الاثنين، 14 أبريل 2025

العنف، جذور غير مرئية

 

في المسلسل البريطاني: ADOLESCENCE يقتل طفل في الثالثة عشرة من عمره زميلته في المدرسة طعنا بعد أن سخرت من رجولته في تعليقاتها على صوره في انستغرام. تعليقات الفتاة كانت عبارة عن أيقونات تعارف مجتمع المراهقين على دلالاتها وترتبط بفكر " الحبة الحمراء" الذي يروّج له اندرو تيت والذي يجعل العلاقة بين الجنسين قوامها الصراع والتلاعب والنهم الشهواني.

يقرأ محقق الشرطة التعليقات التي كتبتها الفتاة، فلا يفهم منها إلا أنها كلام لطيف، وينبهه ولده المراهق إلى معناها وارتباطها بالأفكار المتطرفة والتي يصفها بالذكورية.

أفكار "الحبة الحمراء" لا تعزز عنف الرجال ضد النساء فحسب، بل تعزز عنفا مضادّا من النساء تجاه الرجال، والفكر الذي يغذّي فكرة الصراع والتحكّم في العلاقة بين الجنسين هو رافد لوجوه متعددة للعنف، الجسدي منها والنفسي.

 

الحوار الوجداني العميق

الطفل القاتل، ذكي ومتفوق دراسيا، ويمتلك وجها بريئا، ويتصرّف – غالبا- بهدوء ودماثة في المنزل وفي المدرسة، ولذلك فإن الأوقات القليلة التي يخرج فيها عن طوره وبشكل عنيف      لا تقلق والدته، وتعدّها استثناء لا ضرورة تستدعي التوقف عنده.

يقضي الطفل غالب وقته في غرفته أمام جهاز الكمبيوتر، ويمتثل لتعليمات والديه بعدم السهر. يشركه والده في نشاطات رياضية، ويحرص الأب على الحضور والدعم. يسأل الوالدان بعضهما هل هناك مزيد كان بإمكاننا تقديمه ولم نفعل؟ ثم يتذكران أن المعالجة النفسية قالت لهما أن الذنب ليس ذنبهما. وبينما يدفع المسلسل عن الوالدين تهمة التقصير فإنه ينبّه إلى تفاصيل غفل عنها الأبوان وكان لها دورها في تغذية نفسية العنف لدى طفلهما، ومجمع هذه التفاصيل هو غياب الحوار الوجداني العميق بين الوالدين والطفل.

من الرسائل المهمة التي يوصلها المسلسل أن مسؤولية الوالدين لا تقتصر على المعاملة الحسنة، والمتابعة للمستوى الدراسي، والتوجيه للسلوك المهذّب، والاهتمام بالهوايات، بل هناك أمر جوهري هو أن يكون الحوار الوجداني العميق ركنا أصيلا في العلاقة بين الوالدين والطفل.

يشرح الطفل القاتل للأخصائية النفسية أنه كان دائما يشعر بالخزي والضآلة عندما يشيح والده بوجهه كلّما أخفق في ملعب كرة القدم، ويتعمّق هذا الشعور بالضآلة واحتقار النفس يوما بعد يوم ليصل إلى كراهيّة الطفل لشكله ووصفه لنفسه بأنه" قبيح".

يحكي الأب عن قصة اهتمامه بأن يكون لدى طفله هواية تسعده، وعن شعوره بالأسى عندما يخفق طفله في ملعب كرة القدم، وأنه يشيح بوجهه لئلا يشعر طفله بالإحراج منه.

 ولأن الحوار الوجداني العميق غائب بين الأب وولده، فإنّ التصرّف الذي أراد الأب أن يكون مراعيا تسبّب من حيث لا يشعر في أذى عميق للطفل.

غياب الحوار الوجداني العميق كان من أسباب انعزال الطفل في عالم متطرف خاص به.

عنف غير مرئي

            تسأل الأخصائية النفسية الطفل عن والده، فيقول إنه مهتم ومراع ولم يضربه قط، تسأله هل هو عنيف، فيكرر الطفل القول بأن والده لا يضربه وأنه رغم كونه غضوبا لكن أقصى ما فعله هو تحطيم الأشياء مرّة. ثم يعرض لنا المسلسل حوارات الأب مع الزوجة، فنجد الزوج عصبي الطبع وزوجته تراعي طبعه، وتستجيب له في هدوء وود.

            ينبّه المسلسل بذكاء إلى العنف الذي يمارسه الزوج تجاه زوجته وأولاده. وأنّ اعتناق الطفل لفكر " الحبة الحمراء" الذي يجعل مدار النجاح في العلاقة بين الجنسين هو هيمنة الرجل وسيطرته على المرأة، هو امتداد منطقي لمعايشته علاقة بين أبويه تخضع فيها الأم لعصبية والده وسيطرته. لا يشعر الأب أنه عنيف ولا تشعر الأم أنّها معنّفة، فالعنف في مفهومهما يرتبط بالضرب، الذي عاهد الأب نفسه ألا يعامل به أولاده وألا يكون نسخة من والده الذي كان يضربه.

            العنف الذي يتعامل به الأب، والذي تمثل في العصبية والتحكّم، حرم الطفل من الشعور بالأمان من حيث لا يشعر لا الأب ولا الطفل، وهذا الحرمان أفضى إلى تفسير الابن لتصرّفات والده تفسيرا مشوّشا.

            العنف الذي يمارسه الأب غير مرئي لأنه غير مسمّى، نحن نحتاج إلى تسمية المعاني لنستطيع التعامل معها، ومواجهتها.

            العلاقة التي نشعر فيها بعدم الأمان بسبب تصرف الطرف الآخر، هي علاقة عنف، وهذا أمر قد يكون ملتبسا ويحتاج منّا إلى تفكيك، وأن نفهم سبب شعورنا بعدم الأمان، ونعمل على تصحيح الأمر، ومن التصحيح خلق حدود جديدة في العلاقة. الشعور بالأمان في العلاقات ليس حقا إنسانيا فحسب، بل هو حق ديني أيضا.

           

 

           

           

 

 

 

ليست هناك تعليقات: