في
عام 2005م كتبت مقالا بعنوان : " فليتك تحلو والحياة لذيذة" ، وأعادتني
إليه بعض التغريدات في تويتر في اليوم
العالمي للسعادة الموافق للعشرين من شهر مارس ..
قرأت
المقالة بقلب غير القلب الذي كتبها قلب قد عاش معان جديدة لم يختبرها في تلك
الأيام، وقادته تلك المعاني إلى قراءات
جديدة ، بل وإلى فهم جديد لقراءاته
السابقة ، وكان مرور السنوات سببا لما أظنه فهما أعمق لنفسي وللناس والحياة .
تحدثت
في فبراير / 2005 عن كتاب دروثي طومسون :
" شجاعة السعادة " ، وأن السعادة جوهرها الرضا والتسامح ، وطفت في آفاق
هذين المعنيين في مقالتين أجدني اليوم لا أتفق مع بعض ما ورد فيهما.
حدودنا
النفسية :
ما أظنه -بعد مرور ستة عشر عاما
على مقالتي عن السعادة -هو أن جوهر السعادة هو علاقة واعية مع النفس، وعلاقة واعية
مع الناس، وعلاقة واعية مع الحياة .
الوعي بطبيعتنا، واكتشاف حدودنا
الخاصة ، ومعاملتها باحترام . وحدودنا الخاصة تشكلها عواطفنا وقيمنا معا، وهي قد لا تتشابه مع حدود غيرنا، بل قد توصف
بالغرابة .
يقول
د. محمد طه في كتابه : " الخروج عن النص" أن علينا أن نتعلم كيف نحمي هذه الحدود النفسية كما نحمي حدود
أجسادنا، وحدود أوطاننا، ونذود عنها كل متحرّش، أو فضولي ، أو مقتحم .
الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين
تحدث عن أن الشرع يوجب علينا احترام خصوصيات الآخرين ، وأن إحراج الآخرين بالسؤال
عن خصوصياتهم مما يوقع الإنسان في الإثم ، وكتب كلاما نفيسا في بيان حديث النبي
صلى الله عليه وسلم : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " . الأمر إذن أوسع من مجرد تحريم التجسس، وتتبع
عثرات الآخرين ، الأمر يشمل تحريم اقتحام
الحدود النفسية التي اختار الآخرون أن تحوط عالمهم الداخلي .
الطريق إلى هذا الوعي بالحدود
النفسية يبدأ من أن نعطي أنفسنا حقها من الرفقة، والخلوة ، فنتحدث إليها ، ونحاول
أن نفهم مشاعرها ، ونتأمل تلك المشاعر، ونناقشها بعمق ، لنميز الأصيل منها ،
ونتعامل معه بعد ذلك بما يليق به من احترام ، وتقدير .
أنا
هنا أتحدث عن المشاعر التي لا تتصل بإرادة شر أو أذى ولا تصم صاحبها بخسة ولا قلة مروءة بل بتلك المشاعر التي
تشكل طباعنا الخاصة التي نتميز بها عن غيرنا كما نتميز بأشكالنا الخارجية ، فحدودنا
النفسية هي : " المظهر الخاص
لكرامتنا ".
تقول مارثيلا سيرانو في رواية
:" عشر نساء" : " ...فقيمة البشر هي في قدرتهم على الانفصال، على
أن يكونوا مستقلين، أن ينتموا إلى أنفسهم وليس إلى القطيع " .
كلنا سيأتي الله يوم القيامة فردا،
وإن لم نحترم فرديتنا ، فإننا لن نستطيع بناء علاقة عادلة وصحية مع أنفسنا ومع الآخرين
.
سلامنا النفسي يبدأ بوعينا
بحدودنا النفسية، وحمايتها ، وإكرامها ، وسيكون ذلك هو الأساس لمشاعر رضا وصفاء تغمرنا مهما قست ظروفنا .
ثنائية
العدل والفضل :
هكذا يتحدثون عن العدل والفضل ،
كأن كل مفهوم منهما مستقل عن الآخر، و ليس الأمر كذلك، بل إن شيوع الفضل بين الناس أساسه أن يتحققوا
بفضيلة العدل، والعدل فضيلة واجبة، إهمال الاحتفاء بها في العلاقات الفردية أدى
إلى التقليل من شأنها تقليلا جعل مفهوم الفضل مطية لاستغلال أصحاب النفوس المريضة .
فصار من يطالب بحقه ممن ظلمه يوصم بسواد القلب، ومحبة الانتقام ، في خلط لا مروءة
فيه ولا إنصاف .
النفس السوية تأنف من أن تكون
محلا للظلم، والهمة الأبية لا ترضى مذلة البغي، والعفو و الغفران إنما يحسنان إذا
كانا سبيلا لصلاح العلاقات بوضع الأمور مواضعها لا إلى تكريس الاعتداء والأذى .
وجوهر السعادة في علاقتنا
بالآخرين هو أن يكون مقصدها أن يعم العدل، ويكون الفضل، والتسامح ، والغفران،
سبيلا إلى تحقيق هذه الغاية.
وطريق هذه الغاية لا ينبغي أن يمس الحدود
النفسية الخاصة، لأنه حينئذ سيمس جزءا عميقا من كرامتنا .
والتسامح لا يلزم منه أن تظل
جسورك ممتدة مع من آذاك، وكان فعله السيء ممنهجا أو أصيلا في الأذى لا زلة عابرة ، لأن الاستمرار معه قد يفسد ولا يصلح ، يكفي أن
يصفو قلبك فتدرك ضعفه الإنساني وظروفه القاسية التي قادته إلى السوء والشر لكن ذلك
لا يجعلك تغفل عن أنه مسؤول عما اقترفه من أذى وأن الخير قد يكون في أن ينال جزاء
أفعاله ولو جفوة ممن آذاهم .
رحلة المعنى:
يحدثنا فيلم (Saul
) عن
أن السعادة ليست أمرا بعيد المنال يرتبط بالأهداف الكبرى التي نسعى إلى تحقيقها ،
وأن غفلتنا عن هذا المعنى سيفاجئنا بأننا لن نحصّل إلا الخواء وإن حصلنا تلك
الأهداف . السعادة في رؤية الفيلم هي في الاحتفاء بكل المعاني الطيبة، والتفاصيل
الجميلة التي تحيط بها، وهذا الاحتفاء سيجعل رحلتنا في هذه الحياة غنية بمشاعر
الألفة والمودة والامتنان.
يتحدث الدكتور محمد طه في كتابه:
" علاقات خطرة " عن أن العلاقات الطيبة هي التي تساعدنا على الشفاء من
جراح علاقات آذتنا، وأن الأذى الذي تحدثه علاقة تشفيه علاقة. تجاربك الإنسانية القاسية
قد يمسح أثر قسوتها علاقة قرابة أو صداقة فيها حب وتقدير وأمان.
وهكذا
فإننا إن وفقنا لعلاقات طيبة مع مقربين يحبوننا بصدق، ويقبلوننا دون شروط، ودون أن
يحاكمونا أو يحكموا علينا، ويحترمون أحاسيسنا وتقديرنا لحاجاتنا وأولوياتنا، ويكرموننا
بوقتهم ودعمهم، ونحن لهم مثل ذلك، فإننا نصبح أقوى في مواجهة صعوبات الحياة، بل إن
هذه الصعوبات لن تنال من إحساسنا بنعمة الحياة .
إن
وجد هؤلاء الأشخاص في حياتك فاستعن بهم ليساعدوك على مراجعة ما شوهته فيك علاقة
آذتك، فهم أولى بثقتك، وهم نعمة عظمى تستحق الشكر لله الكريم اللطيف الخبير.
الوعي
بهذه المعاني المتعلقة بعلاقتنا مع أنفسنا ومع الناس ومع الحياة هو أساس لمعاني السعادة،
والسكينة، والرضا ، والقرب من الله على بصيرة وهدى .
حرر في : 20/ 3/ 2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق