هذه
المرة قرأت فلوليتا بعد أن قرأت مذكرات إيزابيل الليندي: (حصيلة الأيام ثم نساء روحي)،
بت أثق في النضج الإنساني لإيزابيل رغم تطرفها النسوي، ولا بد لي أن أشير إلى هذا الاختلاف
لأنه جذري جدا.
فلوليتا،
رواية " عائلية " بامتياز، ليست هناك حالة عدائية ضد الرجل، ونجحت فيها إيزابيل
في تقديم معاناة النساء دون مزايدة على أهمية وحضور دور الرجل، وتكافؤ حاجة الجنسين
إلى بعضهما. لكنها حاجة لا تحرم أحدهما من القدرة على الاستغناء إذا ما اضطر إلى ذلك
لظلم أو حرمان أو فقد.
الرواية
فيها سرد مهم لمعاناة النساء، وما أعجبني أن إيزابيل تكتب بروح الأم المسؤولة، ربما
لا يعجب كثيرون بهذا الوصف، لكن هذا
ما وصلني، فهي لا تكتفي بوصف الضعف البشري، ودهاليزه المظلمة، لكنها ترسم طريق النجاة
المحتمل، ولو اقتصرت على وصف المعاناة لكان ذلك نبيلا وملهما، لكنها لا ترضى إلا بأن
تكون مسؤولة، تكتب بوعي ومسؤولية واقتدار سردي.
لم
ينل كل المجرمين في الرواية عقابهم، لكنها لم تترك شخصيات مهمة في الرواية تفلت من
بعض عقاب تستحقه.
ثم
إن الرواية غنية بالرحمة والتعاطف والتواضع، تفاصيل مركّبة، أغنتها بهذه القيم بصدق
غير متكلّف، تكتب بسموّ إنساني آسر لا ادعاء فيه، وخبرة مدهشة.
ممتنة
جدا لإيزابيل على كل الأفكار المهمة التي عالجتها في الرواية، قيمة العائلة، وقيمة
التعاضد المجتمعي، والتنبيه على أن المعنّفة أسريا قد تكون امرأة قوية وناجحة ومكتفية
ماديّا لكنها وقعت في أسر العلاقة، لقد ركزت إيزابيل على هذه الفكرة، لقد أكدت على
أن التعرض للعنف قد يكون ملتبسا ويحتجز المعنّفة في شعور الخزي والعجز، وأن مساعدة
هؤلاء النساء تبدأ بعدم توجيه اللوم لهن.
وبدلا
من مهاجمة ضعفهن، فإن الواجب هو المساعدة، والتعاطف الذي لا اتهام فيه ولا رسائل مبطنة
تزايد عليهن وتجعلهن يشعرن بالخزي والضآلة.
كانت
فلوليتا تنتمي إلى طبقة الأثرياء، لكن المال لم يفسد روحها، استوقفتني الحكمة في هذه
السطور، وذلك عندما قررت مدّ يد المساعدة للنساء الفقيرات اللواتي ينتشر العنف في وسطهن
الاجتماعي:
❞
أمضيتُ سنواتٍ في العمل مع جمعيَّات النساء، وصرتُ أتحلَّى بشيءٍ من التواضع الذي يسمح
لي بالبحث عن سبل المساعدة، بدلاً من مهاجمة الواقع كما سبق وفعلتُ في بادئ الأمر،
فأولئك النسوة يملكن الخبرة، ويقدرن على تقديم الحلول، أمَّا دوري فيكمن في الإسهام
بما يطلبن منّي❝
استخدمت
إيزابيل في الرواية وصف (هجرت نفسها) لما شرحت ضلال ابنتها في أودية الهوى المردي،
وتحدثت عن عدم صدق دعواها في المطالبة بالعدالة:
❞
هجرَت نفسها لغواية الحرِّيَّة على غير هدى، ولحبّ اليوم الواحد، وللسُّكْر والخمول.
اعتنقَت الجماليَّات المُستلهَمة من الهند، والمساواة، والزمالة، وإن لم تهمّها الفلسفةُ
الشرقيَّة ولا المقاربات السياسيَّة والاجتماعيَّة التي تبنَّتها الحركة. احتجَّت على
الحرب بدافع التسلية وتحدِّي الشرطة، مع أنَّها لم تعرف أين يقع ذلك المكان المدعو
ڤيتنام. ❝
في
الرواية وقفات وجوديّة متأملة، سأختم بمثال منها:
❞
لعلَّني كنتُ مُجحِفةً إذ ألقيتُ باللائمة على خوليان في مصير ابنتي. لأنَّ كلّ امرئٍ
مسؤولٌ عن حياته، في واقع الأمر. نُولَد ومعنا أوراقٍ مُحدَّدة، فنلعب بها لعبتنا.
بعض الناس يحصل على أوراقٌ رديئة، فيخسر كلّ شيء. ولكنْ بعضهم يبرع في اللعب بالأوراق
نفسها، فيربح. يُحدِّد ورقُ اللعب من نكون: العمر، والجنس، والعِرق، والأسرة، والجنسيَّة،
إلى آخره. لا نملك تغيير الورق، ولا يسعنا إلاَّ استخدامه بأفضل ما يمكن. وفي تلك اللعبة
عقباتٌ وفرص، استراتيجيَّاتٌ وحِيَل. ❝
رواية
غنيّة بالأحداث والتاريخ والحكمة والتعاطف والرحمة والأمل الرشيد، كل ذلك في نسيج محكم
من الحكي الناضج.
بقي
أن أقول إن الترجمة رائعة، شكرا مارك جمال، وشكرا لدار الآداب، وشكرا لأبجد.