القطع
هوأصل ( الحكاية) :
الإسلام دين منضبط بمبادىء أخلاقية كلية
، وتشريعات قطعية ، تمثل رؤية المسلم التي تحكم تعاملاته مع نفسه والناس
والمخلوقات .
وهذه القطعيات الفقهية حلالا وحراما مما
اتفق أهل العلم على حكمها بحيث إن المسلم يجب عليه الالتزام بها إن تحققت شروطها ،
وانتفت موانعها ، ولم يعرض عارض من ضرورة أو حاجة تقوم مقامها .
والحكم الفقهي القطعي هو ما دل عليه
الدليل الثابت من حيث المصدر، وكانت دلالته غير محتملة احتمالا معتبرا .
والأحكام الفقهية القطعية غالبا معلومة
مشهورة كوجوب العدل، وحرمة الظلم .
وفهم
فكرة القطع هو أساس فهم أن الإسلام دين منهجه قائم على السعة التي لا ترتبك أمام تجدد الحضارة الإنسانية، ولا
تفاجئها تقلبات الحياة ، بل تستوعبها بما يرفع الحرج ، ويحقق التوازن بين قيم
الإنسان وحاجته بل وضعفه وانكساراته .
وبالتالي لا يصح أن نقول عن مسألة ما
إنها قطعية إذا كانت دلالة الدليل تحتمل معان متعددة يصح الاعتداد بها .
ولا يصح أن نقول عن مسألة إنها قطعية مع تعارض الأدلة
بحيث يختلف اجتهاد العلماء في الترجيح بينها كأن يرى عالم إن النص يخالف قاعدة
قطعية مستفادة من استقراء جملة النصوص الشرعية ويخالفه عالم آخر في فهمه هذا ويرى
العمل بالنص الجزئي.
إن الحكم بالقطع هو حكم من حيث ما يدل عليه
الدليل أصالة لكن يخرج الحكم من القطع إلى الاحتمال والظن إذا عرض عارض يصح
اعتباره عند تنزيل المسألة على الواقع .
إشكال
القطع والظن وأثره على فقه السعة:
الإشكال
الذي يقع فيه بعض طلبة العلم هو أنهم يجعلون الحكم الفقهي الظني الذي دل عليه دليل
محتمل من حيث السند والدلالة في منزلة الحكم الفقهي القطعي. والذي يوقعهم في هذا
الإشكال هو جعلهم غلبة الظن في منزلة القطع ، وعدم تفريقهم بين القطع الخاص الذي يقع
في نفس الباحث من ترجح فهم ما في المسألة وبين القطع المتصل بكون المسألة قطعية أصالة . وتوهمهم أن اعتراضات العلماء على بعضهم في المسائل الظنية
يخرج المسألة من الظن إلى القطع .
والخروج من هذا الإشكال يحصل بتحرير فهم
مسألة القطع تحريرا ينزل الأحكام الفقهية
منزلتها وأن لا يتأثر الباحث بغلبة الظن الناتجة عن طول النظر والتي تجعله
يخلط بين التأصيل والتنزيل ، وبين القطع الأصلي والقطع بالرجحان.
ويترتب على هذا الإشكال خطأ منهجي يضيّق
مساحات الظن ، ويهمل أقوالا فقهية قد تدعو حاجة الناس إلى العمل بها ، بل ويشوّش
على الرؤية الكلية للدين المرتبطة بالمرونة والسعة في المسائل التي يتم نقلها خطأ
من الظن إلى القطع .
مدار
قبول القول الفقهي :
لقد أمرنا القرآن الكريم بسؤال أهل الذكر وهم أهل العلم المؤهلين الذين امتلكوا أدوات الفهم والاستنباط ، فمدار قبول القول الفقهي في المسائل الظنية المختلف فيها هو أن يكون القائل به من أهل الاجتهاد فقد أمرنا القرآن بسؤال من كان مؤهلا ولم يقيد ذلك . وقد كان الصحابة يستفتون العلماء دون تحر لمسألة المفاضلة بينهم . أما من يعترضون بخفاء الأدلة على بعض العلماء فهذا اعتراض يرده ثراء الحركة العلمية وشيوع المراجعات بين العلماء منذ عهد الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم – إلى عصر استقرار المدارس الفقهية.
هل
اختار الأسهل ؟
كيف
نتعامل مع اختلاف أقوال العلماء في المسائل الفقهية ؟ وهل اختيار الأسهل بالنسبة
لي من هذه الأقوال هو اتباع لهوى النفس المذموم ؟ . وللجواب عن هذا السؤال – كما
ترجح عندي- فلنعد إلى ( أصل الحكاية ) ، أليست هذه المسائل ظنية وليست قطعية ،
وأليس القائلون بها من أهل الاجتهاد؟ وأليست أقوالهم كلها في منزلة واحدة من حيث انتفاء
القطع بصحتها؟
وهنا
كلام للإمام القرافي المالكي في نفائس
الأصول يساعدنا على مزيد فهم : قال : وقد نزل الله ظنون المجتهدين – وكلها طرق إلى
الله وأسباب السعادة الأبدية – منزلة أحوال المكلفين من الاضطرار والاختيار ،
فيكون الفعل الواحد حراما حلالا بالنسبة إلى شخصين ، كما تكون الميتة حراما حلالا
بالنسبة إلى شخصين : المختار والمضطر. اهـ.
فأقوال
المجتهدين كلها طرق إلى الله وأسباب للسعادة الأبدية ، فهواك هنا هوى لما يوصلك
إلى الله ، ولما يكون سببا إلى سعادتك الأبدية ، وكيف يكون اختيار الأسهل إثما ،
وأنت تختار بين طرق توصلك إلى الله ؟
فإذا
استشعر القلب أن القول الأشد أقرب إلى الشرع
قال بعض العلماء يأخذ بما يميل إليه قلبه . وقال الإمام ابن الهمام الحنفي
في شرح فتح القدير: وعندي أنه لو أخذ بقول الذي لا
يميل إليه قلبه جاز لأن ميله وعدمه سواء ، والواجب عليه تقليد مجتهد وقد فعل أصاب
ذلك المجتهد أو أخطأ . اهـ.
وذهب
الإمام ابن الهمام أيضا إلى جواز أن يأخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد يكون قوله
أخف عليه: قال في التحرير : وأنا لا أدري ما يمنع هذا من العقل والسمع ، وكون
الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوّغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع
ذمه عليه .وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف على أمته . اهـ.
في
حمى المذهبية :
الكلام عن التيسير والأخذ بالأخف من
الأقوال لا يتعارض مع القول بالتمذهب وهو
أن يتبع الإنسان في الأصل مذهبا فقهيا معينا لأن من أجازوا الأخذ بما يراه الإنسان
سهلا عليه من أقوال العلماء اشترطوا لذلك أن لا يأخذ بقول أكثر من عالم في مسائل يتصل
بعضها ببعض بحيث تكون النتيجة تعود على أصل المسألة بالبطلان .
والتزام المسلم بمذهب معين في المسائل
المركبة يجنبه الوقوع في التعارض وهو ما سماه العلماء بالتلفيق. ولا بأس أن
ينتقل من مذهب إلى مذهب مادام ضابطا للمسائل التي ينتقل فيها.
جاء في حاشية إعانة الطالبين من كتب
الشافعية: " قال ابن الجمّال: اعلم أن الأصح من كلام المتأخرين كالشيخ ابن
حجر وغيره أنه يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب من المذاهب المدوّنة ولو بمجرد
التشهي سواء انتقل دواما أو في بعض الحادثة وإن أفتى أو حكم وعمل بخلافه ما لم
يلزم منه التلفيق ." .
المذهبية
حفظت لنا العلم بصورة منضبطة ومقننة عبر حركة علمية حية وثرية ومتقدة بالنقاش الحر
ولذلك نجد في المذهب الواحد أقوالا متعددة
نعلم قيودها وضوابطها وسياقاتها بما يجعل الاستفادة منها حاصلة على أسس قوية واضحة
.
ولذلك
فإن الأخذ بقول ما يكون في إطار منهجي غير مضطرب ما دمنا درسنا قواعد المنهج ،
وعرفنا ترجمة علمائه وأهليتهم للنظر والاجتهاد.
بل
تعبدا وطاعة :
الشريعة جاءت لتحقيق مصالح الناس، ورفع الحرج
عنهم، والاستجابة لضروراتهم الإنسانية، فما جاءت الشريعة بإيجابه أو تحريمه قطعا،
بحيث حصل إجماع العلماء على أن هذه المسائل هي محكمات الشريعة ، فنحن نعلم أن
المصلحة متحققة بها علمناها أو جهلناها ويبقى تنزيل هذه المحكمات على واقع الناس
محل نظر واجتهاد في تحقق شروط تلك الأحكام ،وانتفاء موانعها، وعدم وجود ضرورة أو
حاجة تنزل منزلة الضرورة تدعو إلى اعتبارها.
أما عدا المحكمات القطعية فالخلاف فيها معتد
به إذا صدر الاجتهاد ممن هم أهل له، وكلها طرق إلى الله وأسباب للسعادة الأبدية
كما نقلت عن الإمام القرافي .
وهذا الفهم المحرّر لقضية القطع والظن وصلتها
بحياة المسلم ، هي السبيل لأن تكون علاقة المسلم مع نفسه علاقة متوازنة، لا حرج
فيها ، وهو في ذلك يعبد الله على بصيرة ،ويعبد الله وقلبه منشرح بخياراته الواسعة
في هذه الحياة، وهو متصالح مع نفسه ومع الحياة لا في حالة صراع وكمد مع استحضاره
أنه إنما يختار مما شرع الله له أن يختار منه من أقوال أهل الذكر الذي أمره الله
بسؤالهم ، فهو يختار من الحلال الطيب الذي أحله الله له ، ويختار منه ما يجعله
يقبل على حياته وهو في سعة وسلام ، وهل الدين إلا رحمة ويسر وسعة؟ وهل شرع حفظ
الضروريات والحاجيات والتحسينيات إلا لأجل رفع الحرج وتحقيق مصالح العباد لا
التضييق عليهم وإعناتهم .
حرر في : 19/10/2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق