يقول مؤلف الكتاب ماثيو بيري ( تشاندلر) أنه عندما يموت
يريد أن يكون مسلسل فريندز هو في أسفل إنجازاته ، ويبدو أنه نجح في تحقيق ذلك وفقا
لما حكى عنه من مساعدته المعنوية والمادية لمدمنين كثر على التعافي، وهذا الكتاب
هو إنجاز آخر لكن بابه عندي هو " فريندز".
لم يكن عنوان الكتاب ليشدني إلى قراءته لولا أن
مؤلفه هو " تشاندلر" إحدى الشخصيات الرئيسية في مسلسل "
فريندز"، هذا المسلسل الذكي في
معالجة أطياف من ارتباكات النفس والعلاقات، قلت لنفسي : لا بد أن يكون لديه شيئا
ذكيّا ليقوله، وقد كان .
الكتاب هو سيرة نفسية، يحدثنا فيها المؤلف عن
البواعث النفسية لمواقفه، حديث إنسان مثقف نفسيّا وبصير معا. لقد كشف لنا تشاندلر
جروحه النفسية الداخلية وأثرها على تصرّفاته. لم يكن ماثيو بيري يكشف عن ضعفه أمام
الآخرين إلا عندما يكون مضطرّا اضطرارا قاسيا، وما فعله في الكتاب هو شجاعة.
أكثر ثلاث أفكار وقفت عندها في الكتاب هي:
الفكرة الأولى:
يجب أن
نكون كآباء يقظين لما يمكن أن يؤذي أطفالنا نفسيا، وذلك بالتنبّه إلى أن لكل طفل
نفسيته الخاصّة، وأن التعامل مع الخصوصية النفسية لكل طفل بوعي واحترام وحب لا ينبغي أن نهمله أبدا. الوالدية رحلة
يقظة ومحاولة مستمرة لنعطي أطفالنا حقهم في تربية جيدة، ومما يساعد على ذلك أن
نؤسس لعلاقة مع أطفالنا مبناها خمسة أركان: الحب، والاحترام، والمساندة، والرفقة ،
والحوار. الحوار الذي يعلّمنا عن أطفالنا ما قد يغيب عنّا. وهذا كله يحتاج يقظة
وحضور واهتمام متجدد.
من أكثر المواقف التي آذت ماثيو بيري في طفولته
أنه تُرك ليسافر وحده في الطائرة في سن الخامسة، لقد ظل الشعور بعدم الأمان، وأنه
ليس مهمّا بما يكفي ، يرافقه طيلة حياته، وكان هذا الموقف كثقب أسود في روحه يبتلع
أي إحساس بالتوازن. لقد هيّأ له والداه سفرا مريحا، ولم يتعرّض لأي موقف مؤذ في
المطار أو الطائرة لكن أحدا لم يتنبه إلى أنه خائف، وهو لم يتعوّد على أن يحكي عن
مشاعره، وظل هذا الموقف يمثل جوعه إلى الشعور بالأمان والاهتمام عمره كله. في آخر
الكتاب يؤكد تشاندلر على أنه لا يلوم والديه وأنهما بذلا وسعهما في رعايته بحسب
ظروفهما. ليس الكتاب رسالة لوم وإنما هو رسالة توعية .
الفكرة الثانية :
عبر
قصص الحب الكثيرة التي خاضها، وفشل هذه القصص؛ لأنه اختار أن ينهيها- ما عدا قصة
واحدة كان لها سياقها الخاص- يوصل لنا ماثيو بيري أن كثيرا ممن يُظهرون لنا
الصلابة، وعدم الاكتراث للمشاعر الحقيقية، وعدم الحرص على تواصل صحّي ومثمر، قد
يكون بداخلهم ألم عميق، وعدم شعور بالأمان ، وجرح غير مندمل.
لقد جمعت ماثيو بيري قصة حب مميزة بجوليا
روبرتس، وتحدّث ماثيو عن ذكاء جوليا وثقافتها وجمالها الداخلي وطريقة حبها له التي
أسرته ، لكنه مع ذلك أنهى علاقته بها وبدون أن يذكر لها سبب قراره . يقول ماثيو:
" مواعدة جوليا روبرتس كانت تضغطني، كنت متأكدا دوما أنها ستنفصل عني، ولماذا
لا تفعل ذلك؟ لم أكن كافيا لها، لا يمكنني أن أصبح كافيا لها، كنت مجروحا، وضعيفا،
وغير محبوب.(هذه صورته عن نفسه رغم نجاحه الباهر) . لذا بدلا من مواجهة قدري
الأليم معها بأنني سأخسرها، انفصلت عن الجميلة والرائعة جوليا روبرتس. ربما فكرت
أنها ستشعر بوضع أقل من وضعها ، مع نجم تلفزيون ( يقصد نفسه). لكن نجم التلفزيون
هذا انفصل عنها الآن. لا أستطيع أن أصف ملامح الحيرة التي اعتلت وجهها" .
يحكي لنا ماثيو أنه في كل علاقة ممتازة يكون
خائفا من أن الطرف الآخر لو تعرّف عليه بشكل أقرب فإنه سيكتشف أنه هش وضعيف من
الداخل؛ ولذلك كان يبادر إلى هجر من يحبهم لأن في داخله يقين أنهم سيفعلون ذلك إن
لم يسبقهم إليه.
لقد
عاش ماثيو إلى الثانية والخمسين من عمره وهو وحيد، وقد كان حلمه أن يتزوج ويكون له
أطفال، لكن خوفه من الهجر حال بينه وبين ذلك.
وفقا
لكتاب :" متعلّق" فماثيو نموذج للشخصية التجنبيّة، وهذه الشخصية تفزعها
الحميمية. تألمت أن ماثيو بيري لم يستطع رغم وعيه النفسي أن ينجح في تجاوز شعوره
الداخلي بعدم الكفاية وعدم الأمان وربما يكون إدمانه للخمر ( وهو الذي سمّاه الشيء
الرهيب) رغم محاولاته المستمرة للتعافي،
هو السبب الذي حال بينه وبين النجاة.
الفكرة الثالثة:
حديث
ماثيو بيري عن أن الإدمان مرض صبور ، هكذا وصفه بأنه :" صبور" ، وهذا
الوصف استوقفني ، ووجدت أن أي عادة غير محبّبة يُبتلى بها أحدنا ستكون كذلك ، وأن
الموفق من غلب صبره صبر إدمانه أيّا كان الأمر الذي ابتلي بإدمانه.
مات
ماثيو بيري في أكتوبر 2023م بعد عامين من تأليف كتابه، وأزعم أنه قدّم للقارىء
مادّة تضيف لوعيه النفسي ولإنسانيته، وتؤكد على فكرة مهمة تغيب عن كثيرين وهي غباء
القسوة ، وأن الرحماء هم الحكماء.
الكتاب
نشرته دار لغة، وهي دار مصرية، في أكتوبر 2023م،
و قامت بترجمته: مريم عاشور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق