى حد ما رهين السلطة، بل ومتأثر بها، وأن كل اختيار إنما يباعد المرء عن الحريّة إلى حد ما" . فاختيار المرء مبدأ عاما ما يجعله – عند تجريد الفكرة – مقيدا بهذا المبدأ وتطبيقاته.

والموضع الثاني في آخر الكتاب بعد نقلها لكلام طويل لجوديث بتلر[3] عن وهم الاختيار الحر لتؤكد على أن لدى البشر مشتركات إنسانية تؤكد على أن الاختيار قيمة مقيدة، وأن استصحاب هذه الزاوية في التفكير الحقوقي يحميه من الوقوع في ارتباكات منهجية، ويقوده لتحقيق العدالة بعيدا عن ضلالات ادعاء التفوق الأخلاقي.  

          في السطور السابقة ناقشنا المسألة في بعدها الفلسفي، ولا يسعني كدارسة للفقه أن أتجاوز مناقشة كيف يتناول الفقيه مسألة منع القانون المرأة من تغطية الشعر أو الوجه ، أما التشريع الذي يمنع ستر الوجه فأمره يسير، لأن هذا التشريع إن صدر عن قانون يستند إلى الشريعة فهو تشريع صحيح استنادا على أن حكم الحاكم يرفع الخلاف[4]، ويجب حينها على المسلمات كشف وجوههن ، وينتقل كشف الوجه في حقهن إلى الوجوب بدلا من الجواز أو الاستحباب .

المسألة الأشد تركيبا هي إذا صدر قانون يمنع المسلمات من تغطية الشعر في بلد غير مسلم، فهنا يفعّل فقه الأولويات فتستر المرأة من شعرها ما لا يعرّضها للأذى، ولا تعطل حياتها وعيشها بكرامة مادية ومعنوية [5].  

          وقد سألت امرأة العلّامة علي جمعة عن اضطرارها لخلع الحجاب في منشأة تمنع عمل المحجبات- والحال أن هذا العمل هو مورد الحياة الكريمة بالنسبة لها ولا مورد سواه - فقال لها الشيخ : إن عليها أن تحتفظ بغطاء للرأس في حقيبتها فتلبسه بمجرد انتهاء وقت العمل، فقالت: ألا يكون فعلي هذا نفاق ؟ فقال فضيلته : بل طاعة بحسب الاستطاعة[6].

          كلام العلّامة عي جمعة فيه مراعاة لفقه الأولويات، وفيه حفظ لحق المسلمة في حياة كريمة            مادامت لم تستطع أن تجد عملا آخر يحفظ حقها في ذلك.

          الفقيه المسلم لا يغيب عن تكوينه العلمي البعد الفلسفي في المسائل الإنسانية لكنه يفتي الناس بما يعينهم على أن يعيشوا واقعا لا حرج فيه ، ولا تعسّر ، ولا حرمان من العيش الكريم.

 

الإدانة الثقافية

          تناقش د. ليلى أبو لغد باستفاضة ما سمته بالحس العام الجديد في العالم الغربي والذي يتوجه إلى الإدانة الثقافية لأي ثقافة لا تتبنى التوجهات الليبرالية في العلاقة بين الجنسين ، وتنبه إلى أن هذا التوجه يسقط دراسة السياقات السياسية والاجتماعية والقيم الخاصة بأخلاق الرعاية والانتماء للعائلة التي تتبناها الثقافات الشرقية، ويحاكم كل ذلك إلى قيم الثقافة الغربية .

ناقشت المؤلفة في فصل كامل قضية جرائم الشرف، ونبّهت إلى أنها ليست قضية جندرية محضة، بل هي قضية جهل وانحراف في المقام الأول، وبرهنت على ذلك بتضافر الجهود الحكومية والدينية والمدنية للقضاء عليها، وأكّدت على أن العنف الأسري ليس حكرا على ثقافات الشرق بل لا تخلو منه المجتمعات الغربية أيضا :" يشهد لذلك صحف أمريكا وأوروبا وقضاتهما ومحاموها وعلماء النفس فيهما وسجونهما". تقول المؤلفة : ويأتي الإشكال المنهجي من ازدواجية التعامل مع العنف الأسري الذي يتم ربطه بالثقافة عند حصوله في المجتمعات الشرقية بينما يُكتفى بإدانة مرتكبيه في مجتمعات أخرى.

      هذا التنبيه المنهجي ينبغي ألا يسقِط -في خطابنا الداخلي في مجتمعاتنا المسلمة -أهمية التركيز على أن المرأة في الدين مساوية للرجل في الواجبات، وأن تكليفها هو تكليف من الله عز وجل تتعبّد الله بطاعته، وليس لأجل جعل الرجل حاكما على اختياراتها الدينية والأخلاقية، بل يحتكم الرجل والمرأة معا إلى الشرع وإلى القانون.

نعم، قضية جرائم الشرف هي قضية جهل وانحراف لكنها لا تخلو من بعد تمييزي ينظر للمرأة على أنها تبع للرجل لا مستقلة عنه ، ويجعل اختياراتها تحتكم إلى اختياراته لا إلى قيم الرعاية التي أقام الله عليها العلاقة بين الجنسين.

هناك قدر من التبرير يسكن جزءا من العقل الجمعي العربي لمرتكب جريمة الشرف – إن صحت هذه التسمية- وهذا التبرير منزعه الخلل في فهم ما جاء به الإسلام من تكريم وعدالة  للمرأة والرجل معا. لقد قال الإمام أحمد الطيب في برنامجه الرمضاني ( الإمام الطيب 1444هـ )  عن المرأة كلمة جسّدت واقع الحراك الفقهي في قضية المرأة ، قال : ولكأن فقه المرأة لم يخط فيه قلم.

 و ما أؤمن به هو أن التغيير يتعاضد فيه الفكر مع القانون مع إصلاح كافة السياقات التي تعقّد المعاناة الحقوقية ، وهو ما يتحقق في المملكة العربية السعودية تحققا يلمس المنصفون آثاره ومنافعه.

 

العدالة المتعالية

          هكذا وصفت المؤلفة د. ليلى أبو لغد  التوجه العام في القراءة الحقوقية الغربية  لمعاناة المرأة المسلمة، والذي يبرز المعاناة الحقوقية ولكأنها خاصة بالمسلمات في الدول العربية والإسلامية. تقول د. ليلى            أبو لغد: "يعد الفشل في البحث عن أوجه التشابه- أي التشابه في قضايا الانتهاكات التي تعاني منها المرأة في جميع بلاد العالم - أمرا خطيرا . فهذا التقصير لا يجعلنا ناكرين لإنسانيتنا المشتركة وحسب، بل متواطئين أيضا ...إذ استخدمت حقوق النساء غطاء سياسيا للتدخل في أفغانستان" [7].

قدّمت د. ليلى أبو لغد للجمهور الأمريكي والأوروبي -الذي تنتمي إليه ثقافيا -قراءة تحترم المشتركات الإنسانية ، والتعددية الثقافية، وتنبذ الفكر الاستعماري في غطائه الإنسانوي، وتدعو للتكافل مع الجهود الساعية لتحقيق العدالة للمرأة المسلمة دون مزايدات أخلاقية -تجرّد الثقافات الشرقية من ثرائها- ،وأوهام تجعل الاختيار الحر خاصا بالوجهة الليبرالية في المسائل الحقوقية.

          لقد احترمت الجهد المنهجي الأصيل، والبحث الذي يحفر في عمق الأفكار والوقائع ، ويحررها من سطوة الأفكار السائدة. وفي الكتاب تجديد مثر يتماس مع الواقع تماسّا يقود لتنوير حقيقي وفاعل.

          يقع الكتاب في ثلاثمائة وخمس صفحات، ونشرته في عام 2022م  دار صفحة سبعة السعودية، بترجمة من الدكتور محمد الرحموني . ممتنة حقا للمؤلفة د. ليلى أبو لغد ولكل من ساهم في إخراج هذا العمل المهم للقارىء العربي.

 *نشر هذا المقال في موقع سؤال بتاريخ 15/ 6/ 2023م                   

 

 



[1] تناولت هذه الفكرة في خصوص العلاقة الزوجية في مقالتي بعنوان : الزوجة في الإسلام ..  سؤال العدالة .

[2] كاتبة نسوية، وعالمة سياسة أمريكية معاصرة.

[3] فيلسوفة أمريكية نسوية معاصرة .

[4] هنا تأصيل حسن في هذه المسألة، بعنوان : "حدود ولي الأمر في تقييد الواجب والمندوب"، لفضيلة مفتي مصر: أ.د شوقي إبراهيم علّام .

[5] ينظر كلام العلّامة عبد الله بن بيه في تأصيل هذه المسألة في كتابه: " صناعة الفتوى وفقه الأقليات" ص319/314              

[6] برنامج والله أعلم لفضيلة العلامة علي جمعة على قناة cbc . حلقة بعنوان : من تخلع الحجاب لم تكفر .

[7] النقل بتصرف من كتاب : هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ ؟  ص 237-ص 300


ليست هناك تعليقات: