الأحد، 6 أكتوبر 2024

هل هو حقا خوف على الدين ؟

 القراءات الفكرية والأدبية والنفسية التي لا تنتمي إلى نموذجك المعرفي لا تشوش عليه لكنها تغذّيه، وتحكم صلتك به، مادمت محكما لفهم منطلقاتك المعرفية ، مفرّقا بين قطعيات الشريعة وظنياتها، ممتلكا القدرة على الجمع بين تعظيم محكمات الشريعة والتدبّر في رحابة ظنياتها .

‏وكذلك تجاربك التي تخلق لك منظورا جديدا في علاقتك بنفسك والآخرين ، تجعلك تفهم نصوص الشريعة ومقاصدها فهما فيه تجديد ، ولأن هذا هذا المنظور - سواء عبر القراءات أو التجارب- لم يصل إلى من كانت قراءاته و تجربته في الحياة لم تختبر الجوانب التي اختبرتها ، فإنه قد يعد هذا الفهم مهددا لما تعوّده أو نشأ عليه من مفاهيم وقناعات، ويتحول الأمر عنده إلى صراع وجودي تشتبك فيه هشاشة النفس بارتباك في فهم الشرع بحيث تلبس المفاهيم الظنية لباس القطعيات .
‏ لقد عظم ديننا العقل ، وحثنا على الانتفاع من ثمرات الحكمة الإنسانية ، وجاءت البنية التشريعية للشريعة مستوعبة لنمو العقل الإنساني وخبراته.
‏أقرأ ما أفاء الله به على عقول غير مسلمة فأشهد في العلم الذي وُفقت إليه عظمة خالقها وكرمه ورحمته التي تشمل مخلوقاته جميعا مؤمنهم وكافرهم .
‏الانفتاح على عقول الآخرين وتجاربنا وتجاربهم ،وجعل كل ذلك رافدا لتجديد علاقتنا بديننا ، ليس فقط فعلا متسقا مع روح الدين ، ولكنه ضرورة تتصل بمقصد الدين الأعظم في تحقيق مصالح الإنسان، ومراعاة اتساعها، وثرائها ، وتجددها ، رحمة وتيسيرا ورفعا للحرج .
‏وكلامي هنا هو في عمق احترام محكمات الشريعة لا محادّا لها.
‏لدى كثير منّا هشاشة نفسية تفزع من فعل التفكير والتغيير ، وربما نحتاج إلى الصدق والشجاعة لمعرفة من ماذا نفزع؟ ولماذا نبادر بمهاجمة من يطرح فكرا مختلفا بدلا من الإنصات إليه بإنصاف ؟ هل هو حقا خوف على الدين أو هو خوف على مكتسباتنا المتوارثة من الأفكار التي أعطتنا ميزات معينة أو حصرتنا في سياقات معينة الخروج عنها يتطلب منّا وقفة حقيقية مع النفس ، ومع صدق تديننا وصدق نيّاتنا ونزاهتنا الأخلاقية .
‏الدين الذي تعلمته يعلمنا التواضع ، ويعلمنا عدم الاستعلاء الذي يردنا عن الإنصات والاستجابة للحكمة أنّى كان مصدرها ، ويهبنا ترويا وسكينة وسلاما ، واحتراما للمختلف عنّا وإيمانا بأن رحابة الشريعة إنما جعلت لنستوعب رحابة العقل الإنساني أيّا كان رافده.

الثلاثاء، 27 أغسطس 2024

عن الهشاشة الأخلاقية ، قراءة في كتاب : " هشاشة بيضاء، صعوبة أن يتحدث البيض عن العنصرية"

 نشرت المقالة في مجلة الجوبة الثقافية ، العدد 84 ، أغسطس 2024


مزايدات بيضاء

يناقش فيلم الأوسكار "رواية أمريكية" ( American Fiction)[1]  النفاق عند البيض التقدميين الذين يتبنون المساواة العرقية.

 يبدأ الفيلم باعتراض طالبة بيضاء على أستاذها الجامعي الأسود ( بطل الفيلم واسمه مونك)  لأنه كتب على السبورة اقتباسا من رواية تاريخية يتضمن كلمة "زنجي"، وقالت إن إجبارهم على مشاهدة هذه الكلمة طيلة المحاضرة  بما تحمله من دلالات مسيئة هو أمر لا يمكنها احتماله، فيجيبها مونك: إن المحاضرة تتعلق بأدب السود في الجنوب الأمريكي في زمن النظام العنصري، فتجادل الطالبة بأن هذا ليس مبررا مقبولا، فيرد عليها مونك بحزم : لا بأس، مادام يمكنني احتمال ذلك فسيمكنك أيضا.

تخرج الفتاة من المحاضرة غاضبة ومستاءة، وتقدّم هي ومجموعة من الطلّاب البيض شكوى إلى مجلس الجامعة تتسبب في وقف الأستاذ الأسود عن العمل لفترة.

 يشرح هذا المشهد الافتتاحي أن الموقف المتحفز من البيض تجاه كل ما يشير إلى العنصرية ولو كان في السياق التعليمي ليس مزايدة أخلاقية فحسب، وإنما هو جزء من نظام مؤسسي يتحكّم البيض في تصوراته الأخلاقية ويعاقبون من لا يخضع لهذه التصوّرات.

ركّز الفيلم على فكرة أن البيض هم الذين يتحكّمون ماديّا وأدبيا في المجال الثقافي تحديدا، وأنهم يصرّون على تقديم صورة مجتزأة لحياة السود لأنهم لا يريدون إظهار الحقيقة وإنما يريدون الشعور بالبراءة الأخلاقية عبر التسويق لألم السود، لقد كانت الفكرة التي أكّد عليها بطل الفيلم في أغلب المشاهد هي أن للسود قصص أخرى خارج التنميط الأبيض، وأن السلطة الثقافية البيضاء لا تسمح بانتشارها أو تصديرها.  وهذا كله في تقديري إنما هو إشارة خجولة إلى حقيقة أن العنصرية تشكّلت تشكيلا جديدا، فصارت قوة ناعمة، وظاهرة ممنهجة شاملة، بعد أن كانت قوة يعبّر عنها بشعارات فجّة.       

نموذج متجاوز

لقد شاهدت فيلم "رواية أمريكية "بعد قراءتي لكتاب "هشاشة بيضاء، صعوبة أن يتحدّث البيض عن العنصريّة" للكاتبة الأمريكية روبن ديانجلو وهي أمريكية بيضاء متخصصة في تحليل الخطاب النقدي ودراسات البياض ومستشارة التنوع.

وإذا كان الفيلم لم يستوف بيان حقيقة العنصريّة في المجتمع الأمريكي فإن الكتاب قدّم دراسة نفسية واجتماعية متعمقة تتناول العنصرية البيضاء تجاه السود في أمريكا، وتمثّل هذه الدراسة نموذجا متجاوزا لخصوص موضوعها إلى كل ما يتعلق بالتحقق بأخلاق الصدق في النظر إلى الناس جميعا بعين المساواة. والكتاب فيه حفر أخلاقي في بواطن الكبر الخفي في النفس الإنسانية.

تقول المؤلفة روبن ديانجلو: إن التحرر من العنصرية هو عملية مستمرة ومستدامة. اهـ

وهذا يتوافق مع ما يقدمه الإسلام في نموذجه المعرفي – الأخلاقي  من أن التخلص من "أمراض القلب" هو فريضة أخلاقية متجددة.

يشرح الكتاب ظاهرة الهشاشة البيضاء، وكيف تنمو في الإنسان الأبيض، وكيف تعمّق اللامساواة العرقية، وما الذي يمكن فعله حيالها.

وفي ثنايا التفاصيل  قد تشتبك الهشاشة البيضاء في عقل القارىء بما يماثلها من نماذج الهشاشة الأخلاقية المتعلقة بالشعور بالتفوق الذكوري، أو التفوّق الطبقي .

يقع الكتاب في 296 صفحة من القطع المتوسط، وهو من منشورات تكوين، ونشر في عام 2023م ، وصدر بلغته الأصلية في عام 2018م، وترجمته: الأستاذة نوال العلي.

معنى الهشاشة البيضاء

          الهشاشة البيضاء: رد الفعل المتحفز والدفاعي المتمثل في الغضب أو الهجوم أو الانسحاب أو حتى البكاء عندما يُوصف أي فعل قام به شخص أبيض على أنه فعل عنصري، وعدّ طلب المراجعة الأخلاقية اتهاما بالعنصريّة لا يمكن قبوله.

إذن الهشاشة البيضاء هي مصطلح مركّب من أمرين : رد الفعل المتحفّز والدفاعي ، والتنمّر على المراجعة الأخلاقية للسلوك أو الكلام العنصري، وكل ذلك في سياق الهيمنة العرقية البيضاء التي تختزل العنصرية في الأذى المتعمّد من شخص لا يتبنى المساواة العرقية .

          وصورة التنمّر هي إدانة المراجعة الأخلاقية، ولو كانت هذه الإدانة في مظهر ناعم هش عبر البكاء والتركيز على شعور البيض بالذنب، وينتقل الأمر من حق السود في أن يتعرّف البيض على الفعل العنصري، والسياقات والقصص التي تشكّله إلى مواساة البيض على شعورهم بالذنب والخزي.

 الهشاشة البيضاء أكثر من مجرد رد فعل دفاعي إنها هي فعل هيمنة يرسّخ التفوّق الأبيض، والتصورات البيضاء للمفاهيم، والبراءة البيضاء المعلنة والتي لا تقبل المراجعة الأخلاقية.

 وتنبّه الكاتبة إلى أن رد الفعل الهش هذا يكون في أكثر السياقات بعدا عن الاتهام، كدورة تدريبية مختصة بالتنوّع يدخلها البيض للتعلّم عن العنصرية، و يصدر من بيض تقدّميين يرفضون الخطاب العنصري، ويتبنون المساواة العرقية. 

 

العنصرية كنظام متكيّف

تعرّف الكاتبة العنصريّة بأنها  ظاهرة ممنهجة ومجتمعية ومؤسسية بحيث إن الأعراف والسياسات والممارسات الحديثة تقود إلى نتائج عرقية مماثلة لتلك الموجودة في الماضي بينما لا تبدو عنصريّة صريحة، إذ أن جميع أنظمة الاضطهاد قابلة للتكيّف، يمكنها تحمّل التحديات والتواؤم معها وأن تظل محافظة على اللامساواة.

تقول الكاتبة : إذا نظرنا على سبيل المثال، إلى المقياس العرقي للأشخاص الذين يسيطرون على مؤسساتنا، فسنرى أرقاما كاشفة  ( 2016م-2017م)، إذ يسيطر البيض على أكثر من 80 إلى 90 في المائة من مؤسسات الدولة السياسية والعسكرية والتعليمية والثقافية.

 تشرح  هذه النسب أن العنصريّة ليست مسألة أناس " طيبين" مقابل " أشرار" ، إنها تمثّل قوة وسيطرة مجموعة عرقية لديها التمكين التام لحماية صورتها الذاتية ونظرتها إلى العالم ومصالحها عبر المجتمع بأكمله. تعد التمثيلات الإعلامية من أكثر الطرق فعالية لنشر التفوق الأبيض، ولها تأثير عميق في كيفية رؤية الأمريكي الأبيض للعالم :" أولئك الذين يكتبون الأفلام ويخرجونها هم رواة ثقافتنا.. بالنظر إلى أن أغلب البيض يعيشون في عزلة عرقية عن الملونين ( والسود على وجه الخصوص) وأن لديهم القليل جدا من العلاقات الحقيقية التي تختلط فيها الأعراق، فإن البيض يتأثرون بشدة بالرسائل العرقية في الأفلام وهي رسائل ضيّقة وإشكاليّة، ويتم نشرها وتداولها عالميّا". اهـ بتصرّف.

          إن جعل العنصرية سيئة وفقا لثنائية ( طيب/ شرّير) يبدو تغييرا إيجابيا، لكن العنصرية أعقد من أن تختزل في الفعل المتعمّد الذي يصرّح صاحبه بدعم التمييز العرقي.

يقول علماء أصول الفقه إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والتصوّر الشائع عن العنصرية عند البيض التقدميين يختزلها في الأذى الفردي المتعمّد الناتج عن كراهية واعية لشخص ما بسبب عرقه، ولا يعرّفها كظاهرة مؤسسية ممنهجة، فإذا كان البيض يركنون إلى هذا التصوّر المختزل في فهم العنصريّة، فهذا لن يساعد على اجتثاثها بل سيؤول الأمر إلى أن تلبس ثياب زور، تؤذي أذى خفيا وحادّا ، يُدان من يراجعه أخلاقيا.

العنصرية المراوغة

يمارس البيض التقدميون عنصرية مراوغة تسمح لهم بالحفاظ على صورة ذاتية إيجابية، وهي مراوغة لأنها تتعارض مع المعتقدات الواعية للمساواة العرقية والعدالة، العنصرية المراوغة داخلية ولكنها ماكرة، من أمثلتها : التحدث عن الفصل العرقي على أنه أمر مؤسف لكنه ضروري لتأسيس مدارس " جيدة "، وتبرير أن أماكن العمل لدينا كلها تقريبا بيضاء لأن الأشخاص الملونين لا يتقدمون بطلبات، تجنب اللغة العرقية المباشرة واستخدام مصطلحات مشفّرة عرقيا مثل : أحياء خطرة، أحياء جيدة، تبرير اللامساواة بين البيض والملونين بأسباب أخرى غير العنصريّة.

إن الانحياز العرقي هو شعور لا واع إلى حد كبير، وهنا يكمن التحدي الأعمق، ومن هنا يأتي الموقف الدفاعي الذي ينجم عن أي تلميح بالانحياز العرقي. وهذا الموقف الدفاعي ليس إلا هشاشة بيضاء كلاسيكية لأنه يحمي تحيّز البيض وفي نفس الوقت يؤكد على هويّتهم المنفتحة، تقول الكاتبة وهي أمريكية بيضاء:" نعم ، من المقلق والمزعج أن نواجه جانبا  لا نحبّه من أنفسنا، لكن لا يمكننا تغيير ما نرفض رؤيته... يفترض البيض افتراضا خاطئا وهو لا يمكن أن نكون طيبين ونشارك في العنصرية في آن واحد، وهذا الافتراض الخاطئ يجعلهم يلقون الكلام على عواهنه عند التحدث مع السود أو يحجبهم عن رؤية أخطائهم العنصرية أو قبول مراجعتها بعقل منفتح" . اهـ النقل بتصرف واختصار.


 الهشاشة البيضاء وقواعد الحوار

          تتبنى الهشاشة البيضاء قواعد تجعلها أساسا للحوار المتحضّر الذي يحفظ للتقدّمي الأبيض حقه في عدم الوصم أو الاتهام بالعنصرية، من أهم هذه القواعد ، قاعدة الاحترام ، الإشكال أن ما يشعر البيض أنه احترام، لا يخلق بيئة محترمة للملونين : " على سبيل المثال، عادة ما يعرّف البيض البيئة المحترمة بأنها بيئة بلا صراع، وخالية من التعبير عن مشاعر قويّة، وتخلو من المواجهة مع التنميطات العنصريّة، وتركّز في نوايا "المتحدّث"  أكثر من تأثير أفعاله على الآخرين . لكن مثل هذا الجو هو ما يخلق بيئة زائفة تتمحور حول المعايير البيضاء، وبالتالي فإنها بيئة معادية للملونين" .

          لا تأخذ هذه القواعد في الحسبان علاقات القوة غير المتكافئة، وهي ترسّخ الوضع العرقي الراهن: ( مركزية البيض، والهيمنة، والبراءة المعلنة) .

          تقول الكاتبة: إن تجاهل المُرسِل ( المتحدّث) والتركيز على الرسالة مهارة متقدّمة وتصعب ممارستها، خاصة إذا جاء إلينا شخص بنبرة المتفوّق أخلاقيا. حق " اللطف" لا ينبغي أن يزاحم حق " الوضوح " في تسمية العنصرية ومواجهتها، والتركيز على " اللطف" ، وجعله مقدّما على :" الوضوح" في تسمية الفعل العنصري المراوغ يحمي الهشاشة البيضاء ولا يعالجها .

          ينشأ البيض في المجتمع الغربي ضمن نظرة تفوّق " بيضاء" إلى العالم، وهي حجر الأساس للمجتمع الأمريكي ومؤسساته، نعم يتحدّث البيض التقدميون أن الجميع متساوون، ويؤكدون على قيمة التنوع ، لكن هذا الحديث لا ينفذ إلى العمق، ولا يقوى على تجنّب المعتقدات الباطنة بتفوق البيض والتي تدعمها وترسخها سياسات الدولة .

          إن الشجاعة في التعرّف على الجوانب الخفيّة للعنصرية والتي تتجلّى في التصرّفات والأحاديث المراوغة ، وتدريب البيض أنفسهم على الصبر على الصعوبة النفسية في تخطي ميراث نفسي واجتماعي متجذر وملتبس هو أمر محرّر، ويسمح لهم  بالتركيز في كيف تتجلى العنصرية في سلوكهم وليس فيما إذا كانوا عنصريين حقا ؟


"إن لصاحب الحق مقالا"  

          الكتاب هو رحلة جادّة في تعلّم كيف تكون عادلا، ورفع الوهم المتعلق بأن الأمر سهل  لا تعقيد فيه، ودرء ما قد يشتبه على بعضنا من أن اللطف وحده كاف في مسألة التحقق بخلق النظر إلى الآخر بعين المساواة. أو أن التدرّع بالكلمات التي تتبرأ من التمييز العنصري أو الذكوري أو الطبقي كاف في تحقيق العدالة، وصياغة وعي جمعي جديد يساوي بين الناس ولا يفرّق بينهم .

لقد وجدت أني استدعي النموذج المعرفي الذي جاء به الإسلام في ثنايا المسائل الأخلاقية التي يفصّلها الكتاب، وأعيد التفكير  تعمّقا وتدبّرا ومقابلة ، ووجدت أن المشترك الأخلاقي غالب في التفاصيل كما أنه متحد في الفكرة العامة وهي المساواة بين الناس. ومن المسائل التي تتوافق مع النموذج المعرفي الذي جاء به الإسلام ما أكدت عليه الكاتبة روبن ديانجلو من أهمية قبول البيض للمراجعة الأخلاقية في تعاملاتهم مع السود، وأن تحمّل المسؤولية الأخلاقية يقتضي التركيز على تصحيح المواقف العنصرية وليس الانشغال بدرء تهمة الخطأ العنصري بما يقتضيه من شعور بالخزي.

يخلق النموذج المعرفي في الإسلام سياقا من الدعم الأخلاقي للمطالبة بالحقوق، ومراعاة حال صاحب الحق بما يجعل ميزان العدالة مستقرّا، فــــــ" إن لصاحب الحق مقالا" كما ورد في الحديث الصحيح،  ولكأن إهدار هذه المراعاة فيه ترسيخ لإهدار الحقوق، وتبرير مراوغ يؤول إلى التشويش على صاحب الحق.

وفي عالمنا المسلم، هشاشات أخلاقية تحتاج إلى وقفة صادقة، ومن ذلك التشنج من بعض العقلاء حيال الدعوة إلى المراجعة الجادّة لتجليات الاستعلاء الذكوري أو الطبقي في الثقافة الاجتماعية ؛ بسبب الالتباس المفاهيمي، وسأضرب مثالين لهذا الالتباس : أحدهما : التباس القوامة  بالتسلط، و الثاني : انتقال شرط الكفاءة في النسب في الزواج من كونه وسيلة إلى تحقيق السكن والاستقرار بين الزوجين إلى مقصد يطلب لذاته.

وهذا التشنّج لا يقتصر على الرجال فحسب ، بل تشترك معهم فيه نساء ، وقد جمعهم التصور الملتبس للمفاهيم وتوهّم أن مراجعة هذا التصوّر هو محادّة للدين . ليس مقصودي هنا هو الإدانة الأخلاقية، وإنما الدعوة إلى الإنصات الجاد إلى البحث الفقهي التجديدي المرتكز على منهج أهل العلم.

ما يحدث الآن في مواجهة البحث الفقهي التجديدي هو نوع من الهشاشة الأخلاقية بتعبير روبن ديانجلو، وهو وفقا لأخلاقنا الدينيّة تقصير من الرافضين للتجديد في التعرّف على العوائق النفسية التي تحول بينهم وبين مراجعة تصوّراتهم وتحريرها، وحجب للعقل والقلب عن سماع حجة أهل التجديد -المنضبط بضوابط أهل الاجتهاد- وعدّ كلامهم عن الظلم مشوّشا – في أحسن وصف-.



[1] حاز الفيلم على جائزة الأوسكار( 2024م) عن أفضل سيناريو مقتبس. والفيلم من تأليف الكاتب الأمريكي بيرسيفال إيفريت جيمس، وقد اقتبس من رواية لنفس الكاتب، والفيلم من إنتاج ستيفن سيلبرج، وإخراج: كورد جيفرسون، وبطولة : جيفري رايت.

الأحد، 18 أغسطس 2024

أسئلة التغيّر

 

تتغير أفكارنا ، وهذا التغيّر علامة نضوج، وأرجو أن يكون علامة صدق ، أهل التزكية يتحدثون عن الثبات كعلامة على جمود الروح ، يذكرون ذلك في سياق أحوال النفس وتقلباتها في طرائق الخيرات.

          لكن التغيّر له ميزانه، هناك تغير هو علامة على تشوش النفس والأخلاق، وتغير آخر هو جزء من النمو الإنساني الكلي ، وأظن أن علامات الأول التطرّف في التقلب في الأفكار، بما يصحب ذلك من أخلاق الجفوة والكبر والمزايدة .

          تغيّرت عبر السنوات، تغيّرت أفكاري ، وكان بعض هذا التغير هو تبع لنضوجي الإنساني ، وخبرات الحياة في سرّائها وضرّائها ومسؤولياتها وأثقالها .

          قرأت قبل أشهر كتاب : ( من قام بطهي عشاء آدم سميث ) ، فيه لقطات ذكيّة، لكن هذه اللقطات لا تجعلني أتبنى ما تقرره الكاتبة من مسائل تتعلق بموقفها من عالم الاقتصاد، لست متخصصة في الاقتصاد ، ولا أستطيع أن أسلّم بالنقد مهما بدا لي منحازا للقيم الأخلاقية، الأمر ملتبس ومركّب وليس بسيطا كما نسمعه ممن يتحدثون عن الحياة الاقتصادية المعاصرة وتشييئها للإنسان ، كلام فيه كثير من المجازفات ، عقلي المنهجي لا يقبله .

          عندما قلت رأيي هذا لمن أوصتنا بالكتاب ، لم يعجبها، بدا لها أني أفكر بتقليدية بليدة ربما ، وغادرت المجموعة لأن النفس الثوري يقف كحجر عثرة أمام أي انتفاع من تداول الأفكار .يقدّم طلب التغيير ، ولكأنه فضيلة تطلب لذاتها، وليس وسيلة لمقاربة الحق ، وسيلة توزن بميزان ما تؤدي إليه.

          في مقدمة كتاب ( تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع) كلام مهم من عالم راسخ عن فساد التوجه الثوري ، ونفسية الصراع، وأن ذلك ينبو عن الروح التي جاء بها الدين.

          يبدو طلب التغيير أحيانا كمسكّن إدماني أسهل من أن يقيس المرء الأمور بميزان الحكمة ، وأن يؤدي واجباته في المجال الشخصي والأسري ، وأن يسلّم للحياة بتعقيداتها التي تحتاج إلى موازنة الأولويات وتقدير واع للمصالح والمفاسد.

          لذلك يراجع العاقل بواعثه، ويراجع مآلات مواقفه، ويراجع قيمه الأصلية ، واتساقه مع النموذج المعرفي الكلي الذي يتبناه ، ولا يحيد عن الحق لزهوة رأي أو بهرجته أو بلادة أدلجة حزبية .

          ولا زلت أطلب من الله السداد، وأن يجعلني ممن لا يحيدون عن طلب الحق لعارض مزوّر ، ولا زلت أتعلّم كيف أقترب من كل ما يقرّبني إلى الإنصاف والحكمة .

 

الأحد، 16 يونيو 2024

الغضب من الخمسين

 

 

الخمسون السخية

قبل عامين عزمت أن أجعل يوم ميلادي هو يوم امتنان وحمد، أخرج فيه إلى مقهى هادئ، وأكتب في مذكرتي كل الأعمال الجيّدة التي وفقني الله إليها في العام المنصرم ، وأجمع عقلي على شهود نعم الله عليّ في عقلي وقلبي وعلاقاتي وعملي ، ولا أشتت حضوري في أي معنى لا يتصل بشهود النعم . هذه التجربة وتكرارها كل حين وحين ،  أثرها ممتد ليس فقط على انشراح صدري لكن أيضا على طريقتي في التفكير ، فصرت أركّز على الجانب المشرق في كل حدث يمر بي أو أمر به.

اخترت البارحة ( 4-6-2024م) مقهى جديدا لم أذهب إليه من قبل، وحفّزتني المراجعات في (جوجل ماب ) على الذهاب إليه، مقهى صغير ورائق من مقاهي الأحياء، وقبل أن أخلو بدفتري الطيب، جرى بيني وبين صديقة حوار ودودا شعرت معه بالبهجة.

كانت تجلس قبلي في المكان، وقد تعرّفت إليّ  من متابعتها لي في منصة إكس ، حمدت الله لأن كلماتي تصل إلى قلوب لا أعرفها، وتؤنسها، وتؤثر فيها نوع أثر ، فالحمد لله على فضله.

خلوت بدفتري، وكتبت قائمة الامتنان لعامي الخمسين ، ووجدت أن الخمسين سخيّة، بل هو الله الذي يعطينا فوق ما نؤمّل ، ويعلّمنا أن البصيرة والرشد والعافية من خير ما نؤمّل .

قبل ثلاث سنوات ونصف اتخذت قراري بالانفصال، أجّلت هذه الخطوة طويلا؛ لاعتبارات متعددة، وخرجت من التجربة بحلوها ومرّها وفي داخلي غضب عاصف، كان هناك انفصال حاد بين ما أؤمن به عقلا من أنّ الله لا يقدّر لنا إلا ما هو خير، وبين ما أشعر به من غضب مبهم ومحتشد.

كنت أفكر، لقد بقيت سنوات ثلاث على الخمسين، لقد انقضى العمر من حيث لا أشعر، فهل سيتسع ما بقي منه لتجربة جديدة يطمئن بها القلب؟

بدا الأمر قاتما، فالاجتماع مع شريك مناسب في  ثقافتنا الاجتماعيّة ليس أمرا يسيرا، أين  هو الرجل الذي يقارب عمري، وأسكن إليه عقلا وروحا،  وهو مع ذلك غير معدّد ، وكيف سنجتمع معا وليس في الأفق ما يدل على سبب قريب أو محتمل.

          كنت أظن أن غضبي لن يطفئه إلا أن يعوّضني الله بزوج جديد، وعلّمت نفسي أن أتجاهل غضبي، فلا حل معه إلا التجاهل، وأن أركّز على أمر آخر كان بمثابة ضرورة نفسية بالنسبة لي .

         

ليلة منتصف الصيف

في المسلسل النرويجي المحدود : " ليلة منتصف الصيف" تقول بطلة المسلسل التي جاوزت الستين لصديقتها وهي تغالب دموعها: "يساورني شعور كأنني طفلة، وأنني يجب أن أتعلّم كل شيء من جديد. يا للإزعاج "

ما تحدثت عنه هذه السيدة الستينية هو عين ما كنت أشعر به وأنا في السابعة والأربعين من عمري، كنت في حالة تيه شبه تامّة، وكنت أحتاج إلى التعلّم من جديد، أحتاج أن أتعرّف على نفسي، وأن أحبّها، وهل يحب ربّه من لم يحب نفسه؟

كانت رحلة امتدّت لسنوات ثلاث حتى استوت على الجودي، لكنه استواء المرتحل المطمئن  لا المقيم ، وهو اطمئنان الارتقاء لا الجمود ، اطمئنان ترتقي به النفس من طور إلى طور جديد ، تتجلّى عليها في كل طور معان جديدة .

وفي هذه الرحلة قرأت كثيرا ، وكتبت كثيرا، والتزمت بتمارين " نفسية"، والكثرة هنا كثرة معنى  لا عدد ، وأكرمني الله بمن ساندني، ممن لن أستطيع إيفاءهم حقهم ما حييت، كما أنه في هذه الرحلة تعثّرت كثيرا، وأخطأت ، وخسرت -ببعض سبب مني- صداقات قريبة ، وابتعدت عن أخرى اختيارا بعد أن أشرق عقلي ، وعرفت لنفسي حقها، وكلما اقتربت من نفسي ، استعدت توازني ، وتبيّنت هويّتي ،حتى جاءت أحداث غزة .

الموت والبصيرة

          كتبت إحدى الصديقات على منصة ( اكس) نصّا فيه ما يشبه التثريب على التدوين الذاتي عن أثر غزة الوجودي في حياة المدوّن ، ولكأن هذا فعل أناني يعبّر عن نفسيّة التقاعس العربيّة ، ولم أعلّق على منشورها ، لكني أنفر حقا من كل مزايدة تتعلق بالقضايا العامّة أو الخاصّة، وأجد أن الكتابات التي تتبنّى هذا النفس الصدامي تفتقر إلى النضج والرشد . لم أعلّق على منشورها في حينه لأني خشيت أن يكون رد فعلي غير مراع لحالة الألم الجمعي التي نعيشها ، لكن وجدت أن من المناسب في هذه المقالة المكاشِفة مثل هذه المكاشَفة.

          كنت كغالبنا أتابع الأخبار ، فلا أجد طعما للنوم أياما ، وأتقلب في صلاتي، وفي سريري، أناجي الله ، كيف ترضى يا رب بكل هذا الظلم ؟

          كنت أشعر أن عقلي سينفجر من التفكير والوجع، ثم استشهدت علا عطالله – رحمها الله- صديقتنا الغزاويّة الملهمة على ( إكس) ، ووجدت أني عقلا أمام طريقين : إما أن أكفر بالله – والعياذ بالله- وإما أن أسلّم من أعماقي بحكمته كما أنا مسلّمة بقدرته. الطريق الأول ممتنع لقيام الدليل على وجوده تعالى ، وعلى صحة دين الإسلام عندي، إذن لم يبق إلا التسليم بالحكمة الإلهية، والأمر هنا لم يعد عقليا محضا كما كان الحال مع "غضب الخمسين" ، لكني أحسست ولكأني أؤمن بالله من جديد، إيمان جديد يأخذ بروحي إلى السلام ويعلّمها ما لم تعلم .

          فلما تجلت الروح أبصرت، ووجدتني لأول مرة بعد ثلاث سنوات أقبل اختيار الله لي قبول المؤمن وجدانا بحكمته ، وأقبل كل ألم مررت به ، وكل شتات أفقدني بوصلتي، وكل قسوة طالت روحي.

          قالت لي صديقة مرة: الألم هو طريقنا للنضج والرحمة ، قلت لها : لكن الله قادر على أن يكرمنا بالنضج والرحمة دون ألم ، قالت : الرضا يا صفية. لكني كنت غاضبة وعاجزة عن الرضا.

          وأتأمل الآن، لماذا داوتني أحداث غزة، ولم يداوني ألمي الشخصي، ولعل بعض الجواب هو أن المعاناة الكلّية أعظم أثرا، وأن ألمي الشخصي امتزج بنفس منهكة مشوّشة ، لكن المعاناة الكلّية قابلت نفسا أقرب للعافية والسواء.

          داوتني أحداث غزة وجدانا، ووجدتني أذوق للعبادة معان كان يحول بيني وبينها غضبي ، وعرفت الله من جديد.

التسليم وإيزابيل الليندي

          في ليلة هادئة وبعد صلاة الوتر قلت لربي: أريد زوجا مناسبا ورائعا يا رب، ثم خطر لي أن ذلك صعب كإيجاد قشّة في كومة قش ، ثم استغفرت الله ، وقلت له : سلّمت إليك أمري كله. وفي اليوم التالي راسلتني صديقة لم نتحدث منذ زمن ، وقالت لي إن صديقا لها ، يكبرني بسبع أو ثمان سنوات ، وغير متزوج حاليا، يبحث عن زوجة في مثل عمري، وهو من عائلة كذا ومواصفاته العامة كذا ( وكل ذلك كان مناسبا) ، وأنها ستصلني به إن كان لديّ استعداد . عرفت حينها أن الله يذكّرني بقدرته ، وكنت قد تعلّمت الدرس، وقلت لربي: هل هو تذكير قط يا رب، أم أن الأمر سيتم؟ رضيت يا رب. ولم يتم الأمر ، وكانت تجربة غريبة قليلا ، حسنا لقد وجدني مختلفة ومميّزة عقلا – كما قال- لكن شكلي لم يعجبه، وقال ذلك صراحة ، ولأني كنت قد استويت على الجودي قلت له بهدوء حاسم: لم أطالبك بذكر سبب انسحابك. بدا لي تصرّفه مرتبكا، هل تأثرتُ بعد ذلك ؟ نعم ، لكن كخدش خفيف سهل المداواة. ويظل للكلمة أثرها مهما كانت ثقتنا بأنفسنا، ولذلك عظّم الله شأن الكلمة.

          التجربة اللطيفة التي مررت بها مع مبادرة صديقتي ذكرتني بكلام إيزابيل الليندي في كتابيها الرائعين: " حصيلة الأيام"، و" نساء روحي" عن أن التعرّف بشخص مناسب هو أمر يتحكم به الحظ ( القدر)، وأن أي ( معافرة) لأجل الحصول على الشخص المناسب لا تنجح غالبا، إيزابيل ذكرت ذلك في " حصيلة الأيام " عندما حكت تجربتها في البحث لابنها عن زوجة عبر تطبيقات المواعدة، ثم ذكرت ذلك من جديد في كتابها: "نساء روحي" عندما حكت تجربتها في البحث عن شريك وهي في الستين- بعد انفصالها عن زوجها- عبر تطبيقات ومكاتب المواعدة أيضا ، وعدم نجاح هذه التجربة ، ويبدو أن القناعة التي ذكرتها من قدرية الزواج في "حصيلة الأيام" اضطرت نفسيا إلى اختبارها من جديد وهي في الستين من عمرها، وتعجبت إيزابيل من الاستحقاق الذكوري الذي يجعل الذكور في عمر الستين يبحثون عن زوجات أصغر منهم بعشرين وثلاثين عاما، قلت لصديقة عربيّة اشتكت لي من نفس الأمر : لقد اشتكت إيزابيل كذلك، فالأمر عالمي فيما يبدو وليس عربيا فقط .

اللطيف أن إيزابيل ساق لها الله زوجا مناسبا بطريق قدري، لم يكن لها تدخّل فيه، وبعد أن كانت قد توقفت عن البحث عن شريك، وتزوجت إيزابيل مرة ثالثة في السبعين من عمرها، قالت إيزابيل : إن زواجي في هذا العمر من شريك رائع، هو نافذة أمل لكل النساء في مختلف الأعمار.

          ما أنا مقتنعة به اليوم وأنا في الأيام الأولى لعامي الخمسين، أن الإنسان إذا عرف نفسه، وخبرها، وأحبّها، واتسق عقلا ووجدانا مع قيمه الوجودية ، تصالح مع النقص الذي يبتليه الله به في بعض أمره، وانشغل بشهود نعم الله عليه عن الكدر، ووهبه الله قوّة الرضا وسكينته وهدايته : ( ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) .

          وأجدني في الخمسين أقرب ما أكون إلى نفسي ، وهويّتي ، وأكثر تحققا ، ولا زال في داخلي فضول غضّ للتعلّم ، ودهشة حلوة مع كل معنى وجودي جديد يلمس روحي ، وحماس متجدد لأن أضيف إلى الحياة معرفيّا وإنسانيا ، ولا زلت أنتظر أن يعلّمني الله أكثر ما يجعلني أكثر رحمة ، وأعظم رشدا.

         

         

         

         

 

 

 

 

 

 

الأحد، 5 مايو 2024

الحب، الجواب الوحيد . قراءة في كتاب " فن الحب"


                تكون الحياة سخيّة دائما في اختطافنا من أماننا البليد كلما توقفنا عن محاولة فهم أعمق لأنفسنا. تتبدّى حينها لنا الأسئلة  الوجودية من جديد.

وفي رحلة الأسئلة الكبرى يجيء كتاب : " فن الحب" لإريك فروم ( 1900م-1980م) ليقدم مقاربة عميقة، ومحاولة فيها أصالة للإجابة عن معضلة الوجود المتعلقة بأسئلة السكينة الداخلية التي تتبدّى لكثيرين كنعيم بعيد مناله.  

نشر الكتاب بالإنجليزية لأول مرة في عام 1965م . وأعادت نشره  مترجما هذا العام  ( 2023م )  دار صفحة سبعة للنشر، وترجمه بلغة واضحة الأستاذ متيّم الضايع، والكتاب يحوي 158 صفحة من القطع المتوسط.

وللكتاب ترجمتان سابقتان ، إحداهما نشرتها دار عودة عام 2000م، ترجمة الأستاذ مجاهد عبد المنعم مجاهد . والترجمة الثانية نشرتها  دار علاء الدين  عام 2010م، ترجمة الدكتور سعيد الباكير .

الحب كموقف وجودي

                لم أفكر يوما في حب النفس من الزاوية التي طرحها إريك فروم في هذا الكتاب، لا يفصل إريك فروم حب النفس عن حب الله ، وعن حب الناس، وعن حب الفضيلة ، يرى أن الحب هو موقف وجودي أولا ، هذا الاتساق المنهجي كان اكتشافا  معرفيا جديدا بالنسبة لي.

                توجّه كتب علم النفس الذين يعانون من"  ظلمهم لأنفسهم " إلى معاملة أنفسهم كصديق مقرّب، هذا سيساعدهم على الاعتدال، والاتصال المتزن بدواخلهم، لكن ما طرحه إريك فروم في هذا الكتاب يعالج المسألة معالجة ترد الجزئي إلى الكلي، فأنت تحب نفسك؛ لأن الحب هو موقفك الأصيل "الذي يحدد علاقتك مع العالم كله".

                الحب عند إريك فروم لا يتجزأ ، هو وحدة متسقة ، لا يستقيم عنده أن تحب الله وأنت     لا تحب نفسك، أو أن تحب نفسك وأنت تظلم الآخرين، أو تتحكم في حياتهم أو خيارتهم، أو تقصّر في احترام كرامتهم، كل ذلك ليس حبّا وإن توهم صاحبه أنه كذلك .

                ويقوم الحب عند إريك فروم على أربعة معاني : المسؤولية، والمعرفة، والاحترام، والرعاية . وهذه المعاني يقاربها المحب ولا يتحققها؛ فالحب محاولة فهم مستمرة . أعجبني تأكيد فروم مرّات على أن فكرة تحققنا بفهمنا لذواتنا هي فكرة مراوغة، وأننا لا نلبث أن ندرك ذلك كلما ظننا أننا وصلنا. فهمنا لأنفسنا رحلة مستمرة ، وكذلك فهمنا لمن نحب، وقناعتنا بذلك تهبنا التواضع الضروري لتزدهر أرواحنا ، وتزدهر علاقتنا بمن نحب.

تعلّموا تحت قناع الفضيلة ألا يحبوا الحياة

                علاقة الوالدين بالطفل أخذت نصيبا مهما من كلام إريك فروم عن الحب. قسم فروم الحب الوالدي  إلى حب أمومي غير مشروط، وحب أبوي مشروط ، وجعل هذين النمطين في علاقة الطفل بأبويه أصلا ما سواهما استثناء ، وهذا عندي غريب، غريب عن منهجه في تأصيل معنى الحب، وغريب في جعله ذلك قاعدة أصيلة، وغريب في استصحابه هذين النمطين في شرح علاقة المخلوق بالخالق العظيم سبحانه. ولعل الإشكال عنده جاء من فكرة العقاب الإلهي وعدّها أساسا لفكرة الحب المشروط ، وهذا عندي اضطراب في الفهم ، وقياس فاسد.

                نبّه إريك فروم إلى مسائل تربوية مهمة منها كلامه عن أن مسؤولية الأم تجاه طفلها تتجاوز الرعاية التي تهبه أمان تلبية الضروريات الجسدية  إلى الرعاية التي تهبه حب الحياة ، أحببت عبارته: " يجعل ( الحب الأمومي)  شعور الطفل كما يلي : من الجيّد أني ولدت ؛ إنه يغرس في الطفل محبة الحياة، وليس فقط الرغبة في البقاء على قيد الحياة" . كلامه هذا ذكرني بعهد تعاهدناه أنا وصديقة لي في تربيتنا لأطفالنا : أن نكون يقظين إلى فكرة أن  تكون تربيتنا لأطفالنا الأصل فيها البهجة والاحترام لا النكد، وكلامي هذا تدرك تحدياته كل أم .

                ومن الأفكار الدقيقة التي نبّه إليها فروم  أن الحب مظهره التوازن في العلاقة بالمحبوب، وأن التطرّف في الاهتمام يلبس ثوب الحب زورا بينما هو في حقيقته اختلال لا ينتمي للحب وإنما لاضطراب في النفس . تحدّث فروم عن الشخصية الإيثارية التي لا تريد شيئا لنفسها، وتمارس دور " المخلّص" مع الآخرين بينما تهمل حق نفسها . يقول فروم عن الشخصية "الإيثارية ": تشعر بالفخر لأنها لا تعد نفسها مهمة  إلا أنها تشعر بالحيرة عندما تجد نفسها غير سعيدة على الرغم من عدم  أنانيتها، وأن علاقتها بالمقرّبين غير مرضية. ويظهر العمل التحليلي أن الإيثار المتطرّف هو عرض لاضطراب نفسي ترافقه أعراض أخرى كالاكتئاب . هذه الشخصية محاصرة بالعجز عن الاستمتاع بالحياة ، والعجز عن الحب ، وهذا يجعلها في حالة عداء مستترة نحو الحياة، وخلف ستار الإيثار يتوارى تمحور خادع حول الذات لا يقل حدة ، ولا يمكن للشخص "الإيثاري"  أن يشفى إن لم يدرك اضطرابه هذا." اهـ بتصرف.

                الأم التي تتطرف في إيثار أولادها على نفسها ، هي لا تؤذي نفسها فقط ولكنها تؤذي أولادها، وخلافا لما هو متوقع فإن السلوك الإيثاري المتطرّف يحرم الأطفال رؤية نموذج سوي للتعامل مع النفس . الإيثار المتطرّف لا يوصل للأطفال أنهم محبوبون بل يجعلهم في حالة قلق دائم من عدم استحسان الأم وتخييب توقعاتها ، فهم يتعلمون تحت قناع الفضيلة ألا يحبو ا الحياة .

                يقول إريك فروم : " لا شيء يساعد على منح الطفل تجربة الحب والبهجة والسعادة أكثر من كونه محبوبا من أم تحب نفسها " .

                سطور إريك فروم هذه مستني كأم، وأظن أن كثيرا من الأمهات سيتوقفن عندها، ذكّرت نفسي وأنا أقرأ كلام فروم  أن حب الأم كسائر أنواع الحب هو محاولة تعلم مستمرة عن أنفسنا، وعمّن نحبهم. وما نتعلّمه هو وسيلة لمحو ظلمة الجهل، لا لتلبّس ظلمة قسوة إطلاق الأحكام على أنفسنا أو على الآخرين .

الحب ليس غيابا للصراع

                يرى إريك فروم أن الحب هو اتحاد شخصين بما يمكّنهما من الشعور بالسكينة وتمام الألفة، وهو في نفس الوقت يحققهما باستقلالهما المتعلق بطبيعتهما الخاصة ، فهو اتحاد يحفظ لكل طرف ذاتيته ولا يلغيها. يؤكد فروم أن هذا المعنى يؤكد على فكرة أن الحب لا يغيب معه الصراع، بل إن الصراع هو مظهر من مظاهر التحقق بالاستقلالية، وتعرّف كل طرف على حدود الطرف الآخر، وبالمحافظة على الحدود تحفظ توازنات العلاقة. إن رفض فكرة الصراع هو نوع من المزايدة، وهو يؤول إلى أحد أمرين، إما علاقة تراوغ الوحدة في صورة المحافظة على الصلة السطحية التي لا عمق فيها بين الطرفين ، وإما علاقة يتنازل فيها أحد الطرفين عن حقوقه رغبة للحفاظ على السلام في العلاقة فينتهي الأمر إلى علاقة يشعر فيها الطرف الذي يتنازل دوما بالقلق وعدم الأمان، هذا في أدنى الأحوال، إن لم تتحول العلاقة إلى علاقة استغلال نتيجة تمييع الحقوق.

                الصراع المثمر عند إريك فروم هو الصراع الذي يتجاوز الأمور السطحية التي يسجن الناس خلافاتهم فيها، وبالتالي يصطدمون بأبواب مسدودة أينما ولّوا وجوههم، إلى محاولة فهم الأسباب الجذرية للاختلاف. يقول فروم إن " هذه الصراعات ليست مدمرة وإنما تؤدي إلى التوضيح، وتخلق متنفسا يخرج منه الاثنان بمزيد من المعرفة والقوة".

الجواب الوحيد   

                يقول إريك فروم  في آخر سطور الكتاب : " الحب هو الإجابة العاقلة المرضية الوحيدة لمعضلة الوجود البشري فإن أي مجتمع يستبعد بشكل نسبي تطور الحب ، لا بد أن يهلك على المدى الطويل بسبب تناقضه مع ضرورات الطبيعة البشرية الأساسية " .  هل كانت مقاربة أريك فروم في تحرير مفهوم الحب ، وأنواعه، وسبل ممارسته، كافية ؟ لا أجدها كذلك ، لكنها إضافة منهجية ثرية لا غنى عنها في علم نفس العلاقات.

                                         

* نشرت هذه المقالة في مجلة الجوبة / العدد 81 / ديسمبر 2023م

               

               

 

طواحين وجودية ( مذكرات 2023م) .

 


بدأت منذ أيام في القراءة الثالثة لكتاب : قواعد التصوف للإمام زروق ، وهذه المرة أقرؤه من نسخة ورقية اقتنيتها قبل أسبوع من معرض جدة للكتاب، القراءة الأولى كانت من نسخة ورقية أخرى لم يُقدّر لها أن تغادر معي عندما غادرت حياة سابقة في عالم هو في حسي اليوم – في بعض آفاقه -عالم مواز.

قواعد التصوّف كتاب ينظم للمسلم عالمه الداخلي، ويعيد ترتيب أولوياته الوجودية، ويضم برفق قلبه الذي أثقلته إملاءات الحياة. وجدت أني قد ألفت لغة الإمام زروق ، أقرأ العبارات ولكأنها تطابق أخرى قد استقرت من حيث لا أشعر في قلبي ، أقرأ السطر فأحسه يألفني، أحسه قريبا يذكرني أن الله قريب، ودينه قريب ، ورحمته قريبة.

وهذا العام بكل الوجع الذي عصف بنا بسبب العدوان في غزة والسودان هو عام قرب وجودي بالنسبة لي ، قرب من أهم معنى وجودي وهو التسليم للقدر، وجع غزة تحديدا وأولا كان هو السبب فيه . هذه الوحشية التي يعانيها أهلنا هناك، هي في ملك الله، وهو سبحانه             لا زال يمد للمجرمين مدّا في غزة ، وهذا الإفساد العظيم وسفك الدماء،  هو قدره : (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) .

في ليال عديدة كان عقلي يكاد يجن من التفكير ، أينك يا رب. إيماني بوجوده لا شك فيه، ثم تجلى لي أنه مريد كما أنه قادر، فكيف أحاكم إرادته سبحانه، وقد سأل الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، فقال لهم سبحانه : إني أعلم ما لا تعلمون.

فلمّا تجلى لعقلي معنى أنه مريد ، يفعل في ملكه ما يشاء، وهو مع ذلك الرحمن الرحيم، الحكيم لا معقّب لحكمه ، وأنه يعلم ما لا نعلم ، سلّمت ، سلّمت وعدت لأسئلتي الوجودية التي تتعلق بقدري الشخصي، والتي كانت تؤرقني منذ سنوات، وكنت أراوغها عقلا ، وألاطفها قلبا ، فلا تكاد تجعل وجداني يهدأ، تعصف بي، ولم أجد لها حلا في أغلب الوقت إلا بالتجاهل الذي ترافقه مرارة ، وينغص عليه غضب كامن لا يكاد ينطفئ، وشعور بالعجز يسلب الروح أمانها.

وجع غزة الكبير داوى وجعي الشخصي، داواه بترياق التسليم للرحمن الرحيم، القهّار الحكيم ،  مالك الملك . كل كسر هو منه، وكل نقص هو منه، وكل فقد هو منه، وكل حرمان هو منه، سبحانه يعلم ما لا نعلم .

التصالح مع القدر  وفق رؤية الدين هو الطريق الوحيد للأمان النفسي ، هذا ما خلصت إليه. ماذا بعد ما يحدث في غزة من فساد وشر ؟ أتراني أصارع طواحينا لا جدوى من مصارعتها؟ القدر ملك الله ، والرضا والتسليم بأنه لا جواب على سؤال المعاناة ، وسطوة الشر، هو طريق الأمان الوحيد. رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.

 

 

 

 

فقه المساواة ، قراءة في كتاب: هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ *

لعل كل من لديه اهتمام بقضايا المرأة في الإسلام لا بد أن يلفت نظره هذا العنوان لكتاب مترجم. الكتاب للدكتورة ليلى أبو لغد أستاذة الأنثروبولوجيا ودراسات المرأة والنوع الاجتماعي في جامعة كولومبيا.

تقول الدكتورة ليلى أبو لغد في مقدمة النسخة العربية إنها كتبت هذا الكتاب بالإنجليزية للقارئ الأمريكي والأوروبي، وإن استصحاب هذه الوجهة في قراءة الكتاب سيكسب القارئ العربي فهما أعمق للمناقشات خارج العالم العربي.

حسنا، لقد قرأت الكتاب وفكرة كونه مكتوبا لجمهور آخر حاضرة عندي، لكني مع ذلك وجدت أن منهجية الكاتبة في مناقشة الأفكار لا تختص بجمهور معين، لأنها تؤسس لنظر موضوعي أصيل في القضايا الإنسانية.

  الموضوع الرئيس للكتاب  -الذي صاغت المؤلفة عنوان الكتاب استنادا إليه - هو تفنيد دعوى أن إنقاذ المرأة الأفغانية من التطرف الإسلامي هو سبب غزو أمريكا لأفغانستان.

ولعل هذه الدعوى ستبدو للقارئ العربي خداعا مبتذلا، لا سيما مع ما تضمنته من جعل الحجاب عائقا للمرأة عن الازدهار الإنساني والعقلي، وهذا ما يكذبه الواقع، و ينم عن جهل  بحياة المسلمات العربيات وغيرهن .

لقد نجحت د. ليلى أبو لغد في أن تنقل لي كقارئة عربية  كيف يفكر الغربيون، وكيف يناقشون قضايانا الإنسانية. ووجدت في الكتاب مادة ثرية ومكثفة في عرض بعض الأفكار قادتني للقراءة عنها في مصادر خارجية لأستطيع فهمها بوضوح .

وما أنا معنيّة به في هذه المقالة هو أن أتخيّر من الكتاب ما وجدت أنه أضاف إليّ فلسفيا أو منهجيا في تناول القضايا الإنسانية، وأن أقدّم قراءتي لبعض قضاياه كامرأة عربية مسلمة متخصصة في الفقه .

 إن الإشكالية الكبرى المتعلقة بفقه المرأة عند بعض الفقهاء هي أن الفقيه يتعامل مع المرأة من خلال علاقتها بالرجل لا من حيث كونها إنسانا مستقلا شرّع الله الأحكام له أصالة كما شرّعها للرجل أصالة، وأنها ستأتي الله يوم القيامة فردا ، كما سيأتيه الرجل يوم القيامة فردا.

 إن قراءة النصوص الشرعية انطلاقا من هذه الرؤية التي تحفظ للمرأة حقها كإنسان مستقل         لا تابع يجعلنا نخرج بنتائج مختلفة في مسائل فقه المرأة، مسائل علاقتها بنفسها ، وعلاقتها بجسدها ، ولباسها ، وعلاقاتها الإنسانية ، واختياراتها الحياتية.

المساواة أصل في التكليف للجنسين، المساواة في الاستقلالية، والكرامة، والتواصل المتزن مع الحياة.  ومن المهم التأكيد على أن العدالة التي تتعلق بمسائل فقهية تفصيلية تؤول إلى فكرة المساواة ولا تنقضها[1].

          في هذه المقالة سأقدم نماذج فقهية تتسق مع الرؤية الكلية التي قدّمها الإسلام لعلاقة المرأة بالحياة، وهي رؤية تنطلق من أصل المساواة في التكليف والكرامة الإنسانية وكون المرأة إنسانا مستقلا لا تابعا للرجل.

الاختيار كقيمة مقيّدة:

          ننظر للاختيار كقيمة مطلقة، بينما هو عند التحقيق مقيّد بالمبادئ العامة التي نعتنقها، سواء كانت هذه المبادئ محافظة أو متحررة .

          قد تبدو هذه الفكرة مستفزة لمن عوّدتهم الحياة أن يعيشوا وفق اختيارات غيرهم، لا سيما بعض النساء في مجتمعاتنا العربية، لكن لعل هذه الفكرة تذهب بعيدا إلى العمق في نقض دعوى أن بعض الديمقراطيات الغربية تحرر المرأة المسلمة حين تسن تشريعات تمنع تغطية الشعر أو الوجه. تقول ويندي براون[2]:  ولكأن العلمانية تستند في قضية لباس المرأة إلى أن الجسد العاري والتباهي بالحرية الجنسية رمز لحرية المرأة وحصولها على المساواة إن لم يكن مقياسا لهما،  وهكذا ينظر للمسلمات اللاتي يلبسن ما يعددنه لباسا شرعيا على أنهن يعشن حيرة ما.

          هل التقطتم معي الإحساس بالتفوق الذي يحاكم إليه هذا التوجه فكرة اختيار المرأة المسلمة للحجاب ولكأن هذا الاختيار هو مظهر لمرحلية في التفكير لم تبلغ تمام النضج .  

لقد تناولت د. ليلى فكرة الاختيار كقيمة مقيّدة في موضعين مختلفين من الكتاب. الموضع الأول في أول الكتاب ونقلت فيه عن ويندي براون قولها : " " كل اختيار هو إلى حد ما رهين السلطة، بل ومتأثر بها، وأن كل اختيار إنما يباعد المرء عن الحريّة إلى حد ما" . فاختيار المرء مبدأ عاما ما يجعله – عند تجريد الفكرة – مقيدا بهذا المبدأ وتطبيقاته.

والموضع الثاني في آخر الكتاب بعد نقلها لكلام طويل لجوديث بتلر[3] عن وهم الاختيار الحر لتؤكد على أن لدى البشر مشتركات إنسانية تؤكد على أن الاختيار قيمة مقيدة، وأن استصحاب هذه الزاوية في التفكير الحقوقي يحميه من الوقوع في ارتباكات منهجية، ويقوده لتحقيق العدالة بعيدا عن ضلالات ادعاء التفوق الأخلاقي.  

          في السطور السابقة ناقشنا المسألة في بعدها الفلسفي، ولا يسعني كدارسة للفقه أن أتجاوز مناقشة كيف يتناول الفقيه مسألة منع القانون المرأة من تغطية الشعر أو الوجه ، أما التشريع الذي يمنع ستر الوجه فأمره يسير، لأن هذا التشريع إن صدر عن قانون يستند إلى الشريعة فهو تشريع صحيح استنادا على أن حكم الحاكم يرفع الخلاف[4]، ويجب حينها على المسلمات كشف وجوههن ، وينتقل كشف الوجه في حقهن إلى الوجوب بدلا من الجواز أو الاستحباب .

المسألة الأشد تركيبا هي إذا صدر قانون يمنع المسلمات من تغطية الشعر في بلد غير مسلم، فهنا يفعّل فقه الأولويات فتستر المرأة من شعرها ما لا يعرّضها للأذى، ولا تعطل حياتها وعيشها بكرامة مادية ومعنوية [5].  

          وقد سألت امرأة العلّامة علي جمعة عن اضطرارها لخلع الحجاب في منشأة تمنع عمل المحجبات- والحال أن هذا العمل هو مورد الحياة الكريمة بالنسبة لها ولا مورد سواه - فقال لها الشيخ : إن عليها أن تحتفظ بغطاء للرأس في حقيبتها فتلبسه بمجرد انتهاء وقت العمل، فقالت: ألا يكون فعلي هذا نفاق ؟ فقال فضيلته : بل طاعة بحسب الاستطاعة[6].

          كلام العلّامة عي جمعة فيه مراعاة لفقه الأولويات، وفيه حفظ لحق المسلمة في حياة كريمة            مادامت لم تستطع أن تجد عملا آخر يحفظ حقها في ذلك.

          الفقيه المسلم لا يغيب عن تكوينه العلمي البعد الفلسفي في المسائل الإنسانية لكنه يفتي الناس بما يعينهم على أن يعيشوا واقعا لا حرج فيه ، ولا تعسّر ، ولا حرمان من العيش الكريم.

 

الإدانة الثقافية

          تناقش د. ليلى أبو لغد باستفاضة ما سمته بالحس العام الجديد في العالم الغربي والذي يتوجه إلى الإدانة الثقافية لأي ثقافة لا تتبنى التوجهات الليبرالية في العلاقة بين الجنسين ، وتنبه إلى أن هذا التوجه يسقط دراسة السياقات السياسية والاجتماعية والقيم الخاصة بأخلاق الرعاية والانتماء للعائلة التي تتبناها الثقافات الشرقية، ويحاكم كل ذلك إلى قيم الثقافة الغربية .

ناقشت المؤلفة في فصل كامل قضية جرائم الشرف، ونبّهت إلى أنها ليست قضية جندرية محضة، بل هي قضية جهل وانحراف في المقام الأول، وبرهنت على ذلك بتضافر الجهود الحكومية والدينية والمدنية للقضاء عليها، وأكّدت على أن العنف الأسري ليس حكرا على ثقافات الشرق بل لا تخلو منه المجتمعات الغربية أيضا :" يشهد لذلك صحف أمريكا وأوروبا وقضاتهما ومحاموها وعلماء النفس فيهما وسجونهما". تقول المؤلفة : ويأتي الإشكال المنهجي من ازدواجية التعامل مع العنف الأسري الذي يتم ربطه بالثقافة عند حصوله في المجتمعات الشرقية بينما يُكتفى بإدانة مرتكبيه في مجتمعات أخرى.

      هذا التنبيه المنهجي ينبغي ألا يسقِط -في خطابنا الداخلي في مجتمعاتنا المسلمة -أهمية التركيز على أن المرأة في الدين مساوية للرجل في الواجبات، وأن تكليفها هو تكليف من الله عز وجل تتعبّد الله بطاعته، وليس لأجل جعل الرجل حاكما على اختياراتها الدينية والأخلاقية، بل يحتكم الرجل والمرأة معا إلى الشرع وإلى القانون.

نعم، قضية جرائم الشرف هي قضية جهل وانحراف لكنها لا تخلو من بعد تمييزي ينظر للمرأة على أنها تبع للرجل لا مستقلة عنه ، ويجعل اختياراتها تحتكم إلى اختياراته لا إلى قيم الرعاية التي أقام الله عليها العلاقة بين الجنسين.

هناك قدر من التبرير يسكن جزءا من العقل الجمعي العربي لمرتكب جريمة الشرف – إن صحت هذه التسمية- وهذا التبرير منزعه الخلل في فهم ما جاء به الإسلام من تكريم وعدالة  للمرأة والرجل معا. لقد قال الإمام أحمد الطيب في برنامجه الرمضاني ( الإمام الطيب 1444هـ )  عن المرأة كلمة جسّدت واقع الحراك الفقهي في قضية المرأة ، قال : ولكأن فقه المرأة لم يخط فيه قلم.

 و ما أؤمن به هو أن التغيير يتعاضد فيه الفكر مع القانون مع إصلاح كافة السياقات التي تعقّد المعاناة الحقوقية ، وهو ما يتحقق في المملكة العربية السعودية تحققا يلمس المنصفون آثاره ومنافعه.

 

العدالة المتعالية

          هكذا وصفت المؤلفة د. ليلى أبو لغد  التوجه العام في القراءة الحقوقية الغربية  لمعاناة المرأة المسلمة، والذي يبرز المعاناة الحقوقية ولكأنها خاصة بالمسلمات في الدول العربية والإسلامية. تقول د. ليلى            أبو لغد: "يعد الفشل في البحث عن أوجه التشابه- أي التشابه في قضايا الانتهاكات التي تعاني منها المرأة في جميع بلاد العالم - أمرا خطيرا . فهذا التقصير لا يجعلنا ناكرين لإنسانيتنا المشتركة وحسب، بل متواطئين أيضا ...إذ استخدمت حقوق النساء غطاء سياسيا للتدخل في أفغانستان" [7].

قدّمت د. ليلى أبو لغد للجمهور الأمريكي والأوروبي -الذي تنتمي إليه ثقافيا -قراءة تحترم المشتركات الإنسانية ، والتعددية الثقافية، وتنبذ الفكر الاستعماري في غطائه الإنسانوي، وتدعو للتكافل مع الجهود الساعية لتحقيق العدالة للمرأة المسلمة دون مزايدات أخلاقية -تجرّد الثقافات الشرقية من ثرائها- ،وأوهام تجعل الاختيار الحر خاصا بالوجهة الليبرالية في المسائل الحقوقية.

          لقد احترمت الجهد المنهجي الأصيل، والبحث الذي يحفر في عمق الأفكار والوقائع ، ويحررها من سطوة الأفكار السائدة. وفي الكتاب تجديد مثر يتماس مع الواقع تماسّا يقود لتنوير حقيقي وفاعل.

          يقع الكتاب في ثلاثمائة وخمس صفحات، ونشرته في عام 2022م  دار صفحة سبعة السعودية، بترجمة من الدكتور محمد الرحموني . ممتنة حقا للمؤلفة د. ليلى أبو لغد ولكل من ساهم في إخراج هذا العمل المهم للقارىء العربي.

 *نشر هذا المقال في موقع سؤال بتاريخ 15/ 6/ 2023م                   

 

 



[1] تناولت هذه الفكرة في خصوص العلاقة الزوجية في مقالتي بعنوان : الزوجة في الإسلام ..  سؤال العدالة .

[2] كاتبة نسوية، وعالمة سياسة أمريكية معاصرة.

[3] فيلسوفة أمريكية نسوية معاصرة .

[4] هنا تأصيل حسن في هذه المسألة، بعنوان : "حدود ولي الأمر في تقييد الواجب والمندوب"، لفضيلة مفتي مصر: أ.د شوقي إبراهيم علّام .

[5] ينظر كلام العلّامة عبد الله بن بيه في تأصيل هذه المسألة في كتابه: " صناعة الفتوى وفقه الأقليات" ص319/314              

[6] برنامج والله أعلم لفضيلة العلامة علي جمعة على قناة cbc . حلقة بعنوان : من تخلع الحجاب لم تكفر .

[7] النقل بتصرف من كتاب : هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ ؟  ص 237-ص 300