تكون الحياة سخيّة دائما في اختطافنا من أماننا البليد كلما توقفنا عن محاولة فهم أعمق لأنفسنا. تتبدّى حينها لنا الأسئلة الوجودية من جديد.
وفي
رحلة الأسئلة الكبرى يجيء كتاب : " فن الحب" لإريك فروم ( 1900م-1980م) ليقدم
مقاربة عميقة، ومحاولة فيها أصالة للإجابة عن معضلة الوجود المتعلقة بأسئلة السكينة الداخلية التي تتبدّى لكثيرين كنعيم بعيد مناله.
نشر
الكتاب بالإنجليزية لأول مرة في عام 1965م . وأعادت نشره مترجما هذا العام ( 2023م ) دار صفحة سبعة للنشر، وترجمه بلغة واضحة
الأستاذ متيّم الضايع، والكتاب يحوي 158 صفحة من القطع المتوسط.
وللكتاب
ترجمتان سابقتان ، إحداهما نشرتها دار عودة عام 2000م، ترجمة الأستاذ مجاهد عبد
المنعم مجاهد . والترجمة الثانية نشرتها
دار علاء الدين عام 2010م، ترجمة
الدكتور سعيد الباكير .
الحب
كموقف وجودي
لم أفكر
يوما في حب النفس من الزاوية التي طرحها إريك فروم في هذا الكتاب، لا يفصل إريك
فروم حب النفس عن حب الله ، وعن حب الناس، وعن حب الفضيلة ، يرى أن الحب هو موقف
وجودي أولا ، هذا الاتساق المنهجي كان اكتشافا
معرفيا جديدا بالنسبة لي.
توجّه كتب علم النفس الذين يعانون
من" ظلمهم لأنفسهم " إلى معاملة
أنفسهم كصديق مقرّب، هذا سيساعدهم على الاعتدال، والاتصال المتزن بدواخلهم، لكن ما
طرحه إريك فروم في هذا الكتاب يعالج المسألة معالجة ترد الجزئي إلى الكلي، فأنت
تحب نفسك؛ لأن الحب هو موقفك الأصيل "الذي يحدد علاقتك مع العالم كله".
الحب عند إريك فروم لا يتجزأ ، هو
وحدة متسقة ، لا يستقيم عنده أن تحب الله وأنت
لا تحب نفسك، أو أن تحب نفسك وأنت تظلم الآخرين، أو تتحكم في حياتهم أو
خيارتهم، أو تقصّر في احترام كرامتهم، كل ذلك ليس حبّا وإن توهم صاحبه أنه كذلك .
ويقوم الحب عند إريك فروم على
أربعة معاني : المسؤولية، والمعرفة، والاحترام، والرعاية . وهذه المعاني يقاربها
المحب ولا يتحققها؛ فالحب محاولة فهم مستمرة . أعجبني تأكيد فروم مرّات على أن
فكرة تحققنا بفهمنا لذواتنا هي فكرة مراوغة، وأننا لا نلبث أن ندرك ذلك كلما ظننا
أننا وصلنا. فهمنا لأنفسنا رحلة مستمرة ، وكذلك فهمنا لمن نحب، وقناعتنا بذلك
تهبنا التواضع الضروري لتزدهر أرواحنا ، وتزدهر علاقتنا بمن نحب.
تعلّموا
تحت قناع الفضيلة ألا يحبوا الحياة
علاقة الوالدين
بالطفل أخذت نصيبا مهما من كلام إريك فروم عن الحب. قسم فروم الحب الوالدي إلى حب أمومي غير مشروط، وحب أبوي مشروط ، وجعل
هذين النمطين في علاقة الطفل بأبويه أصلا ما سواهما استثناء ، وهذا عندي غريب،
غريب عن منهجه في تأصيل معنى الحب، وغريب في جعله ذلك قاعدة أصيلة، وغريب في
استصحابه هذين النمطين في شرح علاقة المخلوق بالخالق العظيم سبحانه. ولعل الإشكال
عنده جاء من فكرة العقاب الإلهي وعدّها أساسا لفكرة الحب المشروط ، وهذا عندي
اضطراب في الفهم ، وقياس فاسد.
نبّه إريك فروم إلى مسائل تربوية
مهمة منها كلامه عن أن مسؤولية الأم تجاه طفلها تتجاوز الرعاية التي تهبه أمان
تلبية الضروريات الجسدية إلى الرعاية التي
تهبه حب الحياة ، أحببت عبارته: " يجعل ( الحب الأمومي) شعور الطفل كما يلي : من الجيّد أني ولدت ؛ إنه
يغرس في الطفل محبة الحياة، وليس فقط الرغبة في البقاء على قيد الحياة" .
كلامه هذا ذكرني بعهد تعاهدناه أنا وصديقة لي في تربيتنا لأطفالنا : أن نكون يقظين
إلى فكرة أن تكون تربيتنا لأطفالنا الأصل
فيها البهجة والاحترام لا النكد، وكلامي هذا تدرك تحدياته كل أم .
ومن الأفكار الدقيقة التي نبّه
إليها فروم أن الحب مظهره التوازن في
العلاقة بالمحبوب، وأن التطرّف في الاهتمام يلبس ثوب الحب زورا بينما هو في حقيقته
اختلال لا ينتمي للحب وإنما لاضطراب في النفس . تحدّث فروم عن الشخصية الإيثارية
التي لا تريد شيئا لنفسها، وتمارس دور " المخلّص" مع الآخرين بينما تهمل
حق نفسها . يقول فروم عن الشخصية "الإيثارية ": تشعر بالفخر لأنها لا تعد
نفسها مهمة إلا أنها تشعر بالحيرة عندما تجد
نفسها غير سعيدة على الرغم من عدم أنانيتها،
وأن علاقتها بالمقرّبين غير مرضية. ويظهر العمل التحليلي أن الإيثار المتطرّف هو
عرض لاضطراب نفسي ترافقه أعراض أخرى كالاكتئاب . هذه الشخصية محاصرة بالعجز عن
الاستمتاع بالحياة ، والعجز عن الحب ، وهذا يجعلها في حالة عداء مستترة نحو
الحياة، وخلف ستار الإيثار يتوارى تمحور خادع حول الذات لا يقل حدة ، ولا يمكن
للشخص "الإيثاري" أن يشفى إن لم
يدرك اضطرابه هذا." اهـ بتصرف.
الأم التي تتطرف في إيثار أولادها
على نفسها ، هي لا تؤذي نفسها فقط ولكنها تؤذي أولادها، وخلافا لما هو متوقع فإن
السلوك الإيثاري المتطرّف يحرم الأطفال رؤية نموذج سوي للتعامل مع النفس . الإيثار
المتطرّف لا يوصل للأطفال أنهم محبوبون بل يجعلهم في حالة قلق دائم من عدم استحسان
الأم وتخييب توقعاتها ، فهم يتعلمون تحت قناع الفضيلة ألا يحبو ا الحياة .
يقول إريك فروم : " لا شيء
يساعد على منح الطفل تجربة الحب والبهجة والسعادة أكثر من كونه محبوبا من أم تحب
نفسها " .
سطور إريك فروم هذه مستني كأم،
وأظن أن كثيرا من الأمهات سيتوقفن عندها، ذكّرت نفسي وأنا أقرأ كلام فروم أن حب الأم كسائر أنواع الحب هو محاولة تعلم
مستمرة عن أنفسنا، وعمّن نحبهم. وما نتعلّمه هو وسيلة لمحو ظلمة الجهل، لا لتلبّس
ظلمة قسوة إطلاق الأحكام على أنفسنا أو على الآخرين .
الحب ليس
غيابا للصراع
يرى إريك
فروم أن الحب هو اتحاد شخصين بما يمكّنهما من الشعور بالسكينة وتمام الألفة، وهو
في نفس الوقت يحققهما باستقلالهما المتعلق بطبيعتهما الخاصة ، فهو اتحاد يحفظ لكل
طرف ذاتيته ولا يلغيها. يؤكد فروم أن هذا المعنى يؤكد على فكرة أن الحب لا يغيب
معه الصراع، بل إن الصراع هو مظهر من مظاهر التحقق بالاستقلالية، وتعرّف كل طرف
على حدود الطرف الآخر، وبالمحافظة على الحدود تحفظ توازنات العلاقة. إن رفض فكرة
الصراع هو نوع من المزايدة، وهو يؤول إلى أحد أمرين، إما علاقة تراوغ الوحدة في
صورة المحافظة على الصلة السطحية التي لا عمق فيها بين الطرفين ، وإما علاقة
يتنازل فيها أحد الطرفين عن حقوقه رغبة للحفاظ على السلام في العلاقة فينتهي الأمر
إلى علاقة يشعر فيها الطرف الذي يتنازل دوما بالقلق وعدم الأمان، هذا في أدنى
الأحوال، إن لم تتحول العلاقة إلى علاقة استغلال نتيجة تمييع الحقوق.
الصراع المثمر عند إريك فروم هو
الصراع الذي يتجاوز الأمور السطحية التي يسجن الناس خلافاتهم فيها، وبالتالي
يصطدمون بأبواب مسدودة أينما ولّوا وجوههم، إلى محاولة فهم الأسباب الجذرية
للاختلاف. يقول فروم إن " هذه الصراعات ليست مدمرة وإنما تؤدي إلى التوضيح،
وتخلق متنفسا يخرج منه الاثنان بمزيد من المعرفة والقوة".
الجواب
الوحيد
يقول
إريك فروم في آخر سطور الكتاب : "
الحب هو الإجابة العاقلة المرضية الوحيدة لمعضلة الوجود البشري فإن أي مجتمع
يستبعد بشكل نسبي تطور الحب ، لا بد أن يهلك على المدى الطويل بسبب تناقضه مع
ضرورات الطبيعة البشرية الأساسية " .
هل كانت مقاربة أريك فروم في تحرير مفهوم الحب ، وأنواعه، وسبل ممارسته، كافية
؟ لا أجدها كذلك ، لكنها إضافة منهجية ثرية لا غنى عنها في علم نفس العلاقات.
* نشرت هذه المقالة في مجلة الجوبة / العدد 81 / ديسمبر 2023م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق