الناس في قراءة التراث الفقهي أصناف ثلاثة بين جامد على هذا التراث تقليدا عملا وإفتاء ، وبين ناقد ممحص يختار من أقوال الفقهاء ما يراه راجحا لديه ، و يزل بعض هؤلاء انتقاصا من قدر الفقهاء ، وعلمهم ، ولا يتورعون عن نقل بعض العبارات الفقهية لأئمة الأمة للعوام ، تأكيدا على ما في التراث من خطل ، دون حفظ حق العلماء في التقدير ، ورد أقوالهم بالحسنى ، أذكر أن إحدى المتخصصات في الفقه أخذت تنقل في برنامج تلفزيوني عبارات من الفقه الحنفي لتدلل بها على ذكورية الفقه كما قالت ، وهي أرادت الإحسان فأراها أساءت إذ أن إساءة الأدب في عرض أقوال علماء الأمة يسقط هيبتهم وما يستحقونه من تقدير لجليل علمهم، وإن صدرت منهم أخطاء كما نقدرها نحن ، فالمناقشة تكون في موضعها الصحيح ، وبأسلوبها الصحيح الذي يعترف لأهل الفضل بفضلهم .
والصنف الثالث : هو الذي لا يكتفي بالتمحيص لأقوال العلماء لكن يدرس كيف بنوا أحكامهم عامة ، لا سيما ما تخالف ما يجدونه راجحا لديهم مما يوافق مقاصد الشرع وقواعده، وهذا الصنف في مسلكه هذا ليس فقط يؤدي حق هؤلاء العلماء في إنصافهم ، لكنه بفعله هذا يصبح أكثر دربة وتمكنا فقها ، وينمي ملكته الفقهية ، لتصبح أكثر رسوخا . كما يؤكد على أخلاق التعامل مع أهل العلم ، حفظا لكبراء الأمة حقهم ومكانتهم . هذا مع عدم نفي أنهم قد يكونوا قد أخطئوا في بعض أحكامهم ، وجانبوا الصواب .
وسأعرض لمسألتين في الفقه الشافعي اتخذتا مجالا للتشنيع ، وأردها إلى ما تبين لي من الظرف الذي أنتجها .
المسألة الأولى : هي حق الأب في إجبار البكر البالغة على الزواج ولو ممن لا ترتضيه – وهو مذهب المالكية والحنابلة في معتمدهم – وسأقصر كلامي على المذهب الشافعي إذ هو المذهب الذي درسته تفصيلا.
يرى الشافعية أن الولي هو السياج الذي يضمن للفتاة ارتباطا جيدا ، باعتبار أنه يمتلك ما لا تمتلكه من خبرة بشؤون الرجال ، مع كون الولي حريصا على موليته ليس فقط بدافع الشفقة ولكن بدافع الحفاظ على الصورة الاجتماعية ، فلن يزوجها بمن سيلحقه العار بتزويجها إياه . ومع ذلك فقد اشترطوا لجواز الإجبار شروطا تضمن ضمان حق الفتاة وعدم تضييعه . هذا المذهب ذهب إليه الشافعية بناء على قراءتهم للنصوص الواردة في هذه القضية قراءة اعتمدت ظواهر النصوص ، وصاغتها الخلفية الاجتماعية التي تحكم مجتمعاتهم . والنظر في الشروط التي وضعوها لضمان حق الفتاة يكشف أنها ناتجة عن تقدير نابع من السياق المجتمعي الذي يصوغ حياتهم ، فلا بد أن لا تكون بين الفتاة وأبيها عداوة ظاهرة أما إذا لم تكن ظاهرة فلا يضر لأنه حينها لن يضر بموليته اعتبار لوضعه المجتمعي ، وأن لا تكون بينها وبين الزوج عداوة أيضا ولو غير ظاهرة ، وأن يزوجها أبوها من كفء موسر بحال الصداق ، هذه الشروط وغيرها فرضتها البيئة الاجتماعية للفقيه التي جعلته يقدر أن رفض الفتاة للزوج الكفء الذي يختاره لها أبوها إنما هو رفض عاطفي لقلة خبرتها ، وليس ناتجا عن تبصر ، ولذلك فإن تكليف الأب الصالح بهذا الأمر عنها ، يحقق مصلحتها ، وما تجده من وحشة ستزول بعد أن تألف الحياة الجديدة .
فالذي صاغ الحكم الفقهي هنا رؤية فقهية مستندها غير ثابت ، والشافعية فيها تحروا العدل بقدر ما قادهم إليه فهمهم واجتهادهم وواقعهم الاجتماعي .
أما المسألة الثانية فهي ما نص عليه الشافعية من أن المطالبة بالمعاشرة الزوجية من حق الرجل فقط دون المرأة ، ويبدو الكلام صادما في الحقيقة لا سيما مع قراءة نص الإمام الشافعي –رحمه الله تعالى – صراحة في ( الأم ) مع كونه أثبت استحباب أن يباشرها . فهو حق واجب على الزوجة ، وحق مستحب لها .
المسألة تبدو صادمة فعلا ، لكن بالدراسة المتعمقة لسبب هذا الحكم العجيب ، نكتشف أن للمسألة بعدا أصوليا ، فالواجب كما يذكر الإمام الأسنوي في التمهيد هو الإلزام بما فيه كلفة ومشقة , ومسألة إتيان الزوج لزوجته لا كلفة فيها ولا مشقة ، بل تدعو إليها الطبيعة البشرية ، ومن ثم كيف نقول يجب على الزوج أن يعاشر زوجته ، وفي داعية الطبع ما يغني عن القول بالوجوب .
وبناء على ذلك فإن الشافعية لا يقرون الزوج الذي يمتنع عن زوجته إضرارا بها ، هذا يفهم من ثنايا كلامهم .
وقد ذكر الإمام الغزالي في الإحياء أنه ينبغي على الزوج أن يعف زوجته كلما احتاجت إلى ذلك .
والأمثلة كثيرة ، في تراثنا الفقهي ، تلك التي تحتاج استجلاء لمستندها الذي ارتأى الفقيه أنه يحقق العدل ، ويرفع الظلم ودراسة الفقه لطلبة العلم الشرعي إن لم تقترن بهذا الاستجلاء يخشى أن تفرز خطلا متجددا يفصل بين الأمة ودينها . والله أعلم.
هناك 6 تعليقات:
الفقه الإسلامي يقدم التطبيق العملي لقيم الإسلام وفلسفته كأطر عامة ، وهو في مختلف أبوابه لا ينفصل عن تطورات العلوم المختلفة لكنه يجعلها خاضعة للأطر العامة للشريعة ، وهي مرنة وجامعة . هل قرأت يا أخي كتاب ( المدخل ) للشيخ علي جمعة ؟ ستجد فيه ما يفصل هذا الامر تفصيلا واضحا . بقيت نقطة مهمة وهي أن مراجعة التراث ليس فعلا عبثيا بل هو ضروري لفهم قواعد الشريعة وأحكامها الملائمة لتغير أحوال الناس . وعمل الفقيه لا ينفصل عن عمل عالم الاجتماع أو عالم النفس أو الاقتصادي باختلاف مجالات البحث الفقهي بل إن هذه العلوم أدوات يستعين بها الفقيه بمراجعته لاهل الاختصاص لاجل تعرف حكم الله في المسائل التي تحتاج إلى تبيين على وجه الظن . شكرا اخي مفكر ، ومرحبا بك
عذرا أخي مفكر حصلت لخبطة حذفت بسببها تعليقك والحمدلله أني نسخته ، وشكرا على زيارتك المدونة ، ورأيك ليس مفاجئا ، لكنه من واقع الطرح الديني البعيد عن ( الفقه ) : كما أفهمه تبعا للمدرسة العلمية التي تخرجت منها .. شكرا لزيارتك ، وشكرا لتعليقك
برأيي أن المشكلة في عمقها هي محاولة الحديث عن العقل الفقهي الإسلامي إن صحت التسمية ، وكأنه كيان متجانس دون مراعاة التطور الذي تفجرت به كل المعارف البشرية .
أعتقد
وربما يبدو رأيي مفاجئا بعض الشئ ، أن الفقه الإسلامي قد تجزأ في تخصصات عديدة تطور منها كل على حدة ، وما يدرسه المتخصصون اليوم هو مجرد حواش على متون ينبغي وضعها جميعا في خانة تاريخ الفقه.
March 11, 2007 1:32 PM
لا أزال أعتقد أن هذا الكلام بقدر ما هو جذاب وبراق على مستوى التنظير فإنه على مستوى التطبيق صعب إن لم يكن شبه مستحيل
وقد تحدثت قبلا مع صديق لي عن أهمية بعث المذاهب الفقهية ، أو المدارس الفقهية مهما يكن ، في صورة نظم ، وبرأيي الخاص فإن الوسيلة الوحيدة للفكر الديني الإسلامي الذي يعتبر الفقه التكييف العملي له للبقاء والفعالية في الحياة ،
هو بتحويل المذاهب الفقهية والمدارس الفقهية إلى نظم تعمل بطريقة منسجمة ومتناغمة ومتكاملة مع بعضها ، وهذه مهمة الدولة الإسلامية ، وفي نفس الوقت تكون هي في داخلها متكاملة الأجزاء لاتناقض فيها ولاتضارب، وتنطلق من أسس ابستمولوجية واضحة
والسؤال المهم هل الفقهاء المعاصرون لهم القدرة العقلية ، والوعي الكافي ، والتفرغ المطلوب لإعادة صياغة مذاهبهم كنظم مجتمعية يعمل جزء منها كقوانين
وجزء منها كقواعد مترابطة متناغمة
لا أتكلم عن المفتي ومراعاة الزمان والمصالح وحال المستفتي ، فهذه أضرت بالفقه والتراث الفقهي وفهمنا له أكثر مما نفعت ، وجعلت النصوص التراثية معرضة لنقد حاد من العقول اللاحقة ، والتي بدأت تعمل في هامش من الحرية لم يكن متاحا ربما في أكثر العصور الإسلامية ازدهارا
وإنما أعني
إجابة السؤال
هل الدين جزء من الحياة أم حاكم لها ؟
وهذا يجرنا إلى السؤال عن فلسفة كل مدرسة فقهية ورؤيتها التي سنراها في صورة أحكام عملية
صدقيني
هناك فرق شاسع بين عقل الأمس وعقل اليوم
وكوننا تخرجنا في مدارس فقهية معينة لايعني أن نصرف أوقاتنا في محاولة تبرير آراء فقهية قديمة يجب نبذها اليوم وقراءتها في إطارها التاريخي وإن كنت أجزم أنكم لاتحبون هذه العبارة
وأنا أيضا لاأقر كل ما فيها
لكنك لاتستطيعين إنكار فلسفة الفقيه العامة في أحكامه وفتاويه
كما اننا نتحدث عن دين متكامل
لاتخصصات مبعثرة
أتوق لسماع ردك
لا أزال أعتقد أن هذا الكلام بقدر ما هو جذاب وبراق على مستوى التنظير فإنه على مستوى التطبيق صعب إن لم يكن شبه مستحيل
وقد تحدثت قبلا مع صديق لي عن أهمية بعث المذاهب الفقهية ، أو المدارس الفقهية مهما يكن ، في صورة نظم ، وبرأيي الخاص فإن الوسيلة الوحيدة للفكر الديني الإسلامي الذي يعتبر الفقه التكييف العملي له للبقاء والفعالية في الحياة ،
هو بتحويل المذاهب الفقهية والمدارس الفقهية إلى نظم تعمل بطريقة منسجمة ومتناغمة ومتكاملة مع بعضها ، وهذه مهمة الدولة الإسلامية ، وفي نفس الوقت تكون هي في داخلها متكاملة الأجزاء لاتناقض فيها ولاتضارب، وتنطلق من أسس ابستمولوجية واضحة
والسؤال المهم هل الفقهاء المعاصرون لهم القدرة العقلية ، والوعي الكافي ، والتفرغ المطلوب لإعادة صياغة مذاهبهم كنظم مجتمعية يعمل جزء منها كقوانين
وجزء منها كقواعد مترابطة متناغمة
لا أتكلم عن المفتي ومراعاة الزمان والمصالح وحال المستفتي ، فهذه أضرت بالفقه والتراث الفقهي وفهمنا له أكثر مما نفعت ، وجعلت النصوص التراثية معرضة لنقد حاد من العقول اللاحقة ، والتي بدأت تعمل في هامش من الحرية لم يكن متاحا ربما في أكثر العصور الإسلامية ازدهارا
وإنما أعني
إجابة السؤال
هل الدين جزء من الحياة أم حاكم لها ؟
وهذا يجرنا إلى السؤال عن فلسفة كل مدرسة فقهية ورؤيتها التي سنراها في صورة أحكام عملية
صدقيني
هناك فرق شاسع بين عقل الأمس وعقل اليوم
وكوننا تخرجنا في مدارس فقهية معينة لايعني أن نصرف أوقاتنا في محاولة تبرير آراء فقهية قديمة يجب نبذها اليوم وقراءتها في إطارها التاريخي وإن كنت أجزم أنكم لاتحبون هذه العبارة
وأنا أيضا لاأقر كل ما فيها
لكنك لاتستطيعين إنكار فلسفة الفقيه العامة في أحكامه وفتاويه
كما اننا نتحدث عن دين متكامل
لاتخصصات مبعثرة
أتوق لسماع ردك
أخي مفكر شكرا لتواصلك ، وأعتذر ثانية عن التأخر في الكتابة ، وأحب أن انوه لقضية مهمة، لست في معرض الدفاع عن النص الذي كتبته ولا أيضا في معرض رد ما ذكرت أو تفنيده ، هذه مقدمة لا بد منها ، فما تكتبه يرفد عقلي بزوايا جديدة للتفكير ، وقد أحسن الجواب وقد لا أحسنه بل قد لا أجد جوابا، أكتب وأنتظر بشوق التعليق على ما أكتب لأتعلم فشكرا لك ولكل من يتواصل معي ، يبدو أن هذه السطور لا بد أفرد لها عنوانا خاصا ، المهم بالنسبة لقولك :
(لا أزال أعتقد أن هذا الكلام بقدر ما هو جذاب وبراق على مستوى التنظير فإنه على مستوى التطبيق صعب إن لم يكن مستحيلا ) لم أفهم ما المستحيل ؟ هل تعني ما ذكرته من تعاون الفقيه مع أصحاب التخصصات المختلفة ؟ لكن هذا واقع فعلا ، وفي الأمة فقهاء متمكنون أقول ذلك من منطلق تخصصي .
أما عن صياغة الفقه كنظم وقوانين ، أعتقد أن هذا لا ينبغي أن يقتصر على مذهب معين كأن يسطر المذهب الحنبلي مثلا في صيغة قوانين ، لكن ينبغي أن يكون القانون مشتملا على أحكام فقهية من المذاهب السبعة الأربعة مع الظاهرية والجعفرية ، والاختيار من هذه المذاهب يكون وفقا لدراسات اجتماعية ونفسية واقتصادية الخ بحيث يجلس فقهاء كل مجتمع مع المتخصصين في الفروع المختلفة ويناقشون سويا الصيغة الأصلح للمجتمع ويقررون من الأحكام الفقهية ما يلائمها.أما عن قدرة الفقهاء المعاصرين على ذلك فأقول نعم هناك فقهاء متمكنين مؤهلين للقيام بهذا العمل .
أما عن قولك أن مراعاة المصالح الخ أضرت بالفقه وفهمنا له فلا أوافقك ، والنقد من قبل العقول اللاحقة علامة صحة كما افهمها ، لأن كل عصر ينبغي أن تستخرج له الأحكام التي توائمه ، فحكم ما في عصر ما على مذهب ما قد يكون محققا للعدل ولا يحقق ذات الحكم العدل في عصر آخر وظروف أخرى .
أما عن ما ذكرته من التبرير .. فربما أكون قد وقعت فيه في معرض ذبي عن تراث الأئمة والإنصاف هو أن نصدر حكمنا بعيدا عن التبرير ، بل مجردا بحيث لو كان الحكم الفقهي مبنيا على فهم خاطىء كما نفهم نحن فيجب أن لا نتوانى عن التصريح بذلك دون أن يعني ذلك أننا نغمط العلماء المتقدمين حقهم . ما أردت أن أؤكد عليه هو قضية فهم أدوات التراث لأننا لا نستطيع أن نبني مستقبلا فقهيا زاهرا إن لم نتمكن من الأدوات الأصولية والفقهية ، ودراسة التراث هو جزء من هذا التمكن ، أما عن الإطار التاريخي ، وأثر بيئة الفقيه في إصدار الحكم فلا ينكر ذلك من له أدنى إلمام بالفقه ، وقراءة الأحكام الفقهية من هذه الزاوية مهم جدا ولصديقتي الأستاذة إلهام باجنيد رسالة مهمة أصوليا وفقهيا تتناول الأحكام المبنية على العرف المتغير في بعض أبواب النكاح ، لكن القراءة للإطار التاريخي أشمل من العرف كقاعدة أصولية تبنى عليها أحكام متغيرة ، الفكرة التي ينبغي التأكيد عليها هي أن تأثر الاجتهاد ببيئة المجتهد عامل إيجابي يؤكد سعة التشريع ومرونته ..
وختاما قولك أننا نتحدث عن دين متكامل ، هذا الدين له فروعه المختلفة وفهمها وتطبيقاتها تحتاج لمتخصصين متعددين يتكامل عملهم في شتى مناحي الحياة ، الدين حاكم للحياة كما أعتقد في الإطار العام مع كون مساحات العفو أو المباح تكفل عدم النمطية أو القولبة .. اقرأ كتاب المدخل للشيخ علي جمعة فستجد فيه خيرا كثيرا .. وبانتظار تواصلك ..
إرسال تعليق