الخميس، 5 يونيو 2025

ألمس حسّا تغيّري - عن عامي الواحد والخمسين

 

راجعت طبيب العيون اليوم. أحترم الطبيب الذي ينصت، وطبيبي اليوم كان منصتا، ومتفهما، وتعامل مع ملاحظاتي باحترام.

"أول الفأل الحسن"، هكذا حدّثت نفسي بعد خروجي من العيادة. مشيت إلى الصيدلية القريبة لكني لم أجد بغيتي، واتجهت مشيا إلى صيدلية أبعد قليلا. كان الجو مناسبا، وهذا فأل حسن آخر.

هذه أول مرة أتعرّف فيها على ممشى شارع فلسطين أمام مركز الجمجوم، الجو حلو، كانت الساعة السادسة عصرا، ولأن ذاكرتي المكانية انتقائية، فقد فوجئت أن النافورة قريبة.

أكملت طريقي نحو البحر، لم أجلس أمام البحر وحدي هذه الجلسة الهادئة منذ وقت طويل. الشاطئ مزدحم لكنه ذلك الازدحام الذي غايته فقط أن يشعرك بالألفة دون أن يزعجك أو يكدّر مزاجك. الشمس حاضرة وتألف نظارة الشمس دون نكد. عبرت بجعة أو طائر يشبهها طويل المنقار، أبيض الجسم، وحيدا، وقريبا من الشاطئ، سبّحتُ الله، وقلت: وهذا فأل حسن ثالث. كنت صائمة، ولا أشعر إلا بتعب خفيف، كأني أخرت قليلا موعد الغداء فحسب.

كان للمكان سطوته، أشعر أن السماء والشمس والبحر، ومقعدي الحجري، كل ذلك كأنهار جارية تروي قلبي الجديد.

لم يعد قلبي هو قلبي، قرأت منذ قليل لستيفان زفايغ عن أن نيتشه كان يختبر أنواعا من الشعور بالوحدة، أسرتني عبارة ستيفان، وأراها تحتاج إلى فهم عميق يفكك التباسها، لكن لعل ستيفان يقصد معنى قريبا من المعنى الذي أحس به، أحس أن الله بدّل قلبي بقلب جديد، أو لعل الأصوب أن أقول غسل الله قلبي من معان، وأحلّ مكانها معان جديدة، أرجو أن تكون أقرب إلى ما يحبّه للإنسان. قبل أيام كنت أفكّر أني أحب ما وفقني الله إليه من معان، لكن اعتراني خوف من الحرمان منها، من أن أفقد ثباتي الوليد، ثم تذكّرت قوله تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا"، هذا وعد من الله بالهداية، فقط لا تحرم نفسك فضيلة التواضع، والمثابرة، والتعلّم، والمحاولة لكيلا تُحرم نور الهداية. قديما كنت أقرأ هذه الآية وأفهم المجاهدة على أنها الثبات على حال واحدة ظاهرا وإن شعر أحدنا بصعوبة ذلك، لا أدري كيف غاب عني أن المجاهدة تعني المحاولة المستمرة، يحصل معها الخطأ والفتور والارتباك والتشوش، لكن يستمر الإنسان رغم ذلك في محاولة أن يكون إنسانا "صالحا". وقد قال الصالحون:" سيروا إلى الله عُرجا ومكاسير.

حلّت الساعة السابعة، ركبت سيارة أجرة إلى مطعم شامي صغير في الممشى، فطرت تبّولة لذيذة، نسيت أن أحضر تمرا معي، ونويت السنّة ببدء الإفطار بالماء حيث لا تمر.

في عيادة العيون، أرشدتني الممرضة إلى كافيه قريب قالت إنه ممتاز، توجهت إليه بعد الإفطار ولم يخيب ظني، فتحت اللاب توب لأكتب كعادتي في يوم ميلادي كل عام، تزدحم المعاني بداخلي، كأني ألمس حسّا تغيّري، وألمس حسّا ثمرة مشوار خمس سنوات من التعلّم الواعي عن نفسي. أول تغيّر أحسّه هو أني صرت غير متعجّلة، لا أتعجّل المعاني، ولا أتعجّل الفهم، ولا أتعجّل التغيير، ولا أتعجّل الكتابة، أراقب بصبر قلبي، وآمنة، وعلاقاتي، وما سيفتح الله لي به.

من معاني العافية هو أن تتعلم كيف تتعامل مع مشاعر الفقد، الوحدة، والشوق، والنقصان، شعور بالقبول يسكن قلبك، ثم تتخير لنفسك في كل وهدة شعور طريقة مختلفة للتصالح معها ثم تجاوزها. ولعل هذا ما قصده ستيفان زفايغ عندما تحدث عن المعاني المختلفة للوحدة، شعورنا بالوحدة يختلف وقعه كلما طال اختبارنا لوارداته.

فهمي للدين يتخذ مسارا أكثر سعة، أجول في قراءاتي يمينا ويسارا، فلا أزداد إلا يقينا وإحساسا بالاحترام والرحمة لكل الاختلاف الذي أنتجه العقل البشري. قال لي طالب علم مرّة: أنت تقرئين روايات، فكيف يكون معينك صافيا في الفهم الفقهي، قالها باستنكار فيه غضب هذبه صوته الهادئ، قلت له: لأني أقرأ روايات فهذا يجعلني أقرب لروح التشريع. ولهذا حديث آخر.  

لم أشعر يوما بمثل شعوري هذه الأيام، بداخلي فضول معرفي حيال قلبي وما تعلّمه إياه الأيام، هذا الشعور العميق بالتغيّر عجيب بالنسبة لي، عجيب من زاوية معرفيّة قبل كل شيء.

تصالحت مع جسدي، تعلّمت منه أنه لا يحب " الغلوتين"، عدّلت كثيرا في نظامي الغذائي بلا تعنّت. لا ينفصل إصلاح العلاقة بالجسد عن إصلاح العلاقة بالقلب، يتعاضدان ويكرم أحدهما الآخر.

أحب أني في العام الحادي والخمسين من عمري، وأحب ما أنا عليه، وأحب أن الله لم يزل يكرمني بشهود نعمته وفضله، ومحبّة أن أتعلم أكثر، وأن أجتهد في أن أكون إنسانة أفضل.

 

 

 

 

 

 

الثلاثاء، 27 مايو 2025

عن رواية فلوليتا

 

 هذه أول رواية أقرؤها لإيزابيل الليندي، أتممتها الليلة، لقد كافأت نفسي ذات مرة قبل سنوات بشراء ثلاثيتها (ابنة الحظ، وصورة عتيقة، وبيت الأرواح) لأن العزيزة علياء المحضار أوصت بها، لكني لم أصبر على قراءة ابنة الحظ، لم أكن مستعدة لها ربما..

 

هذه المرة قرأت فلوليتا بعد أن قرأت مذكرات إيزابيل الليندي: (حصيلة الأيام ثم نساء روحي)، بت أثق في النضج الإنساني لإيزابيل رغم تطرفها النسوي، ولا بد لي أن أشير إلى هذا الاختلاف لأنه جذري جدا.

 

فلوليتا، رواية " عائلية " بامتياز، ليست هناك حالة عدائية ضد الرجل، ونجحت فيها إيزابيل في تقديم معاناة النساء دون مزايدة على أهمية وحضور دور الرجل، وتكافؤ حاجة الجنسين إلى بعضهما. لكنها حاجة لا تحرم أحدهما من القدرة على الاستغناء إذا ما اضطر إلى ذلك لظلم أو حرمان أو فقد.

 

الرواية فيها سرد مهم لمعاناة النساء، وما أعجبني أن إيزابيل تكتب بروح الأم المسؤولة، ربما         لا يعجب كثيرون بهذا الوصف، لكن هذا ما وصلني، فهي لا تكتفي بوصف الضعف البشري، ودهاليزه المظلمة، لكنها ترسم طريق النجاة المحتمل، ولو اقتصرت على وصف المعاناة لكان ذلك نبيلا وملهما، لكنها لا ترضى إلا بأن تكون مسؤولة، تكتب بوعي ومسؤولية واقتدار سردي.

 

لم ينل كل المجرمين في الرواية عقابهم، لكنها لم تترك شخصيات مهمة في الرواية تفلت من بعض عقاب تستحقه.

 

ثم إن الرواية غنية بالرحمة والتعاطف والتواضع، تفاصيل مركّبة، أغنتها بهذه القيم بصدق غير متكلّف، تكتب بسموّ إنساني آسر لا ادعاء فيه، وخبرة مدهشة.

 

ممتنة جدا لإيزابيل على كل الأفكار المهمة التي عالجتها في الرواية، قيمة العائلة، وقيمة التعاضد المجتمعي، والتنبيه على أن المعنّفة أسريا قد تكون امرأة قوية وناجحة ومكتفية ماديّا لكنها وقعت في أسر العلاقة، لقد ركزت إيزابيل على هذه الفكرة، لقد أكدت على أن التعرض للعنف قد يكون ملتبسا ويحتجز المعنّفة في شعور الخزي والعجز، وأن مساعدة هؤلاء النساء تبدأ بعدم توجيه اللوم لهن.

وبدلا من مهاجمة ضعفهن، فإن الواجب هو المساعدة، والتعاطف الذي لا اتهام فيه ولا رسائل مبطنة تزايد عليهن وتجعلهن يشعرن بالخزي والضآلة.

 

كانت فلوليتا تنتمي إلى طبقة الأثرياء، لكن المال لم يفسد روحها، استوقفتني الحكمة في هذه السطور، وذلك عندما قررت مدّ يد المساعدة للنساء الفقيرات اللواتي ينتشر العنف في وسطهن الاجتماعي:

أمضيتُ سنواتٍ في العمل مع جمعيَّات النساء، وصرتُ أتحلَّى بشيءٍ من التواضع الذي يسمح لي بالبحث عن سبل المساعدة، بدلاً من مهاجمة الواقع كما سبق وفعلتُ في بادئ الأمر، فأولئك النسوة يملكن الخبرة، ويقدرن على تقديم الحلول، أمَّا دوري فيكمن في الإسهام بما يطلبن منّي

 

استخدمت إيزابيل في الرواية وصف (هجرت نفسها) لما شرحت ضلال ابنتها في أودية الهوى المردي، وتحدثت عن عدم صدق دعواها في المطالبة بالعدالة:

       

هجرَت نفسها لغواية الحرِّيَّة على غير هدى، ولحبّ اليوم الواحد، وللسُّكْر والخمول. اعتنقَت الجماليَّات المُستلهَمة من الهند، والمساواة، والزمالة، وإن لم تهمّها الفلسفةُ الشرقيَّة ولا المقاربات السياسيَّة والاجتماعيَّة التي تبنَّتها الحركة. احتجَّت على الحرب بدافع التسلية وتحدِّي الشرطة، مع أنَّها لم تعرف أين يقع ذلك المكان المدعو ڤيتنام.

 

في الرواية وقفات وجوديّة متأملة، سأختم بمثال منها: 

 

لعلَّني كنتُ مُجحِفةً إذ ألقيتُ باللائمة على خوليان في مصير ابنتي. لأنَّ كلّ امرئٍ مسؤولٌ عن حياته، في واقع الأمر. نُولَد ومعنا أوراقٍ مُحدَّدة، فنلعب بها لعبتنا. بعض الناس يحصل على أوراقٌ رديئة، فيخسر كلّ شيء. ولكنْ بعضهم يبرع في اللعب بالأوراق نفسها، فيربح. يُحدِّد ورقُ اللعب من نكون: العمر، والجنس، والعِرق، والأسرة، والجنسيَّة، إلى آخره. لا نملك تغيير الورق، ولا يسعنا إلاَّ استخدامه بأفضل ما يمكن. وفي تلك اللعبة عقباتٌ وفرص، استراتيجيَّاتٌ وحِيَل.

 

رواية غنيّة بالأحداث والتاريخ والحكمة والتعاطف والرحمة والأمل الرشيد، كل ذلك في نسيج محكم من الحكي الناضج.

بقي أن أقول إن الترجمة رائعة، شكرا مارك جمال، وشكرا لدار الآداب، وشكرا لأبجد.


الاثنين، 19 مايو 2025

"ميثاق النساء" وصوت زينب: الكرامة، قراءة من مكامن الوجع

 

لقد استأذنت زينب

لم أشعر أن نصّا أصابني في مكان وجعي كما فعلت رواية:" ميثاق النساء" لحنين الصايغ.  كتبت الرواية وجعي، ووجع نساء كثيرات عرفتهن، هو وجع وجودي قبل أي شيء آخر.

نتعلم نحن النساء من تجاربنا أن كل الأوجاع التي تتصل بالأذى والخذلان والحرمان أصلها وجع وجودي يتعلق بما تربينا عليه من أفكار عن حقوقنا وواجباتنا، بل يتعلق بتصوراتنا عن أنفسنا، مكامن قوتنا وضعفنا، رشدنا وقصورنا. القاسي في الأمر هو أن يكون هذا الوجع مصدره ما يُتصوّر أنه أوامر الله عز وجل وشرعه.

تقول أمل، بطلة الرواية، عن أبيها: " فقد كان حنونا قبل أن تصيبه حمّى الدين"، وهي تتحدّث هنا عن دين الدروز وفقا للتفسير الضال لها من قبل المشايخ كما تقول في موضع آخر من الرواية.

ذكّرني كلام أمل عن أبيها، ثم قصّتها مع زوجها ومعاشرته إيّاها دون مراعاة لحالة الاكتئاب القاسية التي كانت تتملكها، بحديث حدثتني إياه صديقتي زينب.

قالت زينب: لقد انتهك فهمي الخاطئ للدين علاقتي بجسدي، حين كنت أسمح لزوجي أن يعاشرني رغم معاملته المهينة لي. الأمر معقد يا صفية، لقد علمتني تجربتي القاسية مع زوجي مفهوما للكرامة لم أكن أدركه، كان غائبا في لجّة فهمي المشوّه لواجب طاعة الزوج.

استطردت زينب: لم تكن إهانته لي بكلمات صريحة، كانت تلك الإهانة المبطنة، والتقليل من الاحترام، في مواقف يومية متكررة، يسري كل ذلك كالسمّ الزعاف في هدوء وبلا ضجيج، كان يؤذيني، وكنت لا أعرف كيف أصف هذا الأذى، لا له فقط، بل لنفسي.

كنت أسكت مرغمة، وأدخل في دوّامة إنكار تتهم فهمي وحساسيتي المفرطة، وعندما كان يطلبني للمعاشرة، كنت ألبّيه تديّنا.

 كنت أظن يا صفيّة أنه مهما كانت مشاعري مجروحة فليس من حقي أن أمنعه جسدي، وأن هذا الامتناع يعدّ كبيرة. كنت على شفا الهاوية يا صفية، يوما بعد يوم كنت أشعر أنّي أقدم له جسدي ليغتصبه قهرا، كنت أشعر بأني أشارك في انتهاك نفسي، حتى حين كنت أنوي بهذه المعاشرة أن أعف نفسي.

 وفي خلوتي بربي، كنت أشكو له عجزي عن الاستمرار، وضياعي بين ما أؤمن به وما أعيشه من ضرر.

كان الأمر مركّبا، ابتزاز عاطفي مقيت، وتقلب في التعامل محروم من الصدق، وانتهاك دائم لجسدي باسم الدين. كان الوقت عصرا عندما قرأت ما كتبته يا صفية في تغريدتك المثبتة عن أن المعاشرة الجسدية إنما تجب في حال أن تكون العلاقة بين الزوجين علاقة كرامة لا إهانة، لم يكن هذا نص عبارتك قلتِ شيئا عن أن كل حق يقابله واجب[1]، لقد نوّرت كلماتك قلبي وأنقذت إيماني، أنا لا ألقي كلامي جزافا، كنت على شفير هاوية الكفر – والعياذ بالله –.

كانت هذه هي كلمات زينب، كما نقلتها لي، وأذنت لي في نقلها إليكم. رأيت فيها تجربة مركبة، تجسّد كيف يمكن للفهم الجافي للنصوص أن يصنع اغترابا وجوديا لدينا كنساء.

عندما قرأت رواية:" ميثاق النساء" تذكرت حديثنا أنا وزينب، وجدت أن الرواية تتقاطع تماما مع الوجع الوجودي الذي عصف بزينب، وأعلم أنه عصف بغيرها.

 

مكان النظر

عندما نتحدث كنساء مسلمات عن أن الحديث عن حقوق الزوج في بعض الخطابات الدينية المعاصرة ينتهك كرامة الزوجة، يُظن بنا السوء، وتكون تهمة الهوى وفساد الدين حاضرة، ولكأننا نتمرد على الدين لا على الظلم.

ولا حلّ لذلك إلا أن يحاول المنتسبون للعلم الشرعي من الرجال والنساء أيضا أن يفتحوا قلوبهم وعقولهم لسماع وجع التجربة.

 الأمر ليس صراعا، وإنما " إيمان"، نعم " إيمان"، التشريع مداره الرحمة، وغايته حياة طيبة لا حرج فيها، والكشف عن هذه المعاني في حياة الناس لا يكون متصلا بحالات الوئام والانسجام والتناغم، وإنما في تعقيدات العلاقات، في حالات المشاحّة لا المكارمة؛ لذلك فإني أرى أن الأمر لا يستقيم فقها إذا جُعل المرجع عند الخلاف هو الحد الأدنى الذي يشبه الضرورة التي تبقي الجسد المثخن على حافة الحياة.

النظر إلى فقه المرأة من هذا المكان، مكان الوجع الحقوقي لا البراح، أو بتعبير آخر، مكان يُتصور فيه الضرر تصورا مكتملًا لا مبتسرًا ولا ناقصًا، مكان تُحترم فيه تجربة النساء في الوجع؛ وذلك لإعادة النظر في حقوق المرأة في الفقه الإسلامي، وتحقيق مقاصد الشرع الضرورية والحاجية والتحسينية في فقه المرأة.

وجع النساء الذي تتحدث عنه رواية:" ميثاق النساء" يساعد في تصوّر الضرر المتصل بالأحكام الفقهية التي تسلّط الرجل على اختيارات المرأة، وتسلّط الزوج خاصة على كرامة المرأة المتصلة بحقها في التعليم والعمل والتنقل، وقبل ذلك حقها في أن يُحترم جسدها فلا يمس               إلا برضاها.

ناقشت الرواية موضوعات مهمة، أحسنت هناء جابر عرضها في مراجعتها للرواية، وأرى أن كل هذه الموضوعات تصب في حاجتنا إلى صياغة جديدة لمفهوم الكرامة الإنسانية وألا نفرّق بين كرامة المرأة وكرامة الرجل.

 

ورطة مشتركة

ما أعجبني في رواية:" ميثاق النساء" ووجدته منصفا وناضجا هو أن السياق الاجتماعي للعنف غير المرئي الذي يمارسه الأب والزوج كان حاضرا في وعي أمل وقلبها وتعاملها، لم تكن ناقمة على أبيها ولا على زوجها، كانت تنظر إلى الأمر كورطة مشتركة وقعوا فيها جميعا، وإن كان الضرر الأعظم كان من نصيبها، ولذلك فعلاقة أمل بأبيها كانت تصبح أكثر رحمة يوما بعد يوم، وعلاقتها بزوجها لم يكن فيها حقد ولا كراهية، لقد كانت واعية تماما إلى أن تصرفاتهما لم تكن تنطلق من إرادة أذيتها، وإنما من تصوراتهما المرتبكة عن كرامة المرأة وعن ما يحفظ تماسك الأسرة.

لقد نجت أمل في الرواية، وكان لنجاتها ضريبة تتصل بأن تعطى حضانة ابنتها رحمة لأبيها.

أنا هنا لا أجد موقفها أنانيا، لكنه موقف ضرورة ضمن السياق الخاص للرواية، ومع ذلك لقد كانت أمل نموذجا ممتازا في تربيتها لابنتها، كانت طريقتها حكيمة ومبصرة في بناء العلاقة معها وفي صياغة وعي رحمة ورعاية قلبها.

 

نجاة

        صوت زينب وأمل هو صوت كل امرأة أنهكها الخلط بين الدين والرأي في الدين. واضطراب الاتساق بين مفهوم الكرامة ومفهوم الطاعة.

إن جزءا مهما من العنف غير المرئي والمرئي أيضا تصنعه المفاهيم الخاطئة عن حقوق المرأة، وتحرير المفاهيم لا يحمي النساء وحدهن، بل يحمي الرجل الصالح من ظلم نفسه وأهله-كما حدث مع والد أمل وزوجها في الرواية- ويحمي المرأة من ظلم نفسها، ومن تفتت هويتها، ويحميها أيضا من ظلم الرجل، سواء قصد ذلك أم لم يقصده.

       

 

 



[1] حقوق المرأة في الإسلام نماذج من مراجعات عصرية: https://mudawala.blogspot.com/2020/03/1.html

 

الأربعاء، 16 أبريل 2025

الأمومة والجسد والإرث القديم *

 

                    

 

"انظر في مرآة الحمّام لجسدي المشوّه تماما بينما ينام ابني في سرير خشبي وضعته الممرضة في الغرفة حتى أتمكّن من إرضاعه حين يستيقظ. أحدّق في تفاصيل جسدي المشوّه وأوثّق كل شيء بكاميرا الهاتف..."[1].

هكذا رأت هنده الشناوي جسدها بعد الولادة، جسدا مشوّها عبثت به الأمومة. في تجربتي، لم يشغلني شكل جسدي بعد الولادة، كان الهم الأكبر حينها هو كيف أنجح في إرضاع ابنتي، وأنجو من نظرات كنت أشعر أنها تقيس كفاءتي كأم وكإنسانة. يبدو أن الأمومة تفجّر مناطقنا المظلمة التي نخبئ فيها قلقنا الخفي.

تدعو شيرين أبو النجا إلى تحويل الأمومة إلى مجال بحثي يرتبط بالواقع وبالتجربة المعيشة. وتقول إن تعدد سرديات الأمومة هو شكل من أشكال مواجهة العنف ضد النساء، عنف تنميط اختيارات الأم، وتقييد الحديث عن التجربة الشعورية للأمهات[2].

في تقديري أن هذا حدّ جيّد لكنه غير كاف، نعم، إن تعدد سرديّات الأمومة يرفع التباسات تقديس الأمومة، ويحجّم العنف المتعلق بالتنميط، لكن ما نحن بحاجة إليه أيضا هو أن نتبين مبادئ عامة، تشكل مرجعية كلّية لمفهوم الأمومة، مبادئ تصون الحق الإنساني للأمهات، وتتفاعل مع الواقع، وترعى احتياجاته، وترتقي به دون أن تخل بتوازنه.

 

إرث قديم

عزل الجسد عن " كينونتنا الإنسانية" هو جزء من إرث قديم، ينظر للمرأة كأداة للجنس، ويجعل الجنس هدفا مقدّسا في ذاته، والأمر لم يسلم منه الرجل أيضا، هناك رؤية كليّة ممتدة عبر الأزمان تكاد تفصل الغريزة الجنسية عن متعلّقها الإنساني، وهذه الرؤية انبثقت عنها مفاهيم مشوّهة، تحاكم الإنسان إلى الصورة المجرّدة وتجعل الصورة أساسا نصدر منه ونرد إليه في موازناتنا النفسية والاجتماعية، وامتدّ الأمر إلى تعظيم أمر الغريزة على حساب احترام الحقوق الأصلية التي عليها مدار الوجود الإنساني، فلا يعد الزواج على أساس غريزي بحت أمرا مستقبحا، وينظر للمرأة في العلاقة الزوجية على أنها جسد أولا، ويختزل الرجل رغباته الإنسانية في الغريزة ولكأنها يُكتفى بها عما سواها، في حيدة عن التوجيه القرآني:" لتسكنوا إليها"[3]، ويمتد الأمر إلى أن تكون الأم مطالبة بأن تستعيد صورة جسدها كما كان قبل الحمل والولادة، لأنها جسد أولا، ولأنه لا ينظر إلى جسدها كجزء من كينونتها الإنسانية. تطالب الأم نفسها بذلك، ويطالبها الزوج، والمجتمع.

إن ثنائية الجسد والأمومة عبث بها معرفيا ثلاثة أمور:

 أحدها: عزل الجسد عن عمقه الإنساني وذلك عبر تضخيم التركيز على الغريزة.

والثاني: تسليع جسد " الإنسان" لأهداف اقتصادية.

والأمر الثالث: هو العقلية العنصريّة في سياقها الجسدي لونا وقواما.

نحن بحاجة إلى خطاب نقدي يفكك هذه الأمور المتشابكة، والتي شكّلت رؤية كليّة مضللة نتج عنها تشيئ الجسد، وتضليل البوصلة الوجدانية والأخلاقية للرجل والمرأة معا.

هذا الخطاب النقدي لا بد أن يشتبك فيه الفقهي (رؤية وتنزيلا) مع النفسي والاجتماعي والأدبي والفنّي والتعليمي، ومن مجموع هذه المسارات تتكون ثقافة مجتمعاتنا العربية.

يسري اليوم في مجتمعاتنا عزل الجسد عن التجربة الإنسانية، واختزاله في قالب بمواصفات ثابتة، صورة يحاكم إليها الإنسان، ويؤذى بسببها من موارد عدّة غريزيّة أو تسليعيّة أو عنصرية.

 

أكثر من القبول

عندما كنت حاملا بابنتي كانت تسعدني التعليقات عن أن الحمل لم يخرّب قوامي، بل زاده اعتدالا، وبعد الولادة، لم يشغلني جسدي، فقد كنت مثقلة بهمّ أن أكون أمّا جيّدة، كان الشعور بالمسؤولية يأكل قلبي، وما إن ذقت حلاوة محبّة الأمهات بعد شهور خمسة، واقتربت مشاعري من الاتزان، صرت أفكر في الأمر من زاوية مختلفة، لم تكن واضحة حينها لكنها كانت تتفتق في روحي، وحلاوة الأمومة زادتها جلاء يوما بعد يوم. جسدي الذي عاش هذه التجربة العظيمة، تجربة الحمل والولادة، يستحق أن أحترمه كيفما تشكلت تضاريسه، جسدي ليس شيئا أحاكمه إلى معايير ثابتة، جسدي هو جزء من " كياني الإنساني"، وكما نحترم تقلبات عقولنا وأرواحنا عبر تجاربنا المتجددة، فلأجسادنا ذات الحق، يستحق جسدي وجسدك الاحترام، والاعتزاز، وأكثر من القبول؛ لأنه عبر بنا إلى وجود جديد.

تجربة الحمل ثم الولادة تستحق منظورا كليّا مختلفا يليق بها، منظورا يعترف بالتغيّرات التي تعتريها، ولا يشيئها، ولا ينزع عنها إنسانيتها، ولا فرديتها. لا تشوّه الولادة أجسادنا لكنها تخلق صورا جديدة ذاتية للجمال.

الأنوثة ليست جسدا بمواصفات معيّنة، يخرّبها الحمل، وتنتهكها الولادة والرضاعة، وإنما هي فيض داخلي يتجدد مع كل تجربة جسدية ونفسية نعبرها أو تعبرنا. 

الأنوثة موقف وجودي ، رؤية لأنفسنا، أجسادنا ، وجداننا، وطريقة تواصل مع الوجود تنبع من تجربتنا الإنسانية التي شكلتها طبيعتنا الجسدية بشكل أولي، وتجلياتها النفسية والاجتماعية، أعجبني كلام أناييس نن عن الروائيات اللاتي يتناولن الحياة العاطفية والجسدية بين الجنسين والفخ الذي يقعن فيه حين يتلبسن رؤية الرجل، ولا يحررن نظرتهن الخاصة النابعة من تجربتهن الذاتية كنساء، فيكتبن عن الجنس مثلا بروح رجل، ويتبعن أساليب الروائيين الذكور كنموذج، ولكأن ذلك يضفي على أعمالهن صفة الشجاعة، بينما الشجاعة تكمن في الأصالة           لا الجموح الذي يتوارى فيه الشعور بالضآلة أمام رؤية الرجل[4].

 

جسدي أمام المرآة

            كانت الأمومة في سنواتها الأولى حصنا لي من الحكم القاسي على جسدي، لكن هذا الحصن لم يعد منيعا بعد أن صارت طفلتي في العام الرابع من عمرها، أذكر أني ذهبت إلى مجلس الأمهات في روضتها، وهناك شعرت بارتباك هزّ دواخلي.

 الرؤية المعرفيّة التي بنيتها حول علاقتي بجسدي بعد الأمومة تغبشت، لست في القوام الرشيق الذي يملكه عدد لا بأس به من الأمهات حولي، زاد على ذلك أني كنت في بداية الأربعين من عمري وأمامي شابات لم يبلغن الثلاثين–حماهنّ الله- قلت لنفسي: أين تماسكك المعرفي،  ما الأمر؟

            لم تكن هذه هي المرة الأخيرة التي ارتبك فيها يقيني بفلسفتي حول الأمومة والجسد، لكن كانت هذه المرة التي علّمتني أن اختبار قناعاتنا في تجربتها، وأن الفكرة التي لم تُصهر بالتجربة لا يُعوّل عليها.

            لقد كنت أواجه ذاتي أولا، ذاتي التي تشرّبت قيما تشيّئ الجسد، وتحاكم المرأة – والرجل- إلى الصورة الظاهرة، ولا يكفي في إصلاح ذلك صياغة رؤية معرفية جديدة دون تضفير هذه الرؤية المعرفية بوجداننا، وهذا التضفير نصل إليه بالمحاولة المستمرة، والمعايشة المستمرة، لتغدو قناعاتنا الفكرية جزءا من وعينا الجمعي، وننقل لأطفالنا وعيا جديدا حيال الجسد الإنساني.

            لقد جرفتني أمور كثيرة عن قناعاتي المعرفية في موضوع الجسد والأمومة، ولمّا عدت إلى أماني المعرفي، عدت بروح قد علّمتها التجربة أن الزهو بالقناعات المعرفية يضللنا، وأننا نحتاج إلى التواضع لننتفع بهذه القناعات، التواضع الذي يجعلنا نرأف بتعقيدات الوجدان، الرأفة هي التي تساعدنا، وتجعل قناعاتنا تزدهر نضجا في التواصل مع أنفسنا والآخرين بكل اختلافاتهم.

أذكّر نفسي بقناعتي حول جسدي وأمومتي عبر الكتابة، أحدّث نفسي عن الطريق التي قطعها جسدي عبر الحمل، ثم الولادة، ثم صعوبات التجربة الأولى لكل ما يتعلق بأمومتي في علاقتي بذاتي وبطفلتي وبأبيها وبالآخرين، ثم صعوبات الخروج من دوري الاجتماعي كزوجة وأم، إلى أم حاضنة، ورحلة التوازن في كل ذلك، أخاطب جسدي برحمة لأساعده على السير في الطريق الذي يجعله في حال صحي أفضل، هذه هي الأولوية، وأخاطبه برحمة وأنا أذكّر نفسي وأذكّره أن حقه عليّ أن أحترمه وأعتز به، كما أحترم تجربتي النفسية وأعتز بها.

            تتبدّل أولوياتنا بحسب ظروفنا، قد تشغلنا الصعوبات النفسية عن رعاية أجسادنا كما نحب، وقد نؤجل هذه الرعاية إلى حين نكون مستعدّين لها، وقد تحول عوائق صحيّة أو اجتماعية دون الوصول بأجسادنا إلى حيث نحب أن نصل بها، وفي كل ذلك نحن بحاجة حقا للرؤية المعرفية التي تحترم التجربة الإنسانية لأجسادنا، ونحن بحاجة إلى أن نتعاطف مع أنفسنا تعاطف احترام واعتزاز، وأن نتواصل في هذا الشأن مع من تتقاطع تجربتنا مع تجربتهم ونتفق معا في الرؤية المعرفية والوعي النفسي.

العناية بالجسد هي جزء من العناية بالوجدان، يكتمل هذان الأمران ويتعاضدان، وطريق هذا الاكتمال هو الوعي والتعاطف والرحمة في علاقتنا بأجسادنا لنصل إلى تجذير وعينا بإنسانية الجسد، وذاتية تجربته.

                                                                                   

*نشرت في مجلة الجوبة الثقافية، العدد 87، إبريل 2025م



[1] مقالة:" أنا قادمة انتظروني ولا تواصلوا السير من دوني" من كتاب: معضلة الأمومة، هنده الشناوي. والكتاب يحوي عشر مقالات لمجموعة من الكاتبات، دار هن، نشر سنة 2024م.

[2] النقل بتصرّف من كتاب: " رحم العالم: أمومة عابرة للحدود"، شيرين أبو النجا، تنمية للنشر، نشر سنة 2024م. 

[3] سورة الروم: آية 21

[4] النقل بتصرف من مقالة: "نساء ورجال الغريزة الجنسية عند المرأة" من كتاب: " تقديرا للرجل الرهيف ومقالات أخرى"، أناييس نن (توفيت عام 1977م)، ترجمة: محاسن عبد القادر، دار المدى، نشر سنة 2022م.

الاثنين، 14 أبريل 2025

العنف، جذور غير مرئية

 

في المسلسل البريطاني: ADOLESCENCE يقتل طفل في الثالثة عشرة من عمره زميلته في المدرسة طعنا بعد أن سخرت من رجولته في تعليقاتها على صوره في انستغرام. تعليقات الفتاة كانت عبارة عن أيقونات تعارف مجتمع المراهقين على دلالاتها وترتبط بفكر " الحبة الحمراء" الذي يروّج له اندرو تيت والذي يجعل العلاقة بين الجنسين قوامها الصراع والتلاعب والنهم الشهواني.

يقرأ محقق الشرطة التعليقات التي كتبتها الفتاة، فلا يفهم منها إلا أنها كلام لطيف، وينبهه ولده المراهق إلى معناها وارتباطها بالأفكار المتطرفة والتي يصفها بالذكورية.

أفكار "الحبة الحمراء" لا تعزز عنف الرجال ضد النساء فحسب، بل تعزز عنفا مضادّا من النساء تجاه الرجال، والفكر الذي يغذّي فكرة الصراع والتحكّم في العلاقة بين الجنسين هو رافد لوجوه متعددة للعنف، الجسدي منها والنفسي.

 

الحوار الوجداني العميق

الطفل القاتل، ذكي ومتفوق دراسيا، ويمتلك وجها بريئا، ويتصرّف – غالبا- بهدوء ودماثة في المنزل وفي المدرسة، ولذلك فإن الأوقات القليلة التي يخرج فيها عن طوره وبشكل عنيف      لا تقلق والدته، وتعدّها استثناء لا ضرورة تستدعي التوقف عنده.

يقضي الطفل غالب وقته في غرفته أمام جهاز الكمبيوتر، ويمتثل لتعليمات والديه بعدم السهر. يشركه والده في نشاطات رياضية، ويحرص الأب على الحضور والدعم. يسأل الوالدان بعضهما هل هناك مزيد كان بإمكاننا تقديمه ولم نفعل؟ ثم يتذكران أن المعالجة النفسية قالت لهما أن الذنب ليس ذنبهما. وبينما يدفع المسلسل عن الوالدين تهمة التقصير فإنه ينبّه إلى تفاصيل غفل عنها الأبوان وكان لها دورها في تغذية نفسية العنف لدى طفلهما، ومجمع هذه التفاصيل هو غياب الحوار الوجداني العميق بين الوالدين والطفل.

من الرسائل المهمة التي يوصلها المسلسل أن مسؤولية الوالدين لا تقتصر على المعاملة الحسنة، والمتابعة للمستوى الدراسي، والتوجيه للسلوك المهذّب، والاهتمام بالهوايات، بل هناك أمر جوهري هو أن يكون الحوار الوجداني العميق ركنا أصيلا في العلاقة بين الوالدين والطفل.

يشرح الطفل القاتل للأخصائية النفسية أنه كان دائما يشعر بالخزي والضآلة عندما يشيح والده بوجهه كلّما أخفق في ملعب كرة القدم، ويتعمّق هذا الشعور بالضآلة واحتقار النفس يوما بعد يوم ليصل إلى كراهيّة الطفل لشكله ووصفه لنفسه بأنه" قبيح".

يحكي الأب عن قصة اهتمامه بأن يكون لدى طفله هواية تسعده، وعن شعوره بالأسى عندما يخفق طفله في ملعب كرة القدم، وأنه يشيح بوجهه لئلا يشعر طفله بالإحراج منه.

 ولأن الحوار الوجداني العميق غائب بين الأب وولده، فإنّ التصرّف الذي أراد الأب أن يكون مراعيا تسبّب من حيث لا يشعر في أذى عميق للطفل.

غياب الحوار الوجداني العميق كان من أسباب انعزال الطفل في عالم متطرف خاص به.

عنف غير مرئي

            تسأل الأخصائية النفسية الطفل عن والده، فيقول إنه مهتم ومراع ولم يضربه قط، تسأله هل هو عنيف، فيكرر الطفل القول بأن والده لا يضربه وأنه رغم كونه غضوبا لكن أقصى ما فعله هو تحطيم الأشياء مرّة. ثم يعرض لنا المسلسل حوارات الأب مع الزوجة، فنجد الزوج عصبي الطبع وزوجته تراعي طبعه، وتستجيب له في هدوء وود.

            ينبّه المسلسل بذكاء إلى العنف الذي يمارسه الزوج تجاه زوجته وأولاده. وأنّ اعتناق الطفل لفكر " الحبة الحمراء" الذي يجعل مدار النجاح في العلاقة بين الجنسين هو هيمنة الرجل وسيطرته على المرأة، هو امتداد منطقي لمعايشته علاقة بين أبويه تخضع فيها الأم لعصبية والده وسيطرته. لا يشعر الأب أنه عنيف ولا تشعر الأم أنّها معنّفة، فالعنف في مفهومهما يرتبط بالضرب، الذي عاهد الأب نفسه ألا يعامل به أولاده وألا يكون نسخة من والده الذي كان يضربه.

            العنف الذي يتعامل به الأب، والذي تمثل في العصبية والتحكّم، حرم الطفل من الشعور بالأمان من حيث لا يشعر لا الأب ولا الطفل، وهذا الحرمان أفضى إلى تفسير الابن لتصرّفات والده تفسيرا مشوّشا.

            العنف الذي يمارسه الأب غير مرئي لأنه غير مسمّى، نحن نحتاج إلى تسمية المعاني لنستطيع التعامل معها، ومواجهتها.

            العلاقة التي نشعر فيها بعدم الأمان بسبب تصرف الطرف الآخر، هي علاقة عنف، وهذا أمر قد يكون ملتبسا ويحتاج منّا إلى تفكيك، وأن نفهم سبب شعورنا بعدم الأمان، ونعمل على تصحيح الأمر، ومن التصحيح خلق حدود جديدة في العلاقة. الشعور بالأمان في العلاقات ليس حقا إنسانيا فحسب، بل هو حق ديني أيضا.

           

 

           

           

 

 

 

الأحد، 16 فبراير 2025

التحديق في حقيقة الموت وقراءة حول كتاب عن الأسى والتأسي*

 

ظللت طول حياتي أهرب من التفكير في الموت، موتي وموت أحبابي، واجهني الموت في أحبتي مرّات، أجدادي رجالا ونساء، بعض خالاتي وقراباتي، أبناء عمومتي، أحباب أحبّتي-رحمهم الله جميعا- لكنّي كنت أصرف عقلي عن الحضور التام، أنشغل بالدعاء والذكر والمواساة لكن كل ذلك في مستوى لا ينفذ إلى أحشائي، إلى أن اختار الله أن تغيب ابتهاج – رحمها الله -ابنة خالي عن دنيانا في إبريل 2024م وهي في التاسعة والعشرين من عمرها.

ابتهاج حاضرة في خاطري، سخية النفس واليد، ذكية، ومثابرة، خفيفة الروح، ضحكتها تشرح القلب، أنعم الله عليها بتدين أصيل غير متكلف. لقد كان آخر اجتماعي بها -حسّا - في بيت جدي، قبل أن يشتد عليها المرض الذي لم نعلم أنه كان مرض الموت. طلبت ابتهاج للجميع عشاء وحلى على حسابها، وتناقشنا حول حقوق المرأة في الإسلام، وسهرنا نشاهد مسلسلا تركيا لطيفا يتناول فكرة الانتقال عبر الزمن. ولعل هذه المقالة تكون بعض تكريم لذكراها، وسببا لدعوة صالحة تؤنسها، وثوابا ممتدا في ميزان حسناتها.

لقد ظللت أراوغ فكرة الموت، لا أسمح لنفسي بالتفكير العميق فيها، أشعر حقا أنّي لا أطيق مواجهتها، حتى رأيت ابتهاج -رحمها الله- عيانا، رأيت في وجهها معنى التماهي بين الموت والحياة، رأيت في وجهها اتحادهما، واجهت حقيقة إيماني بالحياة الآخرة؛ لأني شعرت وأنا أهمس لها في مسجّاها أنها تسمعني حقا، وأن الأمر أكبر من محدودية الجسد، الذي يؤدي دوره في زمن معيّن؛ ليغادر بعدها ويترك جوهرنا الإنساني، الروح التي هي حقيقتنا الخالصة.

تدريب وجودي

لا زلت أهرب من مواجهة التفكير في موتي إلا من حيث كونه فكرة مجرّدة، لكنّ موت ابتهاج جعل فكرة الموت حاضرة أمامي كل يوم، تشكّل جزءا مهما من بواعث قراراتي، مع شجن استقر في قلبي لا أظنه سينقضي، لقد كنت أفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم :" أكثروا ذكر هادم اللذات"[1] على أنه حثّ على الاستقامة بتذكر العاقبة: الموت، لكني اليوم صرت أفهم أن في الحديث أيضا معنى أوسع، وهو مساعدة قلوبنا على التأسي والتصبّر وربّما الرضا وكمالاته عند مواجهة مصيبة الموت في أنفسنا ومن نحب، الحديث الشريف هو تدريب وجودي يساعدنا على التماسك أمام مصيبة الموت ومقدّماتها، أو يحمينا من شتات الجزع الذي قد يسلب صاحبه تصبّر الإيمان.

 نعم، ألم الفقد هو من شؤون القلب، التي لها وقعها الخاص الذي يختلف من إنسان إلى آخر، لكن حضور المعنى أمامنا ، وتذكير أنفسنا به، يجسّر الفجوة بين العقل والقلب، فيعضد العقل القلب، وينوّر القلب العقل بنور الرحمة.

في كتاب" التحديق في الشمس" يقول إرفين د. يالوم إن فكرة الموت تنقذنا؛ لأن حضور فكرة الفناء أمامنا يجعلنا نركّز على أن نعيش حياة مسؤولة، نتحقق فيها بهويتنا القيمية، ونحيي فيها معاني الرحمة والتعاطف.

وهذا المعنى الذي ذكره د. إرفين أرى فيه تجليا آخر من تجليات الحديث الشريف" أكثروا ذكر هادم اللذات". حضور" الموت " أمامنا، هو تجربة يقظة كما يقول إرفين د. يالوم تحررنا، وترتّب دواخلنا.

 الموت والفقد والغضب

        يتصل بلاء الموت ببلاء كليّ أوسع هو بلاء الفقد والنقص، يقول الله تعالى: " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين"  ( البقرة: 155)، وينبّه كتاب" عن الأسى والتأسي" إلى أن الألم المتصل بالحزن على موت من نحب هو ألم  مركّب من مشاعر فقد متداخلة، فقد الحضور الجسدي، وفقد كل دور في حياتنا كان يقوم به من غابوا عنّا، وفقد كل معنى كان يمثله لنا حضورهم في حياتنا، ونحن نحتاج إلى أن نتوقف مع كل معنى يمثله أحبابنا لنا، وأن نعطيه حقه في الإحساس به وعدم تجاهله أو إنكاره.

وقد نقاسي الفقد في صورة مختلفة حين نختار أن نغادر زواجا أو صداقة أو جيرة ، وحينها يعترينا أسى من نوع خاص، لا نأسى على الأشخاص فنحن لا نفارق غالبا إلا بعد أن يفارقنا العشم فيهم،  لكنّنا نأسى على حسن ظننا فيهم، ونأسى على فوات العمر في علاقات استنزفت أرواحنا، وعلى بعثرة القلب ووجعه، وعلى علاقات نحبها متصلة بهم لم نعد قادرين على وصلها ، وعلى معان ارتبطت بهم قد يظهر لنا صعوبة تحصيلها مع غيرهم ، وهذا النوع من الفقد قد يشعل في القلب نار الغضب، غضب الشعور بالفوات والعجز. لقد أرشدنا الشرع الحكيم إلى الصبر والتصبّر، وحدثنا عن ثواب الصابرين، والشرع في مجمله نسيج معرفي متماسك يؤكّد على إلغاز الأقدار في حياتنا، ويطلب منّا قبول هذا الإلغاز، والتعامل معه كحقيقة مطلقة تتصل بحقيقة أن خالق الأقدار حكيم رحيم لا يُسأل عما يفعل.

الإشكال الذي يقع فيه بعضنا هو الارتباك حيال شعور الغضب الذي يتملكه، فإذا              ما شارك مشاعره بعض أهل التديّن فإنهم يشعرونه بالعار والخزي لأنه لم يتأدّب مع أقدار الله     عز وجل، ويكررون الحديث عن الصبر، ويتوهمون أن الصبر إنما يكون على مشاعر الألم وحدها؛ لأنها في تصورهم هي المشاعر الوحيدة التي ترتبط بألم الفقد ( موتا أو مفارقة، حسّا أو معنى )، وقد نبّه الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين إلى ارتباط الغضب بألم الفقد[2]، وإلى أن الصبر رحلة مستمرة يذكّر المسلم فيها نفسه بثواب الصبر، وحتميّة الموت، ورحمة الرحمن، وأن اللقاء آت ولو بعد حين؛ لينتقل المسلم بالتصبّر إلى الترقي في منازل الصبر ثم الرضا.

 ويتدرّج المسلم في مكابدة الألم وما يتصل به من مشاعر الغضب أو الرغبة في الانعزال أو الاكتئاب إلى أن يصل إلى التعايش مع الألم تعايشا يتجاور فيه الألم مع سائر المشاعر التي تعترينا ونحن نتقلّب في معايشنا وعلاقاتنا وحياتنا.

ونجد في كتاب الفروق للإمام القرافي تنبيها نفيسا إلى الفرق بين الرضا بالقضاء وعدم الرضا بالمقضي به،  فيذكر أن الرضا بالقضاء فرض وهو شرط إيمان، وهذا لا يستلزم أن يشعر المؤمن أنه راض بالمقضي، قال الإمام القرافي: والفرق بين القضاء والمقضي، والقدر والمقدور، أن الطبيب إذا وصف للعليل دواء مرّا أو قطع يده المتآكلة ، فإن قال المريض: بئس ترتيب الطبيب ومعالجته، فهو تسخط بقضاء الطبيب وأذيّة له، وإن قال هذا دواء مرّ قاسيت منه شدائد ، وقطع اليد حصل لي منها آلام عظيمة مبرحة، فهذا تسخط بالمقضي الذي هو الدواء والقطع لا القضاء الذي هو ترتيب الطبيب ومعالجته فهذا ليس قدحا في الطبيب. فنحن مأمورون بالرضا بالقضاء ولا نتعرّض لجهة ربنا إلا بالإجلال والتعظيم، ولا نعترض على عليه في ملكه [3]، وهو القادر الحكيم الرحيم.

إن الصبر على مصيبة الفقد، هو رحلة لتقبّل المقضي به، وهو أمر منفصل عن تسليم المؤمن لربّه بقضائه وأنّه سبحانه قادر حكيم.

 فإذا وردت على القلب واردات التحيّر والغضب، ذكّر الإنسان نفسه بأن التسليم هو مدار الإيمان، وأن الله لا يقضي في ملكه إلا الحكمة، ظهرت لنا هذه الحكمة أم لم تظهر، فيصحح المؤمن متعلّق مشاعره، يعترف بالمشاعر التي تنهكه وصلتها بالمقضي أو الابتلاء الذي قدّره الله عليه، وأن هذه المشاعر من عدم الرضا بالمقضي هي جزء من طبيعته الإنسانية، لا يلام عليها،  ويذكّر نفسه بموقفه الإيماني من القدر، وأن إيمانه بقدرة الله لا ينفك عن إيمانه بحكمته ورحمته،  ويكون الفرق بين الرضا بالقضاء والرضا بالمقضي حاضرا في قلبه؛ فإذا تحرر له الفهم، واستقام، قطع طريق التصبّر على بصيرة.

لدينا هنا إذن منزلة ثابتة يشترك فيها أهل الصبر مع أهل الرضا وهي منزلة الرضا بالقضاء، ثم يفارق أهل الصبر أهل الرضا في أن أهل الرضا يقبلون الألم قبولا تامّا بحيث لا يتمنّى أحدهم غير ما هو عليه من شدّة ورخاء[4]، وهذه منزلة غير واجبة، لكن أهل الصبر يكابدون مشاعر الألم بكل تجلياتها من غضب ونحوه، ويتدرجون في منازل الصبر إلى أن يفضي بهم التصبّر إلى التعايش السلس مع الألم.

أسى شخصي

اختتم كل من إليزابيث كوبلر روس وديفيد كيسلر كتاب " عن الأسى والتأسّي" بصفحات عن ذكر الأسى الشخصي لكل منهما، وشكر مترجم الكتاب شادي عبد العزيز في آخر صفحة من الكتاب أصدقاءه في سطور ذكر فيها أن ترجمة هذا الكتاب هو نتيجة رحلة لفهم أساه الشخصي، وأن النجاة الفرديّة ثبت أنها مستحيلة، واحترمت هذه المزاوجة بين الشخصي والعام؛ لأن الحديث عن الموت هو مسألة شخصية أولا. يقع كتاب " عن الأسى والتأسي" في 279 صفحة، وهو من إصدارات "ديوان" في عام 2024م ، ونشر الكتاب بالإنجليزية لأول مرة في عام 2005م .

"عن الأسى والتأسي" كتاب يعلّمنا كيف نتصبّر، يشرح الكتاب المشاعر التي يمر بها من أصابته مصيبة الفقد، ويذكر لنا أن هذه المشاعر تمر غالبا في خمس مراحل: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والتقبّل. وينبّه على أن هذه المراحل الخمس ليس القصد منها حشر العواطف الفوضوية في أطر أنيقة، وإنما هي أدوات لمساعدتنا على تأطير ما قد نشعر به، والتعرّف عليه، لكنها ليست محطات ضمن مسار زمني خطّي للأسى، فلكل إنسان أساه الخاص به، وسيرورة هذا الأسى تختلف من إنسان إلى آخر، وهذه المراحل إنما هي أشبه بتضاريس للأسى تساعدنا على أن نكون أكثر جاهزيّة للتأقلم مع الحياة والفقد.

في سعينا للتعامل مع ألم الفقد، قد تأخذنا مشتتات (الإنكار، والغضب، والمساومة) لتجنبنا الانغماس في الحزن – الاكتئاب، يقول المؤلفان عن الاكتئاب: " فهو يبطئنا، ويسمح لنا أن نتأمل الفقد حقا، وهو يجعلنا نعيد بناء أنفسنا ... ويصحبنا إلى مكان أعمق في روحنا ليس من عادتنا اكتشافه".

استوقفني حديث الكتاب عن مرحلة الغضب، وأن شعور الغضب غالبا ما يكون مرتبطا بمشاعر أعمق من شعور الفقد، وأن تجاوز الغضب قد يحتاج إلى رحلة تتصل باكتشاف " علّة" قديمة في النفس، فإذا داوينا هذه العلّة، هدأت النفس، وسكنت: " إذا تتبعت مشاعرك إلى أصولها ستجد إحساسا بخطأ ما يصاحبك طيلة عمرك، وقد يتيح الأسى لك الفرصة لتعاف أكبر بكثير".

 يشرح لنا الكتاب كيف نتعامل مع كل مرحلة من هذه المراحل، لنصل إلى التقبّل، وفيه لا ننكر مشاعرنا، بل ننصت إلى احتياجاتنا: نتحرك ونتغير وننمو، وربما لا ينطوي الوصول إلى التقبّل إلا على أن تكون أيامنا الطيبة أكثر من أيامنا السيئة. في التقبّل نجد العزاء في خضم الألم، ويظل الألم حاضرا مع بقيّة مشاعرنا، يجاورها، جيرة تزكية ورشد أو يقظة كما يعبّر إرفين د. يالوم.

الأطفال والتأسي

        حكى معالج نفسي متخصص في الأسى عن جانيس التي يبلغ عمرها سبع سنوات، والتي توفيت أمها بالسرطان، أن حزنها لم يفارقها رغم مرور السنوات، وكلما سألها أحد: لماذا أنت حزينة إلى هذه الدرجة؟ قالت: أمي ماتت. وكان ذلك سببا كافيا لدى أغلب الناس، وأبيها، الذي اعتقد أنها ستتجاوز ألمها مع مرور الوقت.

        وفي الصف الأول ثانوي، وعندما كان المعلم يتحدث في درس مادة الفلك عن النجوم التي تشكّل كوكبة السرطان، بدأت جانيس تدمع، لاحظ المدرس ذلك ، وسأل جانيس عن بكائها بعد انتهاء الدرس فقالت: أنا من مواليد برج السرطان وأمي ماتت بسببي.

        لقد عاشت جانيس ثمانية سنوات وهي محمّلة بعب ذنب غير عقلاني.

        ينبّهنا الكتاب إلى أهمية ألاّ ننسى ونحن في خضم الأسى أن نتحدّث مع أطفالنا عن تجربة الفقد التي يمرّون بها معنا، وكما نمضي وقتا كبيرا في تعليم أطفالنا شؤون الحياة فلا ينبغي أن نغفل أن نعلمهم شؤون الموت.

        يذكر الكتاب عدة أمثلة تتناول هذا الموضوع، لكنّي لا أجدها كافية، كيف أتحدث مع ابنتي في الثانية عشرة عن موضوع الموت، كيف أفعل ذلك بدون أن أثير فزعها، ربما يكون الطريق عبر التحدث عن جدّها لأبيها رحمه الله، ما أريد أن أقوله هنا هو أننا بحاجة إلى عالم نفس مسلم بصير يشرح لنا كأمهات وكآباء كيف نحدّث أطفالنا عن الموت وشؤونه.

        في معرض الكتاب في جدّة في ديسمبر2024م طفت بين دور النشر المتخصصة بأدب الطفل، أبحث عن كتب تتناول قضيّة الفقد، ووجدت كتبا تتناول الفقد بعد حدوثه لا قبله، هل تعد كافية في تناول الموضوع؟ لا أظن.

تناولت هذه الكتب مسألة الفقد في قالب قصصي، وحظيت بإخراج جيّد وبعضه فاخر، والقصّة التي اشتريتها لابنتي إذ وجدت أنها تناولت الموضوع بذكاء وعمق أكثر من غيرها، هي قصة: أنا والوحش، تأليف: عائشة الحارثي وهي كاتبة عمانية، ورسوم: براء العاوور، ونشرتها في إخراج فاخر دار أشجار الإمارتية.

 

كيف نساعد؟

        يقص علينا كتاب:" عن الأسى والتأسّي" حكاية امرأة كانت تبكي في مكالمة هاتفية مع والديها بعد أن فقدت زوجها. وعندما سمعت الأم نحيبها، قالت: علينا أن ننهي المكالمة الآن. ولحسن الحظ، هرع الأب إليها قائلا: لا، سأظل على الخط، حتى لو ظلّت تبكي.

        وردت هذه الحكاية في سياق الحديث عن أن " البكاء في العلن" هو مسألة ثقافية، وأن المجتمع الغربي يعد الدموع ضعفا، والوجه الجامد قوة.

        في نموذجنا المعرفي، يعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البكاء علنا هو من علامات رحمة القلب، يروي أنس بن مالك رضي الله عنه: " ...ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف إنها رحمة"[5]

        نرتبك أحيانا أمام بكاء أحبتنا، وقد يكون ما يحتاجونه منّا هو أن يشعروا أننا مستعدّون لمجالستهم صامتين وأننا نرحّب بذلك، ولا يثقلنا أن نشاركهم أوقات الحزن ولا صمته، وأن الوقت الذي يمضي معهم هو تعبير صادق عن محبتنا لهم، ومساندة منّا هي واجب علينا لا منّة فيها    ولا تفضّل.

        قد يساعد تشجيع أحبتنا على التحدث على أن ينظموا مشاعرهم، وربما تواسيهم كلمة حكيمة يوفقنا الله إليها، نحن لا نعلم ذلك إن لم نسألهم، خوفنا من أن " نزيد ألمهم " يجعلنا نتجاهل أي حديث معهم عنه، ونغفل أن ألم الفقد لا يغادرهم، ولا يزيده سؤالنا، نحن فقط بحاجة إلى أن نتعرّف على ما يحتاجه منّا أحبابنا، وألا نفرض عليهم طريقة مقولبة للتعامل مع أساهم، ربما يناسبهم الصمت معنا والحديث مع غيرنا، وربما يناسبهم أن نقول لهم إننا نذكر من فقدناه بالدعاء ونتصدق عنه ونذكّر أنفسنا بالأوقات الطيبة معه فندعو له.

        لقد قصّرت مع كثير ممن أحبهم؛ لأني لم يكن لديّ هذا الوعي بهذه الطريقة من طرق المواساة والتعاضد، وتعلّمت من كتاب:" عن الأسى والتأسي" أن الحديث الحكيم عن الفقد يساعد ولا يؤذي.

        ونبهني إرفين د. يالوم في كتابه " التحديق في الشمس" إلى أن المواساة فعل "محدود" رغم أهمية أن يكون مستمرّا مع من نحبهم، نحن أحيانا نفتقر إلى التواضع عندما نعتقد أن المواساة كافية للتحرير من الألم، وفي المقابل فإن من يمر بتجربة الفقد قد تلتبس عليه مشاعره، فيشعر أنه لا يرتوي من مواساة؛ لعجز فيه، وحقيقة الأمر هو أن ألم الفقد ليس مرضا لنرتجي الشفاء منه، إنه شعور أصيل لا يفارق شعورنا بمحبة من فقدناهم، وأعلى ما نرتجيه في التعامل مع ألم الفقد هو تقبّله جارا طيبا ومنقذا ومحرّرا.

يتحدّث إرفين د. يالوم عن رحلته العلاجية مع أرملة تبلغ الستين من عمرها، يقول: " فقد فهمَت... حدود ما يمكنها الحصول عليه من الآخرين. ومع أن التواصل يخفف الألم، فإنه            لا يستطيع أن يكبت الجوانب الأكثر إيلاما في الحالة الإنسانية. وقد اكتسبَت قوّة من هذه الفكرة، القوة التي يمكنها أن تحملها معها إلى أي مكان تختار أن تعيش فيه. " .

        في الكتاب تفاصيل كثيرة تعلّمنا كيف نستعد لتقلبات الأقدار، وتساعدنا لنفهم ما قد يمر به أحبتنا من أطياف مشاعر الفقد، وتساعدنا لكيلا نؤذيهم من حيث لا نشعر، وقد تعلمت أننا نحتاج أحيانا إلى أن نتعلّم كيف نكون رحماء، وهذا الكتاب فيه رحمة وحكمة.

                                                        حرر في: 10 نوفمبر 2024م

* نشرت المقالة في مجلة الجوبة العدد86 في غرة شعبان 1446هـ الموافق 31 يناير2025م

 



[1] رواه الترمذي.

[2] إحياء علوم الدين ، كتاب الصبر، مج 7/ ص226.

[3] الفروق، قاعدة الفرق بين الرضا بالقضاء وبين قاعدة عدم الرضا بالمقضي، مج3-4، ج4، ص228.

[4] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، شرح الحديث التاسع عشر ، ص 211.

[5] رواه البخاري.