الاثنين، 21 نوفمبر 2011

بين يدي الثبات والتغير: الحكم الفقهي القطعي .

الحكم الفقهي القطعي:

1. هو الحكم الذي دل عليه دليل قطعي من حيث نسبته إلى مصدره ومن حيث دلالته .

2. مثاله : تحريم أكل الميتة المستفاد من قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة ) . هذا حكم فقهي قطعي لأن دليله نسبته إلى مصدره قطعية أي ثابتة لا يتطرق إليها الاحتمال ، كما أن المعنى الذي يدل عليه الدليل هو معنى واحد ثابت لا يقبل الاحتمال وهو تحريم أكل الميتة.

3. الثبات المرتبط بالحكم الفقهي القطعي هو ثبات من زاوية معينة وهي زاوية تقرير الحكم كقانون أو كقاعدة ، فتحريم أكل الميتة هذا قانون شرعي ثابت . لكن الحكم الفقهي القطعي لا يكون ثابتا من زاوية أخرى وهي زاوية ارتباطه بواقع الإنسان المتغير بمعنى أن الحكم القطعي شرعه الله لفائدة الإنسان ، وبالتالي فإن الحكم الفقهي القطعي لا يتعالى على ضرورات الإنسان لكنه يستوعبها فهو يظل ثابتا ما دام مرتبطا بالأحوال الاعتيادية فإذا جاءت أحوال استثنائية مهما كانت هذه الأحوال فردية أو عامة ، في مدى زمني قصير أو طويل فإن الحكم الفقهي القطعي يعترف بها ولا يتجاهلها ويفسح لها الطريق رافعا الشقاء عن حياة الإنسان .

4. يجب أيضا أن نتنبه إلى أن الحكم الفقهي القطعي من زاوية قطعيته وثباته ينتمي إلى مظلة كبرى إن صح التعبير وهي مظلة القواعد الكلية التي تشكل مقاصد الشريعة فيصح أن نقول أن تحريم أكل الميتة مقصد كما أن مراعاة الضرورات مقصد . وحيث إن الشريعة لا تضاد فيها فإنه لا بد أن نوائم بين المقاصد القطعية ولا نقع في ضرب المحكمات بعضها ببعض ومن ثم إذا كان تحريم الميتة يتعارض مع ضرورة الحياة فتقدّم ضرورة الحياة في هذه الصورة ، ويحل أكل الميتة استثناء مراعاة لقاعدة قطعية أخرى وهي مراعاة الضرورات.

5. وبعبارة جامعة نقول إن الحكم الفقهي القطعي ثابت لا يتغير بتغير الزمان بل باختلاف الصورة الحادثة . هذا تعبير مقتبس من كلام الإمام الزركشي في البحر المحيط . ويمكن أن نعبّر بتعبير آخر اقتبسته من كلام الإمام الشاطبي وهو أن الحكم الفقهي القطعي ثابت من حيث الاقتضاء الأصلي للدليل وهو الاقتضاء المجرد عن العوارض التي ترتبط بالواقع إذ أن التنزيل على الواقع يجب أن يوازن بين الأحكام الفقهية القطعية -التي تنتمي إلى القواعد القطعية الكلية – وبين بقية القواعد القطعية الكلية مثل : لا ضرر ولا ضرار، والضرورات تبيح المحظورات، والأعمال بمقاصدها بما يحقق المصالح المعتبرة شرعا.

6. الأحكام الفقهية شرعها الله لتحقيق مصالح العباد . ومصالح العباد قد تكون مصالح ضرورية لا استقامة لحياتهم بدونها وقد تكون مصالح حاجية لو لم تراعى لوقعوا في حرج شديد وقد تكون مصالح تحسينية مراعاتها تجعل الحياة مكتملة الاستقرار .

7. الأحكام الفقهية القطعية قد تكون ضرورية كما في تحريم قتل النفس ، أو قد تكون حاجية كما في تشريع حد القذف ، أو قد تكون تحسينية كما في وجوب ستر العورة .

8. هذا التقسيم فيما أفهم يفيدنا في ترتيب الأولويات المرتبطة بالأحكام الفقهية القطعية في الواقع الحياتي . كما أنه يرتبط بقضية وزن الذنب فالإخلال بالتحسيني ليس في رتبة الإخلال بالضروري.

9. لكن هذا التقسيم ليس محله الموازنة بين المصالح الطارئة والأحكام الفقهية القطعية . ففي هذه الحالة نحن نتعامل مع الرؤية الكلية التي قررها الدين لصلاح حياة العباد وحينها ترتقي الأحكام الفقهية الحاجية والتحسينية لتصبح ضرورية والمصالح الطارئة عليها إن لم تكن في رتبتها فلا يصح اعتبارها .

10. من المهم التأكيد عليه أن تقدير الضرورات هو أمر اجتهادي يختلف باختلاف نظرة المجتهد كما أنه عملية تفاعلية يشترك فيها المجتهد والفرد أو المجتمع بمؤسساته المختلفة .

11. الضرورات قد تكون كذلك باعتبار مآلاتها . فقد يكون الأمر ضروريا باعتبار تراكمي ومن ثم فهذه الضرورة المآلية ترقى إلى الموازنة بينها وبين الحكم الفقهي القطعي.

12. إذا كانت الضرورة مرتبطة بالمجتمع فيتغير الحكم الفقهي القطعي في حق ذلك المجتمع -وهو تغير باعتبار الاقتضاء التبعي للدليل لا الاقتضاء الأصلي للدليل- ولا اعتبار للأحوال الفردية وكذلك لا اعتبار لطول الزمان وإنما العبرة بانقضاء الضرورة . تراجع هذه المسألة في كتاب الغياثي للإمام الجويني، و كتاب القواعد الكبرى للإمام العز بن عبد السلام، وكتاب صناعة الفتوى وفقه الأقليات للعلّامة عبد الله بن بيه.

هناك تعليقان (2):

  1. إذا كنت قد فهمت مرادك فأظن أن ما ترمين إليه هو ما يسميه سيدي العلامة بن بية (تحقيق المناط)، كلمة جامعة لما شرحتيه في مقالك ...
    جزك الله خيرا

    ردحذف
  2. نعم هو كذلك قال الإمام الشاطبي : هو أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي ولكن يبقى النظر في تعيين محله .

    ردحذف