نشرت مقالة ( معادلات الفقر والغنى ) في جريدة الوطن السعودية في يوم الخميس 12/ 4/ 2007م، للكاتب السعودي محمد حسن علوان ، وقد أضافت إلي عمقا وفهما إنسانيا.وهذا رابطها :
http://www.alwatan.com.sa/news/writerdetail.asp?issueno=2386&id=70&Rname=27
"قبل سنتين تقريباً، نشرت مجلة الإيكونمست قصة (الرجل الجبلي والجراح) التي أثارت الكثير من الأسئلة الحيوية آنذاك حول نسبية الفقر والغنى. القصة ليست إلا مقارنة واقعية بين رجلين، الأول أمريكي في الستين من عمره، يسكن في مقطورة شحن على سفح جبال ألاباتشين في ولاية كنتاكي الأمريكية، عاطل عن العمل، ويعتاش على مبلغ 521 دولاراً تصرفه الحكومة شهرياً لكبار السن كنوع من الإعانة الاجتماعية، ولا يوجد لديه أي مصدر دخل آخر. وفي الجهة الأخرى من العالم، يقيم الرجل الثاني، وهو جرّاح متخصص، ومشهور، ويرأس قسم الطوارئ في مستشفى حكومي في كانشاسا، عاصمة الكونغو، ورغم خبرته الجراحية التي تجاوزت الثمانية والعشرين عاماً، فهو يتقاضى مرتباً شهرياً يساوي 250 دولاراً فقط، يرفده ببضع مئات أخرى من العمل الإضافي، ولا أكثر!
بقية القصة تتناول الحياة اليومية للرجلين، في محاولة للإحاطة بكل الظروف التي يعيشها كل منهما، واستنطاق مستوى التذمر المحتمل حول وضعيهما. كل هذه الأسئلة، حسب محرر المقال، تهدف إلى معرفة أيهما أفضل: أن تعيش فقيراً في بلد غني، أو غنياً في بلد فقير، فكما قد يتراءى لوهلة أن الثانية توفر حياة أفضل بالطبع بسبب رخص تكاليف المعيشة، إلا أن اعتبارات أخرى يجب أن تؤخذ في الاعتبار، اجتماعية وسياسية، فالجراح الكونغوي يعول 12 فرداً من الأسرة، وهو حامل الخبز الوحيد لهم، بينما لا يعول الجبلي الأمريكي إلا نفسه. كما أن الكونغو بلد متقلب سياسياً، ويعاني من حرب أهلية بين الميليشيات المتناحرة على مناجم الماس والذهب، وبالتالي فإن التخطيط المالي لدى الدكتور الكونغوي يعتبر عملاً شاقاً، فالراتب الذي يتقاضاه اليوم، قد لا يتقاضاه غداً، في بلد يتغير فيه السياسيون كل يوم، حسب المزاج الانقلابي للجيش، بينما سيظل الجبلي الأمريكي مستيقناً أن شيكه الشهري يصله في موعده المحدد، لا ينقص سنتاً واحداً، وحتى لو عانى الاقتصاد من حالة تضخم ما، فسيتم أخذ ذلك في الاعتبار. باختصار، هناك الآلاف ممن يقتصر عملهم اليومي على الاهتمام (بالفقراء) في أمريكا، بينما حتى (الأغنياء) في الكونغو لا يستطيعون ضمان وصول الخدمات الأساسية لبيوتهم، كالماء والكهرباء، فأسرة الجراح الكونغوي تجلب الماء في الجرار من البئر، وتستمتع بالكهرباء مرتين في الأسبوع فقط، ولا يحلمون باقتناء جهاز تكييف صغير في بلد إفريقي حار، بينما يقتني ثلاثة أرباع "الفقراء" في أمريكا أجهزة تكييف في بيوتهم!
وبما أن الأمر يتعلق بالسعادة والرضا الذاتيين، فكيف ترى الجراح الكونغوي يشعر وهو يتقاضى 250 دولاراً في الشهر، يحسده عليها 99% من بقية الشعب الكونغوي ممن يضطرون للأكل مما يزرعونه حول بيوتهم فقط. أتراه يشعر بأنه محظوظ وسعيد؟ ولكن ماذا لو خطر بباله أن يتصور فقط ما يتقاضاه الجراحون في دول أخرى؟ كم يبدو راتبه مضحكاً عندما يقارنه بهم، رغم أنه يحمل نفس المؤهلات والمهارات، بل ربما فاقهم في عدد العمليات الجراحية التي يجريها في بلد مبتلى بالحروب، والفرق الوحيد أنه موجود في مكان ما، وهم في أماكن أخرى! هذا الجراح، وهو الغني نسبياً في بلده، يوفر لأسرته وجبة لحم مرتين في الشهر، ويعد ذلك ترفاً كبيراً، بينما يتناول الفقير الأمريكي ضعف ما يوصي به الأطباء من البروتين، حيث إن الطبقة الفقيرة في أمريكا، هي الأكثر سمنة بين بقية الطبقات الأخرى!
في أوروبا، تستخدم أغلب الدول معايير نسبية لقياس الفقر متعلقة بمعدل دخل الفرد، فالأسرة الفقيرة هي التي يقل دخلها عن نصف معدل دخل الفرد، وهذا مقياس مضلل أحياناً، إذ إنه عندما تزداد الدولة ثراءً، يزداد بذلك عدد الفقراء، ولذلك يستخدم الأمريكيون مقياساً مختلفاً، إذ يقومون بحساب تكلفة الطعام الكافي للأسرة، ومضاعفته ثلاث مرات، واعتباره خطاً للفقر. وتتم مراعاة التضخم السنوي بالطبع، ورغم هذا المقياس الذي يبدو واقعياً ومنطقياً، إلا أن عدد الفقراء ارتفع في السنوات الثلاثين الأخيرة بنسبة 10% تقريباً، ويبرر الباحثون هذه الزيادة في عدد الفقراء بكونها زيادة كمية، وليست نوعية. فعدد الفقراء يزداد بالطبع، والفقراء يظلون فقراء، ولكن حالة الفقراء نفسها تتحسن، ويحصلون على ميزات أكثر، وتزداد معدلات أعمارهم، ويسكنون في بيوت، وبعضهم يملك سيارات، ولديه أدوات منزلية مرفهة.
معادلات الفقر والغنى صارت أكثر تعقيداً بازدياد تعقيد النظم الاقتصادية، كيف يمكن تعريف الفقير؟ وكيف يختلف هذا التعريف، بل يتباين تبايناً هائلاً أحياناً، بين دولة وأخرى؟ ففي حين أن الفقراء في الكونغو يشتكون من ارتفاع أسعار الخبز، يتذمر الفقراء في أمريكا من ارتفاع أسعار التأمين على سياراتهم! وكلهم (فقراء!)، وهذا يجعل من المؤكد أن الحياة فقيراً في بلد غني، أفضل بكثير من الحياة غنياً في بلد فقير، على الأقل فإن شبحي الجوع والمرض غائبان عن قائمة مخاوف الفقراء في أمريكا تماماً، بينما يظلان الكابوسين اليوميين لفقراء الكونغو. هذا ما يقوله المقياس الاقتصادي بالطبع، ولكن ماذا يقول المقياس السوسيولوجي هنا؟
إن الفقر في أمريكا يظل وصمة اجتماعية معيبة، والحياة التي يعيشها الجبلي الأمريكي في القصة أول المقال ليست سعيدة جداً، رغم توفر حاجاته الأساسية مجاناً، لأنه موصوم بالفشل في كل الأحوال، ومن أغلب فئات مجتمعه، وهذا عامل مؤثر جداً في سعادته النسبية. بينما الفقير في الكونغو لا يشعر بأي عار وهو يعيش في كوخ من القش، لأن جميع من حوله يعيشون في أكواخ شبيهة، وهذه منطقة أمان اجتماعية تضع بعض الحواجز أمام حضور التعاسة، بينما تحوم هذه التعاسة فوق رأس الفقير الأمريكي بمجرد خروجه في نزهة قصيرة وسط المدينة، ليرى بنفسه كل ما هو محروم منه.
إن الأميال، والمقاييس الطولية الأخرى، هي وحدها التي صارت تقرر كيف يعيش البشر في النقطة (أ)، وكيف يعيش البشر في النقطة (ب)، رغم أنهم جميعاً بشر، ورغم أن النقطتين كلتيهما على سطح كوكب واحد!، كم هذا غريب ومنفر. ولكن الشواهد صارت من الكثرة بحيث تعودنا عليها، فلم تعد كما هي في الأصل، غريبة ومنفرة، ولعل هذه الدراسة الأمريكية الإفريقية لا تختلف نتائجها كثيراً لو أنها تناولت واحدة من دول الخليج في الطرف الغني، عندما يتقاضى الجندي في السعودية أكثر مما يتقاضاه اللواء في بعض الدول العربية الأخرى، وفي كوبا، تأكل الحرة بثدييها وبقية جسدها حفنة دولارات ينفقها طفل أوروبي في مطعم المدرسة، وعلى الحدود الأمريكية المكسيكية في كاليفورنيا يمكنك أن تتناول العشاء على الجانب الأمريكي، ثم تتجاوز الحدود إلى المكسيك لتعيش شهراً كاملاً، تتناول فيه ثلاثين عشاء، بنفس المبلغ الذي دفعته للعشاء الأمريكي ذاك. يعيش العالم هذه التناقضات الاقتصادية الهائلة بشكل يومي، ثم يتساءل عن أسباب انتشار الجريمة المنظمة، وتجارة البشر، والرق الجنسي، وكثرة الميليشيات العسكرية في الدول الفقيرة، وتهريب المخدرات في الأحشاء، وكيف يتعلق شابٌ بنغالي بعجلات طائرة متجهة إلى السعودية، ليصل إليها جثة زرقاء متجمدة!
ردحذفاللهم لك الحمد على ما نحن عليه من نعم كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك
رغم اني اعيش في الولايات المتحدة الامريكية لكني ادرك تماما عظمة بلاد الاسلام
تحياتي لك من ماناساس البلد