الأربعاء، 16 أبريل 2025

الأمومة والجسد والإرث القديم *

 

                    

 

"انظر في مرآة الحمّام لجسدي المشوّه تماما بينما ينام ابني في سرير خشبي وضعته الممرضة في الغرفة حتى أتمكّن من إرضاعه حين يستيقظ. أحدّق في تفاصيل جسدي المشوّه وأوثّق كل شيء بكاميرا الهاتف..."[1].

هكذا رأت هنده الشناوي جسدها بعد الولادة، جسدا مشوّها عبثت به الأمومة. في تجربتي، لم يشغلني شكل جسدي بعد الولادة، كان الهم الأكبر حينها هو كيف أنجح في إرضاع ابنتي، وأنجو من نظرات كنت أشعر أنها تقيس كفاءتي كأم وكإنسانة. يبدو أن الأمومة تفجّر مناطقنا المظلمة التي نخبئ فيها قلقنا الخفي.

تدعو شيرين أبو النجا إلى تحويل الأمومة إلى مجال بحثي يرتبط بالواقع وبالتجربة المعيشة. وتقول إن تعدد سرديات الأمومة هو شكل من أشكال مواجهة العنف ضد النساء، عنف تنميط اختيارات الأم، وتقييد الحديث عن التجربة الشعورية للأمهات[2].

في تقديري أن هذا حدّ جيّد لكنه غير كاف، نعم، إن تعدد سرديّات الأمومة يرفع التباسات تقديس الأمومة، ويحجّم العنف المتعلق بالتنميط، لكن ما نحن بحاجة إليه أيضا هو أن نتبين مبادئ عامة، تشكل مرجعية كلّية لمفهوم الأمومة، مبادئ تصون الحق الإنساني للأمهات، وتتفاعل مع الواقع، وترعى احتياجاته، وترتقي به دون أن تخل بتوازنه.

 

إرث قديم

عزل الجسد عن " كينونتنا الإنسانية" هو جزء من إرث قديم، ينظر للمرأة كأداة للجنس، ويجعل الجنس هدفا مقدّسا في ذاته، والأمر لم يسلم منه الرجل أيضا، هناك رؤية كليّة ممتدة عبر الأزمان تكاد تفصل الغريزة الجنسية عن متعلّقها الإنساني، وهذه الرؤية انبثقت عنها مفاهيم مشوّهة، تحاكم الإنسان إلى الصورة المجرّدة وتجعل الصورة أساسا نصدر منه ونرد إليه في موازناتنا النفسية والاجتماعية، وامتدّ الأمر إلى تعظيم أمر الغريزة على حساب احترام الحقوق الأصلية التي عليها مدار الوجود الإنساني، فلا يعد الزواج على أساس غريزي بحت أمرا مستقبحا، وينظر للمرأة في العلاقة الزوجية على أنها جسد أولا، ويختزل الرجل رغباته الإنسانية في الغريزة ولكأنها يُكتفى بها عما سواها، في حيدة عن التوجيه القرآني:" لتسكنوا إليها"[3]، ويمتد الأمر إلى أن تكون الأم مطالبة بأن تستعيد صورة جسدها كما كان قبل الحمل والولادة، لأنها جسد أولا، ولأنه لا ينظر إلى جسدها كجزء من كينونتها الإنسانية. تطالب الأم نفسها بذلك، ويطالبها الزوج، والمجتمع.

إن ثنائية الجسد والأمومة عبث بها معرفيا ثلاثة أمور:

 أحدها: عزل الجسد عن عمقه الإنساني وذلك عبر تضخيم التركيز على الغريزة.

والثاني: تسليع جسد " الإنسان" لأهداف اقتصادية.

والأمر الثالث: هو العقلية العنصريّة في سياقها الجسدي لونا وقواما.

نحن بحاجة إلى خطاب نقدي يفكك هذه الأمور المتشابكة، والتي شكّلت رؤية كليّة مضللة نتج عنها تشيئ الجسد، وتضليل البوصلة الوجدانية والأخلاقية للرجل والمرأة معا.

هذا الخطاب النقدي لا بد أن يشتبك فيه الفقهي (رؤية وتنزيلا) مع النفسي والاجتماعي والأدبي والفنّي والتعليمي، ومن مجموع هذه المسارات تتكون ثقافة مجتمعاتنا العربية.

يسري اليوم في مجتمعاتنا عزل الجسد عن التجربة الإنسانية، واختزاله في قالب بمواصفات ثابتة، صورة يحاكم إليها الإنسان، ويؤذى بسببها من موارد عدّة غريزيّة أو تسليعيّة أو عنصرية.

 

أكثر من القبول

عندما كنت حاملا بابنتي كانت تسعدني التعليقات عن أن الحمل لم يخرّب قوامي، بل زاده اعتدالا، وبعد الولادة، لم يشغلني جسدي، فقد كنت مثقلة بهمّ أن أكون أمّا جيّدة، كان الشعور بالمسؤولية يأكل قلبي، وما إن ذقت حلاوة محبّة الأمهات بعد شهور خمسة، واقتربت مشاعري من الاتزان، صرت أفكر في الأمر من زاوية مختلفة، لم تكن واضحة حينها لكنها كانت تتفتق في روحي، وحلاوة الأمومة زادتها جلاء يوما بعد يوم. جسدي الذي عاش هذه التجربة العظيمة، تجربة الحمل والولادة، يستحق أن أحترمه كيفما تشكلت تضاريسه، جسدي ليس شيئا أحاكمه إلى معايير ثابتة، جسدي هو جزء من " كياني الإنساني"، وكما نحترم تقلبات عقولنا وأرواحنا عبر تجاربنا المتجددة، فلأجسادنا ذات الحق، يستحق جسدي وجسدك الاحترام، والاعتزاز، وأكثر من القبول؛ لأنه عبر بنا إلى وجود جديد.

تجربة الحمل ثم الولادة تستحق منظورا كليّا مختلفا يليق بها، منظورا يعترف بالتغيّرات التي تعتريها، ولا يشيئها، ولا ينزع عنها إنسانيتها، ولا فرديتها. لا تشوّه الولادة أجسادنا لكنها تخلق صورا جديدة ذاتية للجمال.

الأنوثة ليست جسدا بمواصفات معيّنة، يخرّبها الحمل، وتنتهكها الولادة والرضاعة، وإنما هي فيض داخلي يتجدد مع كل تجربة جسدية ونفسية نعبرها أو تعبرنا. 

الأنوثة موقف وجودي ، رؤية لأنفسنا، أجسادنا ، وجداننا، وطريقة تواصل مع الوجود تنبع من تجربتنا الإنسانية التي شكلتها طبيعتنا الجسدية بشكل أولي، وتجلياتها النفسية والاجتماعية، أعجبني كلام أناييس نن عن الروائيات اللاتي يتناولن الحياة العاطفية والجسدية بين الجنسين والفخ الذي يقعن فيه حين يتلبسن رؤية الرجل، ولا يحررن نظرتهن الخاصة النابعة من تجربتهن الذاتية كنساء، فيكتبن عن الجنس مثلا بروح رجل، ويتبعن أساليب الروائيين الذكور كنموذج، ولكأن ذلك يضفي على أعمالهن صفة الشجاعة، بينما الشجاعة تكمن في الأصالة           لا الجموح الذي يتوارى فيه الشعور بالضآلة أمام رؤية الرجل[4].

 

جسدي أمام المرآة

            كانت الأمومة في سنواتها الأولى حصنا لي من الحكم القاسي على جسدي، لكن هذا الحصن لم يعد منيعا بعد أن صارت طفلتي في العام الرابع من عمرها، أذكر أني ذهبت إلى مجلس الأمهات في روضتها، وهناك شعرت بارتباك هزّ دواخلي.

 الرؤية المعرفيّة التي بنيتها حول علاقتي بجسدي بعد الأمومة تغبشت، لست في القوام الرشيق الذي يملكه عدد لا بأس به من الأمهات حولي، زاد على ذلك أني كنت في بداية الأربعين من عمري وأمامي شابات لم يبلغن الثلاثين–حماهنّ الله- قلت لنفسي: أين تماسكك المعرفي،  ما الأمر؟

            لم تكن هذه هي المرة الأخيرة التي ارتبك فيها يقيني بفلسفتي حول الأمومة والجسد، لكن كانت هذه المرة التي علّمتني أن اختبار قناعاتنا في تجربتها، وأن الفكرة التي لم تُصهر بالتجربة لا يُعوّل عليها.

            لقد كنت أواجه ذاتي أولا، ذاتي التي تشرّبت قيما تشيّئ الجسد، وتحاكم المرأة – والرجل- إلى الصورة الظاهرة، ولا يكفي في إصلاح ذلك صياغة رؤية معرفية جديدة دون تضفير هذه الرؤية المعرفية بوجداننا، وهذا التضفير نصل إليه بالمحاولة المستمرة، والمعايشة المستمرة، لتغدو قناعاتنا الفكرية جزءا من وعينا الجمعي، وننقل لأطفالنا وعيا جديدا حيال الجسد الإنساني.

            لقد جرفتني أمور كثيرة عن قناعاتي المعرفية في موضوع الجسد والأمومة، ولمّا عدت إلى أماني المعرفي، عدت بروح قد علّمتها التجربة أن الزهو بالقناعات المعرفية يضللنا، وأننا نحتاج إلى التواضع لننتفع بهذه القناعات، التواضع الذي يجعلنا نرأف بتعقيدات الوجدان، الرأفة هي التي تساعدنا، وتجعل قناعاتنا تزدهر نضجا في التواصل مع أنفسنا والآخرين بكل اختلافاتهم.

أذكّر نفسي بقناعتي حول جسدي وأمومتي عبر الكتابة، أحدّث نفسي عن الطريق التي قطعها جسدي عبر الحمل، ثم الولادة، ثم صعوبات التجربة الأولى لكل ما يتعلق بأمومتي في علاقتي بذاتي وبطفلتي وبأبيها وبالآخرين، ثم صعوبات الخروج من دوري الاجتماعي كزوجة وأم، إلى أم حاضنة، ورحلة التوازن في كل ذلك، أخاطب جسدي برحمة لأساعده على السير في الطريق الذي يجعله في حال صحي أفضل، هذه هي الأولوية، وأخاطبه برحمة وأنا أذكّر نفسي وأذكّره أن حقه عليّ أن أحترمه وأعتز به، كما أحترم تجربتي النفسية وأعتز بها.

            تتبدّل أولوياتنا بحسب ظروفنا، قد تشغلنا الصعوبات النفسية عن رعاية أجسادنا كما نحب، وقد نؤجل هذه الرعاية إلى حين نكون مستعدّين لها، وقد تحول عوائق صحيّة أو اجتماعية دون الوصول بأجسادنا إلى حيث نحب أن نصل بها، وفي كل ذلك نحن بحاجة حقا للرؤية المعرفية التي تحترم التجربة الإنسانية لأجسادنا، ونحن بحاجة إلى أن نتعاطف مع أنفسنا تعاطف احترام واعتزاز، وأن نتواصل في هذا الشأن مع من تتقاطع تجربتنا مع تجربتهم ونتفق معا في الرؤية المعرفية والوعي النفسي.

العناية بالجسد هي جزء من العناية بالوجدان، يكتمل هذان الأمران ويتعاضدان، وطريق هذا الاكتمال هو الوعي والتعاطف والرحمة في علاقتنا بأجسادنا لنصل إلى تجذير وعينا بإنسانية الجسد، وذاتية تجربته.

                                                                                   

*نشرت في مجلة الجوبة الثقافية، العدد 87، إبريل 2025م



[1] مقالة:" أنا قادمة انتظروني ولا تواصلوا السير من دوني" من كتاب: معضلة الأمومة، هنده الشناوي. والكتاب يحوي عشر مقالات لمجموعة من الكاتبات، دار هن، نشر سنة 2024م.

[2] النقل بتصرّف من كتاب: " رحم العالم: أمومة عابرة للحدود"، شيرين أبو النجا، تنمية للنشر، نشر سنة 2024م. 

[3] سورة الروم: آية 21

[4] النقل بتصرف من مقالة: "نساء ورجال الغريزة الجنسية عند المرأة" من كتاب: " تقديرا للرجل الرهيف ومقالات أخرى"، أناييس نن (توفيت عام 1977م)، ترجمة: محاسن عبد القادر، دار المدى، نشر سنة 2022م.

الاثنين، 14 أبريل 2025

العنف، جذور غير مرئية

 

في المسلسل البريطاني: ADOLESCENCE يقتل طفل في الثالثة عشرة من عمره زميلته في المدرسة طعنا بعد أن سخرت من رجولته في تعليقاتها على صوره في انستغرام. تعليقات الفتاة كانت عبارة عن أيقونات تعارف مجتمع المراهقين على دلالاتها وترتبط بفكر " الحبة الحمراء" الذي يروّج له اندرو تيت والذي يجعل العلاقة بين الجنسين قوامها الصراع والتلاعب والنهم الشهواني.

يقرأ محقق الشرطة التعليقات التي كتبتها الفتاة، فلا يفهم منها إلا أنها كلام لطيف، وينبهه ولده المراهق إلى معناها وارتباطها بالأفكار المتطرفة والتي يصفها بالذكورية.

أفكار "الحبة الحمراء" لا تعزز عنف الرجال ضد النساء فحسب، بل تعزز عنفا مضادّا من النساء تجاه الرجال، والفكر الذي يغذّي فكرة الصراع والتحكّم في العلاقة بين الجنسين هو رافد لوجوه متعددة للعنف، الجسدي منها والنفسي.

 

الحوار الوجداني العميق

الطفل القاتل، ذكي ومتفوق دراسيا، ويمتلك وجها بريئا، ويتصرّف – غالبا- بهدوء ودماثة في المنزل وفي المدرسة، ولذلك فإن الأوقات القليلة التي يخرج فيها عن طوره وبشكل عنيف      لا تقلق والدته، وتعدّها استثناء لا ضرورة تستدعي التوقف عنده.

يقضي الطفل غالب وقته في غرفته أمام جهاز الكمبيوتر، ويمتثل لتعليمات والديه بعدم السهر. يشركه والده في نشاطات رياضية، ويحرص الأب على الحضور والدعم. يسأل الوالدان بعضهما هل هناك مزيد كان بإمكاننا تقديمه ولم نفعل؟ ثم يتذكران أن المعالجة النفسية قالت لهما أن الذنب ليس ذنبهما. وبينما يدفع المسلسل عن الوالدين تهمة التقصير فإنه ينبّه إلى تفاصيل غفل عنها الأبوان وكان لها دورها في تغذية نفسية العنف لدى طفلهما، ومجمع هذه التفاصيل هو غياب الحوار الوجداني العميق بين الوالدين والطفل.

من الرسائل المهمة التي يوصلها المسلسل أن مسؤولية الوالدين لا تقتصر على المعاملة الحسنة، والمتابعة للمستوى الدراسي، والتوجيه للسلوك المهذّب، والاهتمام بالهوايات، بل هناك أمر جوهري هو أن يكون الحوار الوجداني العميق ركنا أصيلا في العلاقة بين الوالدين والطفل.

يشرح الطفل القاتل للأخصائية النفسية أنه كان دائما يشعر بالخزي والضآلة عندما يشيح والده بوجهه كلّما أخفق في ملعب كرة القدم، ويتعمّق هذا الشعور بالضآلة واحتقار النفس يوما بعد يوم ليصل إلى كراهيّة الطفل لشكله ووصفه لنفسه بأنه" قبيح".

يحكي الأب عن قصة اهتمامه بأن يكون لدى طفله هواية تسعده، وعن شعوره بالأسى عندما يخفق طفله في ملعب كرة القدم، وأنه يشيح بوجهه لئلا يشعر طفله بالإحراج منه.

 ولأن الحوار الوجداني العميق غائب بين الأب وولده، فإنّ التصرّف الذي أراد الأب أن يكون مراعيا تسبّب من حيث لا يشعر في أذى عميق للطفل.

غياب الحوار الوجداني العميق كان من أسباب انعزال الطفل في عالم متطرف خاص به.

عنف غير مرئي

            تسأل الأخصائية النفسية الطفل عن والده، فيقول إنه مهتم ومراع ولم يضربه قط، تسأله هل هو عنيف، فيكرر الطفل القول بأن والده لا يضربه وأنه رغم كونه غضوبا لكن أقصى ما فعله هو تحطيم الأشياء مرّة. ثم يعرض لنا المسلسل حوارات الأب مع الزوجة، فنجد الزوج عصبي الطبع وزوجته تراعي طبعه، وتستجيب له في هدوء وود.

            ينبّه المسلسل بذكاء إلى العنف الذي يمارسه الزوج تجاه زوجته وأولاده. وأنّ اعتناق الطفل لفكر " الحبة الحمراء" الذي يجعل مدار النجاح في العلاقة بين الجنسين هو هيمنة الرجل وسيطرته على المرأة، هو امتداد منطقي لمعايشته علاقة بين أبويه تخضع فيها الأم لعصبية والده وسيطرته. لا يشعر الأب أنه عنيف ولا تشعر الأم أنّها معنّفة، فالعنف في مفهومهما يرتبط بالضرب، الذي عاهد الأب نفسه ألا يعامل به أولاده وألا يكون نسخة من والده الذي كان يضربه.

            العنف الذي يتعامل به الأب، والذي تمثل في العصبية والتحكّم، حرم الطفل من الشعور بالأمان من حيث لا يشعر لا الأب ولا الطفل، وهذا الحرمان أفضى إلى تفسير الابن لتصرّفات والده تفسيرا مشوّشا.

            العنف الذي يمارسه الأب غير مرئي لأنه غير مسمّى، نحن نحتاج إلى تسمية المعاني لنستطيع التعامل معها، ومواجهتها.

            العلاقة التي نشعر فيها بعدم الأمان بسبب تصرف الطرف الآخر، هي علاقة عنف، وهذا أمر قد يكون ملتبسا ويحتاج منّا إلى تفكيك، وأن نفهم سبب شعورنا بعدم الأمان، ونعمل على تصحيح الأمر، ومن التصحيح خلق حدود جديدة في العلاقة. الشعور بالأمان في العلاقات ليس حقا إنسانيا فحسب، بل هو حق ديني أيضا.