الخميس، 5 يونيو 2025

ألمس حسّا تغيّري - عن عامي الواحد والخمسين

 

راجعت طبيب العيون اليوم. أحترم الطبيب الذي ينصت، وطبيبي اليوم كان منصتا، ومتفهما، وتعامل مع ملاحظاتي باحترام.

"أول الفأل الحسن"، هكذا حدّثت نفسي بعد خروجي من العيادة. مشيت إلى الصيدلية القريبة لكني لم أجد بغيتي، واتجهت مشيا إلى صيدلية أبعد قليلا. كان الجو مناسبا، وهذا فأل حسن آخر.

هذه أول مرة أتعرّف فيها على ممشى شارع فلسطين أمام مركز الجمجوم، الجو حلو، كانت الساعة السادسة عصرا، ولأن ذاكرتي المكانية انتقائية، فقد فوجئت أن النافورة قريبة.

أكملت طريقي نحو البحر، لم أجلس أمام البحر وحدي هذه الجلسة الهادئة منذ وقت طويل. الشاطئ مزدحم لكنه ذلك الازدحام الذي غايته فقط أن يشعرك بالألفة دون أن يزعجك أو يكدّر مزاجك. الشمس حاضرة وتألف نظارة الشمس دون نكد. عبرت بجعة أو طائر يشبهها طويل المنقار، أبيض الجسم، وحيدا، وقريبا من الشاطئ، سبّحتُ الله، وقلت: وهذا فأل حسن ثالث. كنت صائمة، ولا أشعر إلا بتعب خفيف، كأني أخرت قليلا موعد الغداء فحسب.

كان للمكان سطوته، أشعر أن السماء والشمس والبحر، ومقعدي الحجري، كل ذلك كأنهار جارية تروي قلبي الجديد.

لم يعد قلبي هو قلبي، قرأت منذ قليل لستيفان زفايغ عن أن نيتشه كان يختبر أنواعا من الشعور بالوحدة، أسرتني عبارة ستيفان، وأراها تحتاج إلى فهم عميق يفكك التباسها، لكن لعل ستيفان يقصد معنى قريبا من المعنى الذي أحس به، أحس أن الله بدّل قلبي بقلب جديد، أو لعل الأصوب أن أقول غسل الله قلبي من معان، وأحلّ مكانها معان جديدة، أرجو أن تكون أقرب إلى ما يحبّه للإنسان. قبل أيام كنت أفكّر أني أحب ما وفقني الله إليه من معان، لكن اعتراني خوف من الحرمان منها، من أن أفقد ثباتي الوليد، ثم تذكّرت قوله تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا"، هذا وعد من الله بالهداية، فقط لا تحرم نفسك فضيلة التواضع، والمثابرة، والتعلّم، والمحاولة لكيلا تُحرم نور الهداية. قديما كنت أقرأ هذه الآية وأفهم المجاهدة على أنها الثبات على حال واحدة ظاهرا وإن شعر أحدنا بصعوبة ذلك، لا أدري كيف غاب عني أن المجاهدة تعني المحاولة المستمرة، يحصل معها الخطأ والفتور والارتباك والتشوش، لكن يستمر الإنسان رغم ذلك في محاولة أن يكون إنسانا "صالحا". وقد قال الصالحون:" سيروا إلى الله عُرجا ومكاسير.

حلّت الساعة السابعة، ركبت سيارة أجرة إلى مطعم شامي صغير في الممشى، فطرت تبّولة لذيذة، نسيت أن أحضر تمرا معي، ونويت السنّة ببدء الإفطار بالماء حيث لا تمر.

في عيادة العيون، أرشدتني الممرضة إلى كافيه قريب قالت إنه ممتاز، توجهت إليه بعد الإفطار ولم يخيب ظني، فتحت اللاب توب لأكتب كعادتي في يوم ميلادي كل عام، تزدحم المعاني بداخلي، كأني ألمس حسّا تغيّري، وألمس حسّا ثمرة مشوار خمس سنوات من التعلّم الواعي عن نفسي. أول تغيّر أحسّه هو أني صرت غير متعجّلة، لا أتعجّل المعاني، ولا أتعجّل الفهم، ولا أتعجّل التغيير، ولا أتعجّل الكتابة، أراقب بصبر قلبي، وآمنة، وعلاقاتي، وما سيفتح الله لي به.

من معاني العافية هو أن تتعلم كيف تتعامل مع مشاعر الفقد، الوحدة، والشوق، والنقصان، شعور بالقبول يسكن قلبك، ثم تتخير لنفسك في كل وهدة شعور طريقة مختلفة للتصالح معها ثم تجاوزها. ولعل هذا ما قصده ستيفان زفايغ عندما تحدث عن المعاني المختلفة للوحدة، شعورنا بالوحدة يختلف وقعه كلما طال اختبارنا لوارداته.

فهمي للدين يتخذ مسارا أكثر سعة، أجول في قراءاتي يمينا ويسارا، فلا أزداد إلا يقينا وإحساسا بالاحترام والرحمة لكل الاختلاف الذي أنتجه العقل البشري. قال لي طالب علم مرّة: أنت تقرئين روايات، فكيف يكون معينك صافيا في الفهم الفقهي، قالها باستنكار فيه غضب هذبه صوته الهادئ، قلت له: لأني أقرأ روايات فهذا يجعلني أقرب لروح التشريع. ولهذا حديث آخر.  

لم أشعر يوما بمثل شعوري هذه الأيام، بداخلي فضول معرفي حيال قلبي وما تعلّمه إياه الأيام، هذا الشعور العميق بالتغيّر عجيب بالنسبة لي، عجيب من زاوية معرفيّة قبل كل شيء.

تصالحت مع جسدي، تعلّمت منه أنه لا يحب " الغلوتين"، عدّلت كثيرا في نظامي الغذائي بلا تعنّت. لا ينفصل إصلاح العلاقة بالجسد عن إصلاح العلاقة بالقلب، يتعاضدان ويكرم أحدهما الآخر.

أحب أني في العام الحادي والخمسين من عمري، وأحب ما أنا عليه، وأحب أن الله لم يزل يكرمني بشهود نعمته وفضله، ومحبّة أن أتعلم أكثر، وأن أجتهد في أن أكون إنسانة أفضل.

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات: